تشكل الحياكة - كما هو معروف - مرحلة وسطاً بين الغزل والخياطة، وهي النسج وأَصْلُه "ضَمُّ الشيء الى الشيء" كما يقول ابن منظور في "اللسان"" فالحائك يضمُّ السَّدَى الى اللُّحمة، "وهو النسَّاج، وحرفته النساجة"، كما أنَّها "الحياكة" اللسان، وعدَّها ابن خلدون مع الخياطة من ضرورات العمران "لما يحتاج اليه البشر من الرَّفَهِ"، ونفاهما عن البدو "لما أنَّ أهل البدو يستغنون عنها، وإنما يشتملون الأثواب اشتمالاً" المقدمة" وهذا الرأي الأخير تنقضه الشواهد الكثيرة التي تتحدث عن أنواع ثياب محوكة مخيطة أنيقة ارتداها البدو في الجاهلية كما ارتداها الحضر. وطبيعي أن تزدهر الحياكة في الحواضر. إلاَّ أنها عُرفت أيضاً في البوادي، وإن كان جُلُّ اعتماد البدو على نسيج الحواضر، يبادلون به أغنامهم وإبلهم ويجعلون منه بيوتهم ولباسهم وكسوة مطاياهم. وكما كان الغزل حرفة الرجل والمرأة على السواء، كانت الحياكة حرفتهما أيضاً. وفي المعاجم: "رجل حائك من قوم حاكة"، و"نسوةٌ حوائك" الصحاح، واللسان، وفي الشعر ما يعزز هذا الرأي، من دون تعيين لموقع الرجل الاجتماعي، حراً كان أم عبداً. قال لبيد بن ربيعة يصف ناقته ويشبه الطريق بالنسيج ويذكر النسَّاج: فَكَلَّفْتُهَا وَهْماً كَأَنَّ نَحِيزَهُ شَقَائِقُ نَسَّاجٍ يَؤُمُّ المَنَاهِلاَ. والحائك "ناسج" أيضاً، وقد جاء في هذه الصيغة في قول جندب بن عمرو بن ثعلبة، يصف قطيعاً من بقر الوحش في موضع من الجزيرة: يَا رُبَّ ثَوْرٍ بِرِمَالِ عَالِجِ كَأَنَّهُ طُرَّةُ نَجْمٍ خَارِجِ في رَبْرَبٍ مِثْلِ مُلاَءِ النَّاسِجِ. وكانت في نساء بني تميم نسوة حائكات كما نفهم من شرح قول سحيم عبد بني الحسحاس، يذكر معهنّ "الصياصي" وهي من ُعُدَّة الحائكين: فَأَصْبَحَتِ الثِّيَرانُ غَرْقَى، وأَصْبَحَتْ نِسَاءُ بَنِي تَمِيمٍ، يَلْتَقِطْنَ الصَّيَاصِيَا، ومعناه: "يلتقطن القرون لينسجن بها" كما يقول ابن منظور. وعلاوة على أن البيت شاهد على مزاولة المرأة الحياكة، فهو أيضاً شاهد على وجود هذه الحرفة في البادية. وثمة شاهد آخر على ذلك هو قول الأزهري في شأن "الحَفِّ"، وهو من آلات الحياكة: "كذا هو عند الأعراب، وجمعها حفوف" اللسان. 1- عدة الحائك: وهي عدة من صنع النَّجَّار، إلاَّ الصياصي فهي قرون بقر كما تقدم، ومفردها "الصِّيصِيَة" بالتخفيف، وهي: "شوكة الحائك التي يسوِّي بها السَّدَاة والُلحْمة" اللسان، وذكرها الحطيئة وشبَّه بصريرها صرير ناب الناقة، فقال: وَإِنْ ضُرِبَتْ بالسَّوْطِ صَرَّتْ بِنَابِها صَرِيرَ الصَّيَاصي في النَّسِيجِ المُمَدَّدِ، وذكرها دريد بن الصِّمَّة، فقال: فَجِئْتُ إِلَيْهِ، والرِّمَاحُ تَنُوشُهُ، كَوَقْعِ الصَّيَاصِي في النَّسِيجِ المُمَدَّدِ، وبيتا الحطيئة وابن الصمة يشيران الى حركة شوكة الحائك التي تشبه حركة الرماح في أيدي المتحاربين، كما يشيران الى وضعية نول الحياكة وتمدُّدِه على الأرض. والنول هو آلة الحائك الأساسية، وهو أيضاً "المنوال" أي "الخشب الذي يلف عليه الحائك الثوب" الصحاح، قال امرؤ القيس يذكر المنوال ويذكر معه هراوته مشبهاً بها فرسه في صلابتها: بِعِجْلِزَةٍ قَدْ أَتْرَزَ الجَرْيُ لَحْمَهَا كُمَيْتٍ كَأَنَّهَا هِرَاوَةُ مِنْوَالِ. وإنما "شبّهها بالهراوة لأنها لا تُتخذ إلا من أصلب العود وأشدِّه". وذكر الشَّمَّاخ بن ضرار النول بلفظ "المنسج"، وذكر معه خشبة أخرى من خشبات الحائك هي "الحِلْو". قال في صفة حمار وحشي: قُوَيْرِحُ أَعْوَامٍ كَأَنَّ لِسَانَهُ إِذَا صَاحَ حِلْوٌ زَلَّ عَنْ ظَهْرِ مِنْسَجِ. والحلو: "الخشبة التي يديرها الحائك"، وهي عريضة "ينسف بها اللحمة بين السدى". ومن عدة الحائك "القصبة"، وربما سميت "نيرة"، وهي خشبة معترضة تجتمع عليها الخيوط الصحاح، وشاهدها قول الحطيئة: بِذِي قَرْقَرىَ إِذْ شُهَّدُ النَّاسِ حَوْلَنَا فَأَسْدَيْتُ إِذْ أَعْيَا بِكَفَّيْكَ نَائِرُهْ. تلك آلة الحياكة بأسمائها المختلفة وأقسامها وخاماتها من خشب وقصب وقروض.إلا انها ليست الآلة الوحيدة في عُدَّة الحائك، فهذا المتنخل بن عويمر الهذلي يذكر آلة هي "المِشَاط"، لها وظيفة تشبه وظيفة من وظائف آلات الحياكة في عصرنا، هي تنقية الثوب بعد حياكته مما يعلق به وينتأ منه من نسيل القطن والحرير والكتَّان، قال عويمر يصف أطلالاً وحبيبة أورثه بُعْدُها شيباً يختلط بسواد شَعره: كَأَنَّ على مَفَارِقِهِ نَسِيلاً مِنَ الكَتَّانِ تُنْزَعُ بِالْمِشَاطِ. إذاً، استخدم الحاكة في الجاهلية - بشهادة شعرائها - آلات من صنع النجارين كانت على جانب من التعقيد الميكانيكي تظهره دراستنا تقنيات الحياكة. 2- تقنيات الحياكة: لم يعدم العرب فيها الحسَّ الفنيَّ الذي هَدَاهُم الى الوَشْي والتحبير والتصوير. ولعلهم احتاجوا الى هذا الحس الفني في جمعهم ما بين الحياكة اليدوية القائمة على توحيد السداة واللحمة والحياكة الفنية القائمة على إدخال الخيوط الملونة على نحو يحتاجون معه الى احتساب عدد الخيوط المتوازية في الشكل وفي اللون على أطراف الصورة المرادة ووسطها، صنيع الحاكة في أيامنا. وربما حاكوا الثوب الجيِّد اعتماداً على تقنيات أرقى، كأن ينسجون بنيرين أو أن ينسجوه منفرداً على نول واحد، حتى قالوا في أمثالهم: "فلان نسيج وحده" إذا كان مُحْكَمَ الرأي، واشتقاق ذلك "من الثوب الذي قد نسج وحده على منوال واحد، فهو أحكم له" الصحاح وجمهرة اللغة. ومع عنايتهم بنسيج ثياب النساء وأستار الهوادج، تراوحت المنسوجات بين رقيق ناعم وغليظ خشن، وتقدم ذكر ثياب النائحة المنسوج من شعر، ومثلها نسجت البيوت والأخبية. وراعوا في الحياكة أن يكون الثوب على نسق واحد لا يعيبه شيء في أي حِّيز من احيازه، وشاهد ذلك قول ذي الإصبع العدواني مشبهاً السيف بالثوب على زعم بعض الرواة: يَا رُبَّ ثَوْبٍ حَوَاشِيهِ كَأَوْسَطِهِ لا عَيْبَ في الثَّوْبِ مِنْ حُسْنٍ ومِنْ لِينِ. والقطعة الواحدة من الثوب المنسوج "شقَّة"، وربما سمَّوها "سُبُوباً" إذا كانت من كَتَّان، وقد ذكرها شعراء جاهليون بينهم عبدالله بن سَلَمَة فقال: ونَاجِيَةٍ بَعَثْتُ على سَبِيلٍ كَأَنَّ بَيَاضَ مَنْجَرِهِ سُبُوبُ. ولاحظ الشعراء البراعة والسرعة في عمل الحائك والحائكة، كما لاحظوا تقنيات عملهما، فنقلوا كل ذلك الى شعرهم استعارةً وتشبيهاً، فهذا المسيب بن علس يصف سرعة ناقته فيجد في سرعة يدي الحائكة ما يحسن التشبيه به، يقول: فِعْلَ السَّرِيعَةِ بَادَرَتْ جُدَّادَهَا قَبْلَ المَسَاءِ تَهِمُّ بِالإِسْرَاعِ، ف "الجُدَّاد، بضم الجيم وتشديد الدال: ما بقي من خيوط الثوب"، وشبَّه الشاعر الناقة "في سرعة يديها بامرأة تحوك ثوباً، فهي تبادر إتمامه". ومما لاحظوه من تقنيات الحياكة طلبُ الصوف لإتمام نسج الكساء، قال أبو داود الإيادي في ذلك: وهيَ كَالْبَيْضِ في الأَدَاحِيِّ مَا يُوهَبُ مِنْهَا لِمُسْتَثِمٍّ عِصَامُ. ويذكر أنَّ الحياكة انما تبدأ بالسراة، تُمدُّ على النول طولاً، ثم تليها اللُحمة وهي الخيوط التي تمد عرضاً وتدمج في السداة بواسطة مشط مخصوص. والطريف أن الشعر الجاهلي لم يذكر السداة واللحمة على سبيل التقرير والوصف، بل ذكرهما غالباً على سبيل المجاز، الأمر الذي يعني أنَّ صورة التسدية وحياكة اللحمة لاصقة بأذهان الشعراء، وأنَّ فيها ما تحسُنُ استعارته والتشبيه به. وغالباً ما يورد الشاعر السداة واللحمة في البيت الواحد، إلا إذا أعوزته القافية الى كلمة تدل على واحد من اللفظين، كما يلحظ في قول زهير بن أبي سلمى: لِذِي الفَضْلِ مِنْ ذِبْيَانَ عِنْدِي مَوَدَّةٌ وحِفْظٌ ومَنْ يُلْحِمْ الى الشَّرِّ أَنْسُجِ، ذلك أن الشاعر إنما يقصد ب"أنسج" الى القول: "أسدي" لتصحَّ له المقابلة. إلاَّ أنَّ قوله يحتمل تفسيراً آخر هو أنه يريد: مَنْ يلحم الى الشَّرِّ، أي يقبل عليه إقبالاً غير تام، فإنني أنسجه، أي أُقبل عليه إقبالاً تاماً بسداه ولحمته. ويخالف شاعر آخر فيذكر السداة ومعها ما يدل على اللحمة، كالنيرة، قال الحطيئة ذاكراً ذلك، في بيت سبق ذكره: بِذِي قَرْقَرَى إِذْ شُهَّدُ النَّاسِ حَوْلَنَا فَأَسْدَيْتَ إِذْ أَعْيَا بِكَفَّيْكَ نَائِرُهْ وربما ذكر الشاعر السداة ولم يذكر مقابلها وهو اللحمة، قال الأعشى الكبير، متحدثاً عن شيطان شعره الذي يسمِّيه "مسحلاً": ومَا كُنْتُ شَاحَرْداً، ولَكِنْ حَسِبْتَنِي إِذاَ مِسْحَلٌ سَدَّى لِيَ القَوْلَ أَنْطِقِ، فهو ليس شاحرداً، أي متعلماً، وانما يعلمه مسحل الشعر، و"سدَّى اليه أحسن، وأصله من السَّدى وهي خيوط النسيج". ومن أسماء السدى "السَّتَى"، وقد جاء في شعرهم على سبيل المجاز أيضاً، ومنه قول أعشى قيس، قاصداً الى القول إنَّ مهجُّوه ليس شيئاً بين الناس: إنْ تَرْجِعِ الحُكْمَ إلى أَهْلِهِ فَلَسْتَ بِالمْسْتِي ولاَ النَّائِرِ. و"الستى" على الحقيقة من "أستى الثوب وأسداه" و"السدى من الثوب ما مُدَّ من خيوطه، وهو خلاف لحمته". والحياكة تكون بنيرٍ وتكون بنيرين، والثانية أجود وأمتن. ولعلهم أخذوا الحياكة بالنيرين عن الفرس، واقترضوا معها اسمَ نوع من النسيج هو "الديابوذ" أو "الديابود"، قال الأعشى يصف ناقته وما عليها ويشبهها بثور وحشي: عَلَيْهِ دَيَابُوذٌ تَسَرْبَلَ تَحْتَهُ أَرَنْدَجُ إِسْكَافٍ يُخَالِطُ عَظْلَمَا، فالديابوذ "ثوب ينسج على نيرين". ومن ذكره بالدال المهملة قول الشَمَّاخ، في ظبيةٍ وولدها: كَأَنَّهَا وابْنَ أيَّامٍ تُرَبِّبُهُ مِنْ قُرَّةِ العَيْنِ مُجْتَابَا دَيَابُودِ، ومما قيل في تفسيره قول أبي عبيد: "أصله بالفارسية: دوبود، وربما عربوه بدال معجمة". وحاك العرب الثياب غير ملونة، وحاكوها ملونة، ووشَّوْها بخطوط أو رسوم، وأظهروا في ذلك براعة وخبرة نجد صداهما في الشعر الجاهلي، الأمر الذي يُفسَّر بأمرين: أحدهما أن عين الشاعر وقعت على حياكة النسيج في محيطه الأقرب وهو قبيلته، وثانيهما أن عينه وقعت على الحياكة في محيطه الأرحب وهو الحواضر التي دأب على زيارتها وهو الذي كان أكثر ارتحالاً من غيره. وشبَّه الشاعر أيَّ شيء يريد إظهار جانب القوة أو الجمال فيه بالثوب الأبيض غير الملوّن، ومن ذلك تشبيه لبيد بن ربيعة الثور الأبيض بالنِّصع وهو "ثوب أبيض خالص البياض جلته الشمس"، قال: فَاجْتَازَ مُنْقَطِعَ الكَثِيبِ كَأَنَّهُ نِصْعٌ جَلَتْهُ الشَّمْسُ بَعْدَ صَوَانِ كما شبَّه الشاعر ما يراه بالألوان في الثياب من دون ان يعيِّنَ هذه الألوان، ومن ذلك تشبيه الأعشى الكبير أرضاً أصابها المطر فنبت فيها الزهر بألوان تشبه ألوان البرود والرحال ونشرها التجار، في قوله: ومَصَابِ غَادِيَةٍ كَأَنَّ تِجَارَهَا نَشَرَتْ عَلَيْهِ بُرُودَهَا ورِحَالَهَا. وربما ذكر الشاعر التحبير في الثوب دالاّ به على جِدَّة هذا الثوب، صنيع المتنخل بن عويمر الهذلي في قوله مسمياً الحبرة الملونة بالحلَّة الشوكاء: وأَكْسُو الحُلَّة الشَّوْكَاءَ خِدْنِي وبَعْضُ القَوْمِ في حُزْنٍ ورَاطِ. وهذا الحطيئة يرى ما يراه الأعشى من أثر المطر في الأرض وقد بدت مكسوة زهراً مختلف الألوان، يشبه الحبرات، فيقول: وغَيْثٍ جُمَادِيٍّ كَأَنَّ تِلاَعَهُ وحَزَّانَهُ مَكْسُوَّةٌ حَبِرَاتِ. وربما عنى الشاعر بالتحبير النقشَ: ومن ذلك قول المتنخل: عَرَفْتُ بِأَجْدَثٍ فَنِعَافِ عِرْقٍ عَلاَمَاتٍ كَتَحْبِيرِ النِّمَاطِ، والنِّماط في جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي "الثياب منقوشة بالعهن". وقد يكون التحبير في ثوب امرأة كما يقول الشَّمَّاخ يصف امرأة استغنت عن ردائها لتظهر حسنَها وخضابها: بِهَا شَرَقٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ وَعنْبَرٍ أَطَارَتْ مِنَ الحُسْنِ الرِّدَاءَ المُحَبَّرا. وإذا كان حديثهم عن التلوين والتحبير لا يقدم وصفاً لتقنيات حياكتهم وتلوين منسوجاتهم، فإنَّ حديثهم عن الخطوط في الثوب الواحد ينقلنا خطوة الى الأمام على طريق استجلاء صورة هذه التقنيات. إلاَّ أنَّ الشعر الجاهلي الذي يوثق الحياكة في الجاهلية لا يذهب مباشرة الى وصف هذه التقنيات، وربما اكتفى بأن يكون صدى لما وضعه العرب من اصطلاحات يقوم واحدها بإزاء الثوب الواحد، كالخميصة التي قيل انها "كساء أسود مربع مخطط بخطين"، في بيت الأعشى الكبير واصفاً امرأة: إِذَا جُرِّدَتْ يَوْماً حَسِبْتَ خَمِيَصةً عَلَيْهَا وجِرْيَالاً يضيءُ دَلاَمِصَا" فهو يعني أن للخميصة هذه الهيئة التي لا يشركها فيها أيُّ كساء آخر، فإذا نظر الباحث في تعريفاتهم لسائر الأكسية وجد ظاهرتين: الأولى: أنَّ عرب الجاهلية وضعوا بإزاء كل نوع من الأكسية اسماً. والثانية: أنَّ تسميات الأكسية صارت مصطلحات يتداولها العرب جميعاً، ولذلك يخاطبهم الشاعر بها فلا تغمض مدلولاتها عليهم. هكذا ذكر "الخميصة"، وهكذا ذكر "النحيزة" وهي "طُرَّة تنسج ثم تخاط على شفة الشقة من شقق الخباء"، وقد ذكرها حميد بن ثور مشبهاً بها الليل فقال: والليلُ قَدْ ضَهَرَتْ نَحِيزَتُهُ والشَّمْسُ في صَفْرَاءَ كَالْوَرْسِ. وعلى ذلك قالوا إن "البرجد": "كساء فيه خطوط"، ووروده في الشعر كثير، ومنه قول المثقب العبدي: في لاَجِبٍ تَعْرِفُ جَنَّاتِهِ مُنْفَهِقِ الفَقْرَةِ كالبُرْجُدِ. وهو قول لا يعيِّنُ هيئة الخطوط وألوانها، فيما نجد هذا التعيين عند الحديث عن "الوصائل"، وهي "ثياب حُمرٌ فيها خطوط خضر"، كما يقول شارح ديوان النابغة الذبياني وقوله في صفة نياق: ويَقْذِفْنَ بِالأَوْلاَدِ في كُلِّ مَنْزِلٍ تَشَحَّطُ في أَسْلاَئِهَا كَالْوَصَائِلِ. والظاهر أن "ثياب الخال" أشركت "الوصائل" في أنها "برود حُمْرٌ فيها خطوط خضر"، وهو قول شارح بيت ساعدة بن جُؤَيّةَ الهذليّ: يَذْرِينَ دَمْعاً على الأَشْفَارِ مُنْحَدِراً يَرْفُلْنَ بَعْدَ ثِيَابِ الخَالِ في الرُّدُمِ، وذلك ما يعني أنَّ الحائك كان يقصد الى حياكة برود ملونة تخاط منها ثياب النساء، وأنه كان على إلمام بتقنيات في الحياكة تقتضيه جهداً إضافياً غير جهده المبذولِ في حياكة نسيج لونه واحد، كما يعني أنَّ آلة الحياكة كانت، من حيث تركيبها الميكانيكي، تمكنه من إدخال خيوط على خيوط تخالفها في اللون، وهي خيوط اللحمة، إذ خيوط السداة تكون غالباً لوناً واحداً وتغمض ضمن اللحمة نفسها. ومرة أخرى يقف الباحث أمام قولهم إن "الخميصة" كساء "مخطط بخطين"، فيستنتج أنَّ الحائك العربي ربما حاك الثوب "جاهزاً" للارتداء من دون حاجة الى تفصيل وخياطة، صنيع المرأة في أيامنا، تحوك كنزة بسنَّارتين فلا تحتاج الى قص النسيج وتفصيله وخياطته، وهذا يردنا مرة أخرى الى احتياج الحائك الى الحساب وعَدِّ الخيوط و"القُطَب" على ما تعرف النساء في أيامنا. وما يؤكد ان الحائك حاك الثوب "جاهزاً" على نوله أنهم جعلوا الخطوط في مواضع معينة من الثوب تقابل أعضاء معينة من جسم الإنسان، والشاهد ذكر أعشى قيس للثوب المعضّد، وهو "المخطط في موضع العضد"، قال يشبه البيداء بالثوب الرازقي: وبَيْدَاءَ تِيهٍ يَلْعَبُ الآلُ فَوْقَهَا إِذَا مَا جَرَى كالرَّازِقِيِّ المُعَضَّدِ. ومثله قول زهير بن أبي سلمى يصف بقرة وحشية: فَجَالَتْ على وَحْشِيِّهَا وكَأَنَّها مُسَرْبَلَةٌ في رَازِقِيٍّ مُعَضَّدِ، وابن منظور يورد بيت زهير شاهداً على أنَّ "المعضَّد: الثوب الذي له عَلَمٌ في موضع العضد من لابسه"، إلا أنه يورد معنى آخر أنَّ المعضد ثوب "مخطط على شكل العضد"، وربما صَحَّ التفسير الثاني أيضاً، ذلك انهم جعلوا في النسيج خطوطاً تشبه أعضاء الجسد، ومن ذلك ذكر امرئ القيس للثوب السابريّ المضلَّع الذي ربما كانت خطوطه على هيئة الأضلاع، قال يصف صاحبته: تَجَافَى عَنِ المَأْثُورِ بَيْني وبَيْنَهَا وتُدْني عَلَيْهَا السَّابِرِيَّ المُضَلَّعَا. وقد يكون معنى "المعضَّل" الشبيهة خطوطُه بالعضلات، في قول ضابئ بن الحارث بن أرطأة البرجمي يشبه فلاةً بثوب: وكَمْ دُونَ لَيْلَى مِنْ فَلاَةٍ كَأَنَّما تَجَلَّلَ أعْلاَها مُلاَءً مُعَضَّلاَ. وليس ذلك غريباً على حائك بلغت به البراعة حدَّ تصوير الرجال في النسيج، كما يُفهم من قول أعشى قيس، ذاكراً أيضاً الخطوط التي على هيئة الريش: يَرْكُضْنَ كُلَّ عَشِيَّةٍ عَصَبَ المُرَيَّشِ والمُرَجَّلْ. أو بلغت به البراعة حَدَّ تصوير رَحْل الناقة في النسيج، ومن ذلك خطوط ثوب صاحبة امرئ القيس، في قوله: خَرَجْتُ بِهَا تَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا على أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ، فالمرحّل هنا: "الموشّى، وهو ضرب من البرود وَشْيُهُ مُعَيَّنٌ كتعيين جَدَيات الرَّحْل". وكثيرة هي الرسوم التي صورها الحائك الجاهلي في النسيج، وهي تمثل أيَّ شيء تقع عليه العين في بيئته القريبة، وإن لم يستبعد الباحث أن يكون هذا الحائك قد نسخ في نسيجه صوراً رآها في نسيج مستورد. ومما أخذه الحائك من بيئته القريبة صورة السهم، وهي تتردد كثيراً في شعر الجاهليين، ومن ذلك قول الحُصين بن الحمام المري: وآلَ لَقِيطٍ إِنَّني لَنْ أسُوأَهُمْ إِذاً لَكَسَوْتُ العَمَّ بُرْداً مُسَهَّمَا، وربما جعل الوشي على هيئة سيف، فقالوا: "البرد المسيَّف" اللسان، وربما ذكر الشاعر الجاهلي "التهاويل" وهو يعني الصور في النسيج، ثم فصَّلها فإذا هي صور طير وحيوان، كما في قول عبدة بن الطبيب: حَتَّى اتَّكَأْنَا على فُرْشٍ يُزَيِّنُهَا مِنْ جَيِّدِ الرَّقْمِ أَزْوَاجٌ تَهَاوِيلُ فِيهَا الدَّجَاجُ وفيها الأُسْدُ مُخْدَرَةً من كُلِّ شيءٍ يُرَى فيها تَمَاثِيلُ. وتضيق هذه العجالة عن ذكر أنواع كثيرة من النسيج تدل، الى جانب ما تقدم، على أنَّ الحياكة في العصر الجاهلي بلغت مستوى يرتفع بالحائك الحرفيِّ عن مستوى البداوة، ويقربه أحياناً من طبقة الفنانين المبدعين، كما تدل على أن العرب، حتى في بواديهم، نعموا بنتاج حرفة الحياكة، وعلى أنَّ الشاعر كان بحقٍّ شاهداً على أحوال عصره ومجتمعه، وقد بدا ذلك واضحاً في شعره الذي رصد حتى الجوانب الدقيقة في حرفة الحياكة. وبعد، فالحياكة التي جاءت تالية في ترتيبها للغزل، شكلت، شأنها في كل عصر، سُلَّماً يفضي الى حرفة نسيجية ثالثة هي الخياطة. * كاتب لبناني في شؤون التراث الشعبي.