العالم ينسى الصين سنوات ثم يتذكرها، مثل جزيرة وصفها المسعودي في القرن العاشر للميلاد، تغيب الصين ردحاً ثم تبين. في السنة الأخيرة من القرن العشرين أصابت نوبل الآداب الصين. كانت هذه المرة الأولى. في حفل تسلم الجائزة 915 ألف دولار تحدث غاو كسينغيان عن "قضية الأدب" طويلاً. الصيني المولود سنة 1940 لعب بينغ بونغ مع الأكاديمية السويدية. الأكاديمية قدمت في بيان منحه الجائزة تحليلاً ثاقباً 25 سطراً لروايته "جبل الروح" 1990. وهو، في المقابل، ربط انجازه الأدبي الخاص بانجازات أخرى. سمّى التشيكي فرانز كافكا 1883 - 1924 وسمّى البرتغالي فرناندو بسِّوا 1888 - 1935. لم يفعل هذا عبثاً. الاثنان كتبا في حديث داخلي مع الروح لا علاقة له بعالم النشر واستهلاك الكتب. وهذا طموح غاو كسينغيان. في "جبل الروح" 81 فصلاً، وأكثر من 500 صفحة يتجول الراوي في أنحاء الريف الصيني ويكتب وصفاً للطبيعة والناس. رواية هي كتاب رحلات في الوقت نفسه. يكتب كسينغيان عن الصين وعن حياته. رحلته في الصين محاولة لاستعادة الزمن الضائع. البحث عن طفولة مفقودة وعالم ضاع مع الثورة ومع تعاقب السنوات. تجري أحداث الرواية على مستويين. الأول مستوى الرحلة في الجغرافيا الطبيعية. والثاني مستوى ذكريات ومغامرات غرامية تشبه قصصاً قصيرة أو ربما فصولاً في مسرحيات. رجل وامرأة في غرفة، ومطر يهطل في الخارج. الاحتمالات لا تحصى. العلاقة بين اثنين. وقلق الواحد المفرد. والتوتر النفسي. يكتب غاو كسينغيان الأحاسيس ببراعة. وفي هذا ما يفسر مديحه لفرناندو بسِّوا. غابات العزلة التي وصفها بسّوا في "كتاب اللادعة" نجدها في الصين أيضاً. يضيع الراوي في غابة، أو عند سفح جبل. يضيع في الضباب أو في ظلام لا يسبر غوره. أحوال ميتافيزيقية تردنا الى "تاوتي تشينغ" كتاب التاو القديم المقدس. ظلمات فوق ظلمات. والراوي الباحث عن "جبل الروح" يعاني فزعاً هائلاً. وصف حيرته في الظلام يتكرر في مرايا نصوص أخرى. "جوع" كنات هامسون المكتوبة سنة 1890، أو يوميات كافكا سنة 1913. كأننا نقرأ نصاً واحداً يُكتب الى ما لا نهاية في أزمنة مختلفة وبواسطة أشخاص كثيرين. الصين هي العالم أيضاً. مسرح الواقع والخيال في آن معاً. أوصى كافكا أن تحرق مخطوطاته بعد موته. صديقه ماكس برود لم ينفذ الوصية. سنة 1936 ظهرت مجموعة من أقاصيص كافكا غير المكتملة، بينها "سور الصين العظيم". الراوي في "سور الصين العظيم" يصف بناء السور. الهدف منع الهجمات الشمالية. الثقوب في السور تهدده. والراوي، الصيني الجنوبي، يتحدث عن مخاوفه. سنة 1950 كتب خورخيه لويس بورخيس 1899 - 1986 مقالة في ثلاث صفحات تتفوق على نص كافكا بما تثيره من أفكار وأسئلة. عنوان المقالة "السور والكتب"، وتكشف - كما نصوص بورخيس جميعها - أكثر من حقيقة خيالية غير تاريخية. الجملة الأولى خير دليل على المقصود: "قرأت قبل فترة غير طويلة ان الرجل الذي أمر ببناء السور الصيني - اللانهائي تقريباً - كان الامبراطور الأول شي هوانغ تي، الذي أمر أيضاً بحرق جميع الكتب التي كتبت قبل زمانه". لماذا أقدم الامبراطور على هذين العملين؟ يسأل بورخيس نفسه، ثم يقدم مجموعة أجوبة. الجواب الأشد تميزاً هو: بنى الامبراطور سوراً حول الامبراطورية كي يمنع الموت من الدخول اليها، كي يربح الحياة الأبدية. وللسبب ذاته أحرق الكتب: كي يبدأ الزمن به، كي يكون الامبراطور الأول. بورخيس يستخدم باسكال كي يثبت وجهة نظره. كافكا يكتفي بمخيلته. غاو كسينغيان يمزج فن الرحلة بمسرح خيالي مبتكر. الحوارات بين الرجل والمرأة تجد بؤرة توليد في الصراع بين الجنسين، كما في الصراع بين الفرد والعالم. لكن الجديد هنا هو اللغة الثرية والصورة الشعرية الفريدة. غاو كسينغيان رسام أولاً. تتوالى اللوحات مكتوبة في كتابه لتذكرنا انه - قبل نوبل - جنى لقمة العيش من بيع لوحاته المرسومة بالحبر الصيني، ما لم نرَه من قبل تلك الغابات والسهول والجبال يظهر أمامنا ونحن نقلب الصفحات. ما لا يُرى، يُرى. ليس الطبيعة فقط، لكن القرى والمدن أيضاً. سنة 1982 استعاد الايطالي ايتالو كالفينو رحلات سلفه ماركو بولو. الروائي الايطالي استخدم نصاً طويلاً من القرون الوسطى ليكتب "مدن غير مرئية"، رواية عن مدن صينية وغير صينية، مدن خيالية هي رسوم زيتية وحالات نفسية واستعارات في آنٍ معاً. ذهب كالفينو في كتابه الى الصين لأنها بعيدة ولأن كل شيء يمكن أن يحدث، ان يوجد، في "البعيد البعيد" سفر الجامعة. بول أوستر الاميركي أدرك هذا جيداً في ختام روايته القصيرة "الأشباح": "... لكن القصة لم تنته. لا تزال هناك اللحظة الأخيرة وهي لن تحل إلا بعد أن يغادر بلو الغرفة... ليس من المهم الى أين يمضي، عقب ذلك... وأنا أفضل أن أحسب انه مضى بعيداً، استقل قطاراً، في ذلك الصباح، ومضى الى الغرب، ليبدأ حياة جديدة، بل من الممكن أن لا تكون اميركا نهاية الأمر بالنسبة اليه، ففي أحلامي السرية أحب أن أفكر في بلو وهو يحجز بطاقة للسفر بحراً، ويبحر بسفينة ما الى الصين، لتكن الصين، إذاً، وسندع الأمر عند ذلك الحد، فالآن ينهض بلو من مقعده ويعتمر قبعته ويخرج من الباب...". يُعطى بلو في ختام "الأشباح" فرصة للبدء من جديد. الصين هنا تشبه فيينا في روايات جون ايرفينغ، أو افريقيا في بعض أعمال أرنست همنغواي. انها المكان الخيالي، لحظة بين النوم واليقظة كما في يوميات بسّوا وقصائده. في رواية تسبق "الأشباح" مباشرة، رواية "مدينة الزجاج" 1986 كان أوستر جعل بطله كوين يقرأ "رحلات ماركو بولو" قبل أن ينطلق في مغامرة حوّلته الى انسان آخر. يقرأ كوين مقدمة "الرحلات" وكل من يقرأ هذا الكتاب عليه أن يفعل ذلك بكامل الثقة لأنه لا يضم شيئاً إلا الحقيقة ويقلب "هذه التأكيدات الهشة في ذهنه" قبل أن يرن الهاتف وتبدأ المغامرة. الرحيل الى الصين حلم موجود أيضاً في قصة قصيرة لسالنجر كما في روايته الشهيرة "الحارس في حقل الشوفان" 1952، يحلم هولدن بالسفر الى الصين لأن كل شيء مسموح هناك. الصين هي عالم المخيلة، والرغبات. المؤرخون العرب القدامى، وكُتاب العجائب، وصفوا مخلوقات خيالية كثيرة، تعيش في الامبراطورية الصفراء. انها نصوص تقارن مع نصوص ماركو بولو، ومع حكايات يسمعها كسينغيان من الفلاحين أو من حراس المحميات الطبيعية. بين الفلاحين الصينيين في ثمانينات القرن العشرين، من يؤمن بوجود السمندل. هذا الحيوان الخُرافي الذي وصفه الدميري المتوفى سنة 1405 ميلادية. كتب الدميري في "حياة الحيوان الكبرى": "السمندل طائر يأكل البيش وهو نبت بأرض الصين يؤكل وهو أخضر بتلك البلاد، فإذا يبس كان قوتاً لهم ولم يضرهم فإذا بعد عن الصين ولو مئة ذراع واكله آكل مات من ساعته... ومن عجيب أمر السمندل استلذاذه بالنار ومكثه فيها. واذا اتسخ جلده لا يُغسل إلا بالنار... والسمندل دابة دون الثعلب، خلنجية اللون حمراء العين، ذات ذنب طويل. ينسج من وبرها مناديل اذا اتسخت القيت في النار فتنصلح ولا تحترق. وزعم آخرون ان السمندل طائر... يبيض ويفرخ في النار، وهو بالخاصية لا تؤثر فيه النار. ويعمل من ريشه مناديل تحمل الى بلاد الشام فاذا اتسخ بعضها طرح في النار فتأكل النار وسخه الذي عليه ولا يحترق المنديل. قال ابن خلكان: لقد رأيت منه قطعة ثخينة منسوجة على هيئة حزام الدابة في طوله وعرضه فجعلوها في النار فما عملت فيها شيئاً فغمسوا أحد جوانبها في الزيت ثم تركوه على فتيلة السراج، فاشتعل وبقي زماناً طويلاً مشتعلاً تث أطفأوه فإذا هو على حاله ما تغير... وقال القزويني: السمندل نوع من الفأر يدخل النار...". وقبل الدميري، كتب القزويني ابن القرن الثالث عشر للميلاد، في "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" عن حيوانات عجيبة موجودة في الصين. وأخذ عن الغرناطي أبو حامد الأندلسي خبر الرخ، ذلك الطائر الضخم الذي يرف فوق المراكب في بحر الصين فيغطيها بظل جناحه. "قال وقد كان وصل الى أرض المغرب رجل من التجار ممن سافر الى الصين وأقام بها مدة، وكان عنده أصل ريشة من جناح الرخ كانت تسع قربة ماء". وهو خبر أثبته الدميري أيضاً. ونقله الجاحظ وياقوت الرومي. وشكّل مغامرة من مغامرات السندباد في "ألف ليلة وليلة". ماركو بولو أيضاً يذكر الرخ في وصفه لغرائب الصين. الرجل مولع بكل غريب: من الثروات الطبيعية الى طبائع البشر. معه تبدو الصين مكاناً خيالياً بامتياز. هذا دفع فرانسيس وود، مسؤولة القسم الصيني في المكتبة البريطانية، الى تأليف كتاب صغير بعنوان: "هل رحل ماركو بولو الى الصين حقاً؟" تشكك وود ببولو ورحلاته وتتساءل كيف لم يصف السور، بل كيف لم يصف الشاي؟ في الفصل السابع والثلاثين من "رحلات ماركو بولو" الجزء الثاني نقرأ عن الحيوانات الضارية في هضبة التيبت، وعن الحيوانات التي تنتج المسك من "بثرة مملوءة بالدم قرب السرة"، وعن التبر الموجود "بمقادير ضخمة جداً"، وعن سحرة يجعلون "العواصف تهب مصحوبة بوميض البرق والصواعق"، وعن "كلاب بحجم الحمير". في هذه البلاد الباردة، وبعد سبعة قرون من رحلة ماركو بولو، نرى غاو كسينغيان أو الراوي في "جبل الروح" جالساً في كوخ صغير يشرب شاياً أمام نار صغيرة ويفكر في حياته. يفكر في هربه من بكين . يفكر في مطاردة السلطات الخفية له. ويفكر في الغابات الصينية التي تتضاءل مساحاتها. قبل ذلك يلتقي الكاتب الباحث عن الأغاني القديمة رجلاً مقطوع اليد يروي له قصة مذهلة. ثعبان عض يده، وكان عليه أن يقطع يده بنفسه، بفأس لامعة. يروي كسينغيان القصة بجملة بارعة، ويخلق جواً من التحدي بين الفلاح الذي يروي قصته والكاتب الذي يعتبر نفسه "أذكى" من الفلاح، لينتهي الفلاح منتصراً. الكاتب غريب وأجنبي في هذه الحكاية. وطريقته في النظر الى الفلاح الصيني لا تذكر ببيرل باك بقدر ما تذكر باندريه مالرو. لكن كسينغيان يربح الجولة حين يدع الفلاح يهزمه في الشطرنج الخيالي الذي يلعبانه. انه يتقن اللعبة المسرحية. وهذه اللحظات من التوتر والتشنج تشبه غرامياته في الفصول القصيرة الأخرى. الذكاء في الحوار يردنا الى كتاب كالفينو. ماركو بولو محدثاً قوبلاي خان. في أطلس العالم يرى مدن الصين ويرى نيويورك أيضاً. تتمدد الصين خيالياً حتى تحتوي العالم كله. في الفصل السادس والخمسين من "جبل الروح" يتحول الراوي عرافاً يقرأ خطوط اليد. ألعاب دون جوان. امرأة بكف مرتجفة تجلس أمامه. وهو يخبرها حياتها. يكتب مستقبلها بينما يتكلم. قوة الكلمات التي خبرها هاملت. كأنها يضعها عند تقاطع طرق. كما حدث له ذات مساء في البرية. مشهد توراتي. التقى غريباً في درب مقطوعة وجلسا على صخرتين في خوف من الآخر. يتغرب بطل "جبل الروح" في انحاء الصين كأبطال التوراة في أرض كنعان وخارجها. انها غربة الكائن في الأرض. ولهذا يتماهى النص مع نصوص كثيرة. كسينغيان يدرك هذا. وهذا الادراك دفعه بعد الانتهاء من "جبل الروح" الى كتابة مقال عن الأدب وعن "النظرة الباردة" التي تصنع شعر الكتابة. الرواية ذاتها، "جبل الروح" المكتوبة بين بكينوباريس، بين 1982 و1989 هي خير دليل ابداعي الى نظريته. الاسم الآخر للنظرة الباردة هو الفن الحقيقي. القدرة على الرسم بالكلمات. لا رسم مشاهد الطبيعة، أو مناظر المدن فقط، ولكن العلاقات والأحاسيس أيضاً. هذا الأسلوب في الكتابة نجده في بعض أجمل الروايات المكتوبة في القرن العشرين. ونجده أيضاً في القصص القديم. التوراة مثلاً، أو المهابهاراتا، أو "الحكايات الخرافية للأخوين غريم". في كتاب كسينغيان الواقع يتطابق مع الخيال، والصين مسرح هذا الانجاز. الغرام السويدي بالصين ليس جديداً. على رغم ان نوبل لم تذهب الى الصين من قبل. لكن من يتذكر بيرل باك؟ الاميركية صاحبة "الأرض الطيبة" 1931، أشهر رواية عن الصين في النصف الأول من القرن العشرين. ألم تكن هذه "الرواية الصينية" سبباً أساسياً في حصول باك على الجائزة؟ اندريه مالرو 1901 - 1976 كتب عن الصين في "قدر الانسان" 1933 لكن ما يبقى من ذلك الكتاب، اذا تجاوزنا المعارك، لا يتجاوز حفنة صور. عجوز يدخن الأفيون مثلاً، أو سهل يابس. في المقابل تمكنت بيرل باك حاملة نوبل الآداب 1938 ان تصور الصين بثراء حياتها الريفية. الأكاديمية ذكرت أيضاً البعد الملحمي لكتابتها، والاسلوب الغنائي. أوصاف استخدمتها الاكاديمية ذاتها قبل ذلك ب18 سنة، حين منحت كنات هامسون النروجي نوبل الآداب 1920، مع تنويه طويل بروايته "نمو التراب" عمل في جزءين يدور حول ثيمة باك نفسها: الانسان والأرض. في "مدن غير مرئية" يجلس ماركو بولو قبالة قوبلاي خان ويستمع الى كلمات الامبرطور تصور له منحدراً مغطى بالعشب، ومطراً يهطل على الأرض، ورائحة أفيال تتصاعد مع التراب. كالفينو كتب هذا النص في روما في مطلع سبعينات القرن العشرين. قبله بسبعة قرون، في نهايات القرن الثالث عشر، كان ماركو بولو يتجول في أنحاء مدينة صينية تطفو فوق قنوات مائية، مدينة تشبه البندقية، مدينته. بولو في الصين يصف مدينة ايطالية. كالفينو في ايطاليا يصف مدينة صينية. ألا يشبه ذلك غوستاف فلوبير في باريس يصف قرطاجة؟ أو باتريك ساسكند في ميونيخ يكتب عن باريس؟ البحث عن عالم خيالي. ذلك ما يصنعه هؤلاء. غاو كسينغيان ترك بكين الى أرياف الصين بحثاً عن عالم مفقود. الطرق أخذته الى أوروبا. يمكنه الآن أن يضيع بين الحشود في أي مكان يختاره، ما يبقى هو الرواية. جبل الروح، أو الصين، امبراطورية الخيال... * كاتب لبناني من أسرة "الحياة".