Jean-Franois Revel. La Grande Parade-Essai sur la Survie de L'Utopie Socialiste. الاستعراض الكبير - مقالة في بقاء اليوطوبيا الاشتراكية. Pocket, Paris. 2001. 376 pages. هذا كتاب لا يخفي، من عنوانه بالذات، طابعه السجالي. ف"الاستعراض الكبير" هو ذاك الذي لا يفتأ اليسار الأوروبي، بل العالمي، ينظمه ويقرع له الطبول في السنوات العشر الأخيرة ليثبت لنفسه وللعالم أجمع أنه ما يزال على قيد الحياة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، الوطن الأم ل"اليوطويبا الاشتراكية" في 1990. والطابع السجالي لهذا الكتاب يبرز بمزيد من الوضوح إذا أخذنا في الاعتبار أن مؤلفه - جان فرانسوا ريفيل - ليس أي كاتب كان. فهو واحد من أبرز فلاسفة فرنسا المعاصرين. وكان فرض نفسه في الساحة الفكرية الفرنسية - والأوروبية عموماً - منذ أن أصدر في 1957 كتابه الذي كان له دويّ كبير في حينه: "لماذا الفلاسفة؟"، وأتبعه في 1975 ب"إغراء الشمولية"، وأخيراًَ بمصنّفه الكبير في "تاريخ الفلسفة الغربية: من طاليس إلى كانط". وجان فرانسوا ريفيل لا يخفي انتماءه اليميني. وقد تكون هذه ميزته أصلاً. فنادراً ما يجرؤ المفكرون في فرنسا على اشهار معتقدهم اليميني. وكثيراً ما قيل عن اليمين في فرنسا إنه سياسة بلا فكر، وايديولوجيا بلا ايديولوجيين. والحال ان جان فرانسوا ريفيل يحلو له، في كتابه الجديد هذا، أن يضطلع بدور مزدوج: أن يكون، من جهة أولى، محامي الدفاع عن الايديولوجيا اليمينية بصيغتها الليبرالية الأكثر جذرية وأن يكون، من الجهة الثانية، حافر قبر البقية الباقية من الايديولوجيا اليسارية بعد زلزال 1989-1991 الذي شهد انهيار جدار برلين والنظام السوفياتي معاً. من منظور هذه المهمة المزدوجة يتصدى ج. ف. ريفيل أولاً لممثلي اليمين الذين ما زالوا يخجلون من الجهر بانتمائهم إلى اليمين ويتكلمون عن الليبرالية - التي لا ايديولوجيا سواها لليمين - بمثل اللغة التي يتكلم بها عنها أصحاب اليسار. فهوذا ألان جوبيه، الرئيس الشيراكي للحكومة الفرنسية السابقة، يتحدث عن "قانون غاب الليبرالية". وهوذا فيليب سيغان، أحد أبرز قادة الحزب الديغولي، يحذر من خطر "الرأسمالية التوتاليتارية" الذي يتهدد أوروبا. وهوذا كاتب محسوب على اليمين، هو جان كرستوف روفان، يصدر كتاباً تحت عنوان "الديكتاتورية الليبرالية"، وآخر هو دينيس تلياك يصدر كتاباً ثانياً تحت عنوان "الفظاعة الرأسمالية". بل إن الكنيسة الكاثوليكية نفسها، ممثلة بمجمّع أساقفتها، لم تتردد في أن تصدر بياناً تحذر فيه من "أخطار الحرية الاقتصادية". وتصل الأشياء إلى حد المفارقة اللامنطقية عندما يتصدى أكبر مليونير في العالم، وهو جورج سوروس، الأميركي الجنسية والمجري الأصل، للتنديد بالليبرالية، محذراً في مقال نشره في مجلة "ذي أتلنتيك" من أن "الليبرالية مولّدة للبطالة، والبطالة مولدة للتوتاليتارية". والحال أن جميع هؤلاء اليمينيين، الخجولين من إعلان حقيقة هويتهم الليبرالية، إنما يخدمون استراتيجية اليساريين. إذ منذ زلزال مطلع التسعينات تغيرت هذه الاستراتيجية. فبعد أن أمسى الدفاع عن الماركسية صعباً للغاية، بل مستحيلاً، غدا التشهير بالليبرالية هو البديل الوحيد لردّ الاعتبار إلى الايديولوجيا اليسارية. وأكثر ما يميز المشهد الايديولوجي للعقد الأخير من القرن العشرين الآفل هو هذا التحول في التكتيك اليساري. فاليساري اليوم يساري لا بما يعتقده، بل بما يرفضه. وليس من شيء يرفضه اليساري اليوم كما يرفض الليبرالية. فالاشتراكية، في تقدير ج. ف. ريفيل، غرقت وماتت، ولم يعد في مقدور أحد ان يردّ الحياة إلى جثتها. ومن هنا بات المطلوب، عند أصحاب اليسار، إغراق المركب الوحيد الذي ما زال قادراً على المخر في بحر الحداثة الرأسمالية، أي المركب الليبرالي. فأن تكون يسارياً اليوم، فليس معنى ذلك أن تكون صاحب برنامج اشتراكي أو أن تكون نصيراً للتأميم وللملكية الجماعية، بل معناه الوحيد أن تكون عدواً لليبرالية. وهذا المعيار الجديد لليسارية هو ما يفسر أن تكون العولمة غدت هي العدو الأول ليساريي عقد التسعينات: فالعولمة في نظرهم - وهي كذلك في الواقع - انتصار لليبرالية وتعميم لها على مستوى العالم بأسره. من هنا النقد اللاذع الذي يوجهه فيلسوف الليبرالية إلى "الاستعراض الكبير" الذي نظمه اليساريون "الناجون من الغرق" على حد تعبيره، ضد العولمة في مدينة سياتل الأميركية في كانون الأول ديسمبر 1999، بمناسبة انعقاد المؤتمر الوزاري للمنظمة العالمية للتجارة فيها. فأعمال العنف "المدني" التي ارتكبت في أثناء تلك التظاهرات تنم في نظره عن ايديولوجيا مهزومة، أفقدتها الهزيمة صوابها. فالايديولوجيا، حتى عندما تكون شمولية، تظل تحافظ على ظاهر من العقلانية. لكن الايديولوجيا اليسارية "انحطت" في سياتل إلى تظاهرة للامعقول، ارتد فيها المعارضون للعولمة إلى "بدائيين" يتعاملون بلغة الحجارة والضرب والحرق والتحطيم والنهب. وهذا اللامعقول لم يتجلّ فقط في الأعمال، بل كذلك - وأساساً - في الشعارات المرفوعة ضد المنظمة العالمية للتجارة. فهذه الشعارات ما كانت تتقيد بالمبدأ الأول للعقلانية، ألا هو مبدأ عدم التناقض. فلو كان المتظاهرون يعون حقاً مضمون شعاراتهم لكان عليهم أن يؤيدوا، لا أن يعارضوا، مساعي المنظمة العالمية للتجارة. فهذه المنظمة ما وجدت لتطلق حرية التجارة العالمية بلا أي كابح أو رقابة، بل انشئت على العكس لتنظمها ولتضبطها ولتخضعها لاجرائيات وقواعد قانونية بحيث لا تكون السوق مرادفة للغاب. ولم يكتف المتظاهرون بأن يخترعوا لأنفسهم عدواً خيالياً: العولمة "الوحشية"، بل توهموا أيضاً أن تظاهراتهم "الوحشية" ضدها هي التي أفشلت مؤتمر سياتل. وبذلك اخترعوا لأنفسهم انتصاراً كاذباً أيضاً. فما تسبب في فشل المؤتمر هو تشبث الأطراف المشاركة فيه، لا بحرية التجارة، بل على العكس بمذهب الحماية. وعلى العكس أيضاً من الدعوى اليسارية القائلة إن البلدان الغنية تريد أن تفرض التداول الحر للبضائع، وعلى الأخص للرساميل، لكي تستفيد من انخفاض الأجور في البلدان الفقيرة ومن زهادة تكلفة العمل فيها بحكم انعدام الضمان الاجتماعي، فإن البلدان النامية هي التي رفضت في سياتل أن تلتزم تطبيق سياسة الحد الأدنى من الأجور ومن الضمان الاجتماعي ومن عدم تشغيل الأطفال، محتجة في رفضها هذا بأن الدول الغنية تسعى، من وراء فرض هذه التدابير عليها، إلى تقليص قدرتها التنافسية في السوق الدولية، وإجبارها على رفع تكاليف انتاجها، وحرمانها بالتالي من الفرصة الوحيدة المتاحة أمامها للاقلاع الاقتصادي والمتمثلة بانخفاض الكلفة الاجتماعية للعمل فيها. إذاً، ودوماً بخلاف دعاوى اليساريين، فإن البلدان الأقل نمواً هي التي تطالب بليبرالية "متوحشة"، بينما البلدان الرأسمالية الأكثر تقدماً، والرازحة تحت عبء كلفة اجتماعية عالية للعمل، هي التي طالبت وتطالب بتأمين حد أدنى من الحماية الاجتماعية لليد العاملة، وإن لم يكن دافعها إلى ذلك اخلاقياً، بل اقتصادي بسبب تأذيها من منافسة البلدان الأقل تطوراً. وإذاً أيضاً فإن حرية التجارة تعود بالفائدة على البلدان الأقل غنى، أكثر منها على البلدان الأكثر غنى، ولهذا فإن البلدان الغنية تحوز من الأسباب للتخوف من العولمة أكثر من تلك التي تحوزها البلدان الفقيرة. أولاً بسبب التكاليف العالية للانتاج فيها، وثانياً لأن ترحيل المشاريع الصناعية من البلدان العالية الكلفة باليد العاملة إلى البلدان المنخفضة الكلفة باليد العاملة من شأنه أن يخلق بطالة في البلدان الأولى بقدر ما يخلق عمالة في البلدان الثانية. وذلك ينطبق أيضاً على الموقف من حماية البيئة. فليست الشركات المتعددة الجنسية والتابعة للدول الصناعية الكبرى هي التي تعارض تدابير حماية البيئة، بل الدول الأفقر والأقل نمواً. فهذه الأخيرة تعتبر أن أولوية الأولويات يجب أن تعطى لتصنيعها. وبانتظار انجاز المرحلة الأولى من هذا التصنيع، فإن عامل حماية البيئة، لن يحظى منها بالاهتمام بأكثر مما حظي به من جانب الدول الصناعية الكبرى الحالية حينما كانت تمر هي الأخرى بالأطوار الأولى من عملية التصنيع. إن قائمة التناقضات التي يأخذها داعية العولمة الليبرالية على خصومها من "بقايا" اليساريين تبدو على هذا النحو لامتناهية الطول، وهي لا تخلو على كل حال من بعض التماسك في المنطق. لكن الروح السجالية التي يصدر عنها مؤلف "الاستعراض الكبير" جعلته يخلّ هو نفسه بمبدأ عدم التناقض. فهو يعتز في أكثر من موضع من مرافعته بأن البلدان الرأسمالية المتقدمة هي التي وفرت لمواطنيها، من دون سائر البلدان العالم، الحد الأعلى من الحماية الاجتماعية ومن الضمان الصحي ومن رعاية الطفولة والشيخوخة معاً. وهذا بلا شك صحيح. ولكن لماذا يصرّ في هذه الحال على اعتبار النموذج الأمثل لليبرالية، الذي يتعين على سائر البلدان الأوروبية الرأسمالية أن تحتذي به، هو النموذج الذي طبقته مارغريت ثاتشر في انكلترا ورونالد ريغان في الولاياتالمتحدة الأميركية؟ فهذا النموذج الليبرالي الثاتشري - الريغاني قام على تقليص الدور الاجتماعي للدولة وعلى إلغاء العديد من المكاسب والضمانات العمالية في ميادين الصحة والتقاعد والتأمين ضد البطالة. ولو ان هذا النموذج انتصر في جميع دول الرأسمالية، لا سيما منها الأوروبية، لما استطاع مؤلف "الاستعراض الكبير" أن يوظف الانجازات الاجتماعية للرأسمالية الأوروبية في مناظرته ضد الخصوم اليساريين لليبرالية. فمع ثاتشر وريغان كانت الليبرالية قد عادت بالفعل "وحشية". ولهذا فإن الرأسمالية الأميركية والانكليزية عادت تصحح بنفسها مسارها من خلال تسليم مقاليدها لبيل كلينتون الديموقراطي وتوني بلير العمالي. وليس من قبيل المصادفة أن يكون عقد التسعينات من القرن العشرين هو الذي شهد تجدداً في قوى اليسار الأوروبي والأميركي، مع أن سقوط النظام السوفياتي في مطلع هذا العقد نفسه كان يفترض فيه أن يسدد ضربة قاضية نهائية إلى الايديولوجيا اليسارية. فالتجربة الريغانية - الثاتشرية في الليبرالية الوحشية ردت إلى هذا اليسار قدراً كبيراً من الحيوية التي خسرها مع سقوط القلعة الأخيرة لليوطوبيا الاشتراكية. ولولا قسوة "السيدة الفولاذية" وشراسة ثورة ريغان المحافظة، لما وجد بين البقية الباقية من متطرفي اليسار من يجرؤ على أن يجهر بإيثاره جحيم الاشتراكية على فردوس الليبرالية.