قبل سنوات بعيدة كتب شيئاً يحمل العنوان ذاته. محطة كلدا للسكة الحديد. أو: مذكرات محطة كلدا للسكة الحديد. لم يعد يذكر لأن الزمن يقضم قطعاً من ذاكرته. هكذا الزمن. ثم أن اشياء كثيرة مرت منذ ذلك الوقت. حرب أو حربان أو أكثر، بين أشياء أخرى. لهذا يقدر ان ينسى تفاصيل. لكنه في ذلك الوقت البعيد لم يكتب هذا الذي يكتبه الآن. أم ان الزمن يدور في حلقات الى ما لا نهاية، وهو لا يعلم؟ كتب كافكا عن محطة كلدا في آب (اغسطس) 1914. كان هذا النص الغريب الخيالي رده المباشر على اندلاع الحرب العالمية الأولى. للدقة كان رده ثلاثياً. بدأ مع هذا النص (مذكرات محطة كلدا للسكة الحديد) نصين آخرين، أحدهما «المحكمة». للأسف أعاقت «المحكمة» متابعة كافكا لنصه عن محطة كلدا، هذا النص الباقي بلا تتمة في يومياته والذي يسميه «القصة الروسية». ذلك ان محطة كلدا بحسب كافكا تقع في سهوب روسيا (إذا بحثت لا تجد بلدة تدعى Kalda في روسيا ولكنك تجدها في ايسلندا. وتجد Kalka في الهند - بالكاف - وهذه يعبرها القطار). ثمة كاتب يفضل ان يكتب اسم المحطة هكذا: كالدا. كي يتوازى مع اسم المؤلف: كافكا. وهذا صحيح إذا رجعنا الى الاسم كما كُتب بلغات أوروبا. لو أن كافكا أكمل هذا النص! لو انه أعطاه الأولوية وحذف «المحكمة» جانباً. يصاب الراوي بسعال شديد، وبعد السعال تأتي الحمى وتنهكه، لذلك يقرر ان يترك المحطة المنعزلة في السهوب وأن يلجأ الى بلدة كلدا القريبة للنقاهة. في هذه النقطة ينقطع النص القصير (نحو سبع صفحات). ماذا سيحدث للراوي في البلدة المذكورة؟ وماذا سيفعل عند رجوعه الى المحطة التي يحرسها؟ يستطيع القارئ الرجوع الى يوميات كافكا في ترجمتها الإنكليزية الصادرة قبل نصف قرن تقريباً... عندئذ قد يتأكد من النص الثالث الذي بدأ كافكا تدوينه آنذاك. لعله «مستعمرة العقاب». القديس أوغسطين ذاكرته ثاقبة. فيها أقبية ودهاليز تعلوها قصور. بورخيس فكر فيه وهو يكتب «ذاكرة شكسبير». فكّر فيه وهو يكتب «الخالد» ايضاً. هناك خيط يصل هذه النصوص بنص آخر: «سور الصين العظيم». ومن هذا خرج الأسلوب المبتكر لنص بورخيس «مكتبة بابل». إذا مرت القرون وعثر قارئ على النصين الأخيرين في مكتبة منسية في إحدى الضواحي (خارج مدينة أوروبية بادت بعاصفة ذرية)، هل يظن ان كاتبهما واحد؟ القطار لا يسلك سكة الحديد الذاهبة الى كلدا. يأتي مرة أو مرتين لكن هذا قليل ولا يكفي كي تبقى السكة. المشروع برمته (السكة) فاشل تجارياً. هذه المنطقة تحتاج الى طرقات لا الى سكة حديد. كل حمولة القطار تحملها عربة واحدة يجرها بغل. وركاب القطار فلاحون يتعلقون به أو يقفزون إليه ولا يدفعون ثمن التذكرة. المحاسب الذي يأتي مع القطار ويجلس في الكوخ مع الراوي كي يدفأ امام وجاق الحطب المطفأ يعرف ان المشروع فاشل وأن السكة ستتوقف قريباً. في هذه الأثناء يشرب مع الراوي ويتكلمان. لماذا يجذب هذا النص القارئ؟ لا يمنحنا كافكا معلومات كثيرة عن بطل قصته. الراوي ذاته يحجب التفاصيل لكن القليل الذي يبوح به يكفي كي يتعلق القارئ بكلماته. أسلوبه البارع في القص يتضح من الجملة الأولى. يجوز ان تكون هذه الصفحات أجمل ما كتبه كافكا في حياته القصيرة. مات عن أربعين سنة وكلما قرأ أحدنا يومياته شعر به جالساً جنبه على الكنبة، يبتسم. هل وجهه حزين؟ لماذا يكون حزيناً؟ في 1914 لم يكن يعلم ان السل سرعان ما يذهب بصوته. الصوت. ماذا يكون صوت الكاتب؟ «جوزفين المغنية» نصه الأخير بعد اقل من عقد جواب - أو شبه جواب - على السؤال الأخير. كيف يقضي الراوي أيامه في المحطة؟ ينظف السكة من الأعشاب. يحاول ايضاً ان يزرع خضراً وراء الكوخ. ينتظر وصول بندقية صيد كي يذهب ويتصيد ذئاباً او دببة، مع انه حتى الآن لم ير إلا صنفاً كبير الحجم من الجرذان يقطع السهوب مثل قطيع تدفعه الريح دفعاً. بين حين وآخر يستقبل فلاحين عابرين. أحدهم (جيكوز) وعده ان يجلب له ألواحاً خشباً: الكوخ بحاجة الى أرضية من الخشب تمنع الصقيع شتاء. يستقبل غيره ايضاً. قَبِل هذه الوظيفة في هذه المحطة النائية طلباً للعزلة. لكنه اكتشف وهو معزول انه يشتاق لوجوه البشر. في الليل، وهو يحاول النوم، يسمع جرذاً يحفر الأرض خارج الكوخ. لاحقاً سيقتل هذا الحيوان. لكن قبل تنفيذ المهمة يصف لنا وصفاً مدهشاً مخالب الحيوان وشيئاً من طباعه. كيف يكتب كافكا؟ من أين تأتي الصور الخيالية إليه؟ هل تخرج الصورة الجديدة من تلك التي سبقتها للتو؟ وكيف وصلت إليه الصورة الأولى؟ هل كان نائماً؟ هل هو في يقظة الآن وهو يكتب؟ العودة الى كافكا تشبه رحلة الى سهوب بعيدة: هناك، في العزلة، يعثر الواحد على سر مفقود. ماذا يكون هذا السر؟ العودة الى كافكا تشبه شيئاً آخر ايضاً. لكن هذا يظل غير محدد. السكوت (السكون) جزء من محطة كلدا للسكة الحديد.