كان السائد أن العولمة فرضت نفسها وشقّت طريقها بصورة نهائية نحو إحكام سيطرتها وهيمنتها، خصوصاً بعد اندحار النظم الستالينية في بلدان "الاشتراكية الحقة" وانهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه، وأنه ليس أمام جميع البلدان والمجتمعات من خيار آخر سوى الانخراط والاندماج فيها. والويل لمن تخلف عن الركب وخالف شروط الالتحاق ولا بأس بل ما هو مطلوب بالضبط أن يكون البعض أو بمعنى أصحّ الغالبية الساحقة من البلدان والمجتمعات في الذيل والهامش. فهذه سنّة الرأسمالية العالمية منذ وجدت بصورها ومراحلها التاريخية المختلفة، ولا رادّ لسنّتها سواء في مرحلتها الكولونيالية الاستعمارية المباشرة إلى الامبريالية السيطرة غير المباشرة وأخيراً العولمة، التي اعتبرها ممثلو الليبيرالية الجديدة نهاية التاريخ وخاتم البشر حين يكون الانتصار النهائي لقوى السوق والليبيرالية السياسية. وهذه "الحتمية" ذات النكهة الهيغلية على غرار كل الحتميات لا مكان فيها ولا تحتمل الأصوات المتنافرة والمبعثرة والخجولة أحياناً الصادرة عن بعض الشخصيات والتيارات السياسية أو المدافعين عن حقوق الإنسان وأنصار البيئة أو الخبراء الاقتصاديين ورجال الفكر والثقافة سواء في المركز أو الأطراف الناقدة أو المشككة بحتمية أو أبدية وطهرانية العولمة في أبعادها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والإنسانية، اذ كان ينظر إليهم باعتبارهم أناساً يرددون أفكاراً عتيقة تمثل بقايا مرحلة "الديناصورات المنقرضة" التي تردد مفاهيم غير "حضارية" أو "لائقة" في زمن العولمة مثل العدالة والمساواة والبعد الاجتماعي وحق الشعوب في اختيار مسار تطورها الخاص وحماية هويتها الوطنية وشخصيتها الثقافية واستقلالها الاقتصادي، ناهيك عن الخيار الاشتراكي الذي غدا يوتوبيا يتردد حتى الاشتراكيين الأقحاح في الاقتراب منها. غير أن المواجهات العنيفة التي شهدتها مدينة سياتل الأميركية ذات التقاليد النقابية والعمالية العريقة، ومقر "مايكروسوفت" أكبر شركة احتكارية في العالم لأنظمة الكومبيوتر و "بوينغ" أكبر شركة منتجة للطائرات في العالم وما يسمى بالتكنولوجيا الرفيعة، عشية الاحتفالات بالألفية الثانية، فرض إعادة النظر في الكثير من المسلمات أو الأوهام حول طبيعة وحقيقة العولمة، خصوصاً أن المتظاهرين والمحتجين على سياسات منظمة التجارة العالمية ينتمون إلى مختلف شرائح المجتمع الأميركي من عمال ونقابيين وعاطلين عن العمل ومهمشين وأنصار الدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة وحماة البيئة وممثلي الطبقة الوسطى ورجال الثقافة والفكر، اي بكلمة جميع المتضررين من سياسة العولمة وآلياتها المتمثلة في منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والتي تقود قاطرتها الشركات العملاقة "متعدية" الجنسية. لقد وصلت أصداء الاحتجاجات والاشتباكات العنيفة بين المتظاهرين ورجال الأمن وأجهزة مكافحة الشغب إلى أروقة مبنى اجتماع قمة منظمة التجارة الذي سادته حال من الإحباط والتشاؤم خصوصاً بعد الإعلان عن عدم احراز أي تقدم إزاء القضايا الجوهرية المطروحة على جدول الأعمال وفي مقدمها المطالب المشروعة التي طرحتها الدول النامية التي تشكل أربعة أخماس الدول المنضوية 135 دولة تحت إطار منظمة التجارة العالمية، والتي احتجت على محاولة تهميشها في المباحثات والمناقشات التي احتكرتها عملياً الدول الصناعية الكبرى. وفي الواقع فإن هدير الاحتجاجات والمسيرات الواسعة التي شهدتها سياتل والتي استمرت طوال أيام المؤتمر قد طغى وعمق الشكوك لدى العديد من ممثلي الدول النامية والقطاعات الأهلية والمدنية حيال مطابقة المعايير والأسس التي تعتمدها منظمة التجارة العالمية مع حقوق ومصالح الغالبية الساحقة من شعوب العالم. عبرت مظاهرات سياتل وكذلك المسيرات والاحتجاجات الصاخبة التي شهدتها واشنطن أثناء الاجتماعات الدورية السنوية المشتركة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي أواسط نيسان أبريل الماضي عن تعاظم دور الحركات الاجتماعية وسائر تكوينات المجتمع المدني على اختلاف منحدراتها الاجتماعية والطبقية والثقافية والأيدلوجية والسياسية في المقاومة وتحدي نظام الهيمنة والتسلط المتمثل بالعولمة ومرتكزاتها واللافت أن هذه الحركة الجماهيرية الواسعة تجنبت اللجوء إلى خيارات الثورة والتمرد التقليدية السابقة الممهورة بطابع الأيديولوجيا والفرز الطبقي والسياسي المحدد والصارم، بل تم التركيز على أهداف ومطالب وشعارات عريضة وواسعة بل متناقضة أحياناً مثل الحرية وحقوق الإنسان والعدالة والحفاظ على البيئة ومراعاة مصالح البلدان الفقيرة والدفاع عن مصالح العمال والعاطلين والمهمشين والفئات الوسطى في البلدان الصناعية باعتبارهم الضحايا المباشرين للعولمة وجوهرها القائم على استفحال حالة الاستقطاب الشديد ما بين الغنى الفاحش والفقر المدقع على الصعيد الكوني سواء ما بين الدول الصناعية المتطورة المركز التي تشكل 20 في المئة من سكان العالم وبين الدول الفقيرة الأطراف التي تشكل 80 في المئة من السكان من جهة وفي داخل كل البلدان والمجتمعات من جهة أخرى. هذه التحركات الاجتماعية الواسعة المنطلقة من قلب المنظومة الرأسمالية العالمية وقوتها المهيمنة الوحيدة حتى الآن الولاياتالمتحدة امتدت أو هي مرشحة للامتداد إلى مناطق وبقاع العالم الأخرى وليس أدل على ذلك من تواصل الاحتجاجات إزاء منتدى دافوس سويسرا الذي ضم ممثلي الدول الصناعية الغنية والشركات الكبرى متعدية الجنسية وكبار رجال المال والأعمال والسياسة في العالم، وجاء الرد سريعاً من مدينة جنيف التي تعتبر من أكبر عواصم المال العالمية حيث أصدر برلمانها بياناً تحت عنوان "نداء إلى مواطني العالم" وحمل الاعلان على اتجاه مؤتمر سياتل إلى زيادة سلطة منظمة التجارة وعبر عن قلق برلمان جنيف من أن يؤدي تعاظم تحرير الاقتصاد العالمي إلى فقدان السلطات العامة سلطتها، وذكر أن اتفاق مراكش عام 1994 الذي تأسست بموجبه منظمة التجارة العالمية "أكد تحقيق الرفاهية للناس عن طريق التجارة واليوم لا أحد ينكر أن المنظمة فشلت في ذلك وما يشهده العالم هو تركز "الرفاه" الذي تنتفع منه الأقلية فحسب في حين يواصل الفقر الازدياد والأسواق تواجه تعاظم عدم الاستقرار خصوصاً في قطاع المال والاقتصادات الوطنية تنهاروتستفحل اللامساواة بين الدول وداخلها". ففي الولاياتالمتحدة على سبيل المثال قفزت الحصة من الثروة التي يمتلكها 1 في المئة من السكان من 25 في المئة من إجمالي الثروة عام 1969 إلى 39 في المائة عام 1997 وبلغ إجمالي الدخل لأغنى 5 في المئة من الأميركيين لدخول 40 في المئة من مجموع الشعب، فيما قدرت قيمة موجودات شركة "مايكروسوفت" الأميركية قبل تراجع أسعار أسهمها اخيراً السوقية ب 500 بليون دولار وهي بذلك تفوق بسبعة أضعاف الدخل المتوقع لكل دول الخليج مجتمعة من تصدير نفطها بعد التحسن الذي طرأ على أسعار البترول في حين قدرت ثروة بيل جيتس مؤسس الشركة ب 100 بليون دولار في عام 1998 وهي تزيد عن الدخل الإجمالي لعشرات بلدان العالم الثالث، كما تزيد أصول أغنى مئتي شخص على دخل أكثر من بليوني شخص في الجانب الآخر من السفح. وفي المقابل هناك ما يزيد على 30 مليون أميركي يعيشون تحت خط الفقر آما في بلدان الاتحاد الأوربي فتراوح نسبة البطالة بين 7 إلى 13 في المئة في حين يعيش أكثر من 50 مليون إنسان تحت خط الفقر، وفي اليابان التي تمر بأحد أسوأ مراحل الكساد في تاريخها فإن نسبة البطالة وصلت إلى نسبة 5،4 في المائة كما يعيش الملايين تحت خط الفقر. ولم توفر الأزمة في البلدان الصناعية الطبقة الوسطى التي كانت تمثل رمزاً لدولة الرفاه الكنزية وتعبيراً عن الاستقرار الاجتماعي والسياسي. وتشير المعطيات الى التدهور المستمر في أوضاعها الاقتصادية والمعاشية، اضافة إلى تقلص الخدمات التعليمية والصحية ونفقات الضمان الاجتماعي بوجه عام، وهو ما انعكس في اتساع حالات الاحباط واليأس اتخذ في أحيان كثيرة مظاهر خطيرة مثل تفشي الميول العنصرية والعداء للأجانب من العمال المهاجرين وغير ذلك. هذه المظاهر الآخذة بالاتساع هي من افرازات الليبرالية الجديدة التي دشنتها التاتشرية 1979 والريغانية 1980 وأبرز معالمها اطلاق قوى السوق اليد الخفية بدون أي كوابح من جانب الدولة اليد المرئية والدعوة إلى تقليص وظيفة الدولة وخفض الضرائب على الشركات الكبرى، وتخصيص منشآت الدولة. ويبدو أن هذه السياسة تمثل العنوان الرئيسي لنظام العولمة. وفي هذا الصدد كتب الزعيم النقابي الأمريكي ورئيس لجنة الشؤون الدولية في اتحاد العمال الأميركي جاي فيرور ما يأتي: "ليس بوسع هذه القواعد التي أصبحت مفروضة الآن من جانب منظمة التجارة العالمية أن تتملص من مسؤولية تأثير هذه السياسات السلبية في العمال والبيئة، كما أنها تحبط الجهود الوطنية والمحلية لتقنين الالتزام بالقيم الاجتماعية الراسخة الجذور وفي هذا العصر "الديموقراطي" فإن شرعية أي نظام اقتصادي حديث يجب أن تقاس بنوعية الحياة التي يوفرها للأكثرية وليس من خلال المزايا الممنوحة للقلة وبالنسبة الى الشعب العامل في كل مكان فإن هذه الحقائق قد خلقت رد فعل اخذ في التزايد ضد شروط وأوضاع النظام العالمي". وللبحث بقية في مقالة لاحقة. * كاتب سعودي.