كان النسيج وسيلة من وسائل تكيُّف عرب الجاهلية مع بيئتهم، وهم لم يكتفوا باستيراده، بل غزلوه ونسجوه وخاطوه ثياباً وبيوتاً وفراشاً وأستار هوادج ورحال، وربما حصَّلوا خبراتٍ وتقنيات من شعوب احتكوا بها وكانت سابقة في الحضارة، كالفرس والروم وأهل الهند والصين. ولئن شكَّل الغزل والحياكة والخياطة مصادر متكاملة للمنسوجات، فإن كلاً منها كان حرفةً مستقلة، نسبياً، من حيث مصادر خاماتها، ومن حيث عُدَدُها وتقنياتها، ولذلك كان الفصل المنهجي بينها ضرورياً في دراستها وجلاء خصائصها. وربما اقتضانا هذا الفصل المنهجي تقديم دراسة الخامات وإلحاقها بالغزل، على رغم صلتها بالحياكة والخياطة أيضاً، وهي خامات نسيج وصباغ حصَّلها الحرفيّ العربي من محيطه، أو استورد بعضها كالحرير خصوصاً. وهي عموماً خامات نباتية وحيوانية، أسهب الشعر الجاهلي في ذكرها، على سبيل الحقيقة أو المجاز. 1- خامات الغزل: ويمكن، استناداً الى هذا الشعر، والى ما جاء في المصادر اللغوية، اعتماد الترتيب الآتي للخامات: أ - الصوف: ومن أسمائه أيضاً: العهن والبقامة، وقد كثر في جزيرة العرب بحكم عنايتهم بتربية الأغنام، حتى قاسوا مقدار ثروة العربي بوفرة الصوف: وهذا ما عبَّر عنه علقمة بن عبدة بقوله: والمَالُ صُوفُ قَرَارٍ يَلْعَبُونَ به على نِقَادَتِهِ وَافٍ ومَجْلُومُ والقرار: الحَمَل، وقد كان صبيان العرب يلعبون بصغار الخراف. والبيت يحتملُ معانيَ" فشارح المفضليات يرى ان الشاعر "يعني أنَّ الناس مختلفون، منهم الغني المُكثر، ومنهم الفقير الذي لا مال له، كالقرار على صغر أجسامه، منه ما هو وافي الصوف، ومنه مَا لاَ صوف له"، كما يحتمل أنَّ المعنى هو أن الغنم قيمة تبادلية كالنقد، كما يبدو لنا. والثياب المنسوجة من صوف كثيرة، وبينها "النمرة"، وهي "بُردة من الصوف يلبسها الأعراب الصحاح للجوهري، وقيل إنَّ "المرط" الذي ينسج من خَزٍّ عادة قد "يكون من صوف أيضاً"" وهذا قول شارح ديوان أمرئ القيس لقوله: خَرَجْتُ بِهَا تَمْشِي تَجُرُّ ورَاءَنَا على أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ وأكثر ما تردَّدَ ذكر الصوف مقترناً بذكر الإبل والهودج، وسمَّوْه "العهن"" وهو عندهم "الصوف المصبوغ أيَّ لون كان لسان العرب. وممن ذكروه زهير بن أبي سلمى" قال يصف رحلة ونساء في هوادج. كَأَنَّ فَتَاتَ العِهْنِ في كُلِّ مَنْزِلٍ نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ الفَنَا لَمْ يُحَطَّمِ ب - الشَّعر: وقد نسجوا منه ثياب النائحة خصوصاً، كما نسجوا منه بعض كسوة الإبل، غير ما اشتهر من حياكتهم بيوتهم من شعر الماعز ووبر الإبل وأما ثياب النائحات فسميت "السُّلُب" و"الأمساح"، وممن ذكروها لبيد بن ربيعة، وقد قيل انه عندما حضرته الوفاة خاطب ابن أخيه، وتحدث عمَّا ينبغي للنائحات من ثياب حداد، فقال: مُتَسَلِّبَاتٍ في مَسُوحِ الشَّعْرِ أَبْكَاراً وَعُونَا وربما جعلت المرأة الثكلى حمالة ثدييها من شعر إمعاناً في اظهار حزنها ومبالغة في التزهد، كما فعلت الخنساء الشاعرة" ففي خبر أخيها صخر أنه "قاسمها ماله مرَّات كثيرة، وكان يعطيها في كل مرة خير النصفين، ولما لامته زوجه في ذلك قال: واللهِ لا أَمْنَحُهَا شَرَارَها ولَوْ هَلَكْتُ قَدَّدَتْ خَمِارَهَا واتَّخَذَتْ مِنْ شَعَرٍ صِدَارَهَا. فلما قُتِلَ لبست عليه الصدار وأما الإبل فقد نسجوا لها أحزمة من شعر وكسوة مختلفة بينها "الشليل"، وهو "مسح من صوف أو شعر يُجعل على عجز البعير من وراء الرحل" اللسان، وشاهده قول لبيد بن ربيعة على سبيل المجاز: حَتَّى إِذاَ شَقَّ الصَّبَاحُ الفَجْراَ أَلْقَى سَرَا بيلاً شَلِيلاً غَمْرَا ج - القطن: ولعلهم زرعوه في جزيرتهم، فقد ذكروا حَبَّهُ واسمه عندهم "الخيسفوج" اللسان، وشاهد الخيسفوج قول العجاج وهو شاعر أموي: صَعْلٌ، كَعُودِ الخَيْسَفُوجِ، مِئْوَبَا ومن القطن نسجوا أكسية شتَّى، وربما أدخلوه في وَشْي الثياب كالبرجد، وهو "كساء من أكسية العرب" فيه خط "أبيض من قطن" كما قال أبو زيد القرشي في "جمهرة أشعار العرب"، شارحاً بيت طرفة بن العبد في صفة ناقة: أَمُونٍ كَأَلْوَاحِ الإرَانِ نَسَاْتُهَا على لاَجِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ بُرْجُدِ وقد سمَّوا القطعة من القطن سبيخة، وشاهدها قول الحطيئة مشبهاً بالقطن لغام الناقة ومشفريها: وإِنْ غَضِبَتْ خِلْتَ بِالمِشْفَرَيْنِ سَبَائِخَ قُطْنٍ وزِيراً نُسَالاَ وأكثر ما ذكر الشعر القطن باسم "الكرسف"، ومنه قول طرفة بن العبد يصف طقساً وسُحُباً على سبيل التشبيه: وجَاءَتْ بِصُرَّادٍ كَأَنَّ صَقِيعَهُ خِلاَلَ البُيُوتِ والْمَنَازِلِ كُرْسُفُ د - الكتَّان: وقد شاع في ثيابهم، وربما استوردوه من مصر منسوجاً مخيطاً، ومنه "السبائب" و"القبطية" وغيرها. والشعراء الجاهليون يطلقون اسم الكتَّان على الخامة وعلى الثوب المنسوج منها" قال جبَّار بن جزء أخو الشماخ بن ضرار، يصف ثوراً ويذكر الكتَّان بما هو خامة: كَأَنَّهُ مُسَرْبَلٌ وقَدْ فَعَلْ مُلاَء كَتَّانٍ ورَيْطاً مَا احْتَمَلْ وقال أعشى قيس يمدح قيس بن معديكرب وكرمه، مسمياً الثوب باسم الكتَّان: هُوَ الوَاهِبُ المُسْمِعَاتِ الشُّرُوبَ بَيْنَ الحَرِيرِ وبَيْنَ الكَتَنْ ه - الحرير: وأشهر المنسوجات في شعر الجاهليين ما نسج من حرير يؤتى به من الهند والصين غالباً، ومن أسمائه: الدمقس والسندس والخزّ والإضريج والردن. والدمقس تشبه به شحوم الإبل عادة" وقد جاء في هذه الصورة في بيت امرئ القيس المشهور: يَظَلُّ العَذَارَى يَرْتَمِينَ بِلَحْمِهَا وشَحْمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ إلاّ انه غير الحرير عند المنخَّلِ اليشكري، وقد عطفه على الحرير، ما لم يكن هذا العطف من قبيل التكرار أو استجلاباً للرويّ" قال يصف امرأة: الكَاعِبِ الحَسْنَاءِ تَرْفُلُ في الدِّمَقْسِ وفي الحَرِيرِ والحرير، كما نعهده اليوم، ألوان أشهرها الأبيض، ومنه الأصفر وقد سمَّاه الجاهليون "الإضريج"، ومن شواهده قول أعشى قيس يذكر معه نوعاً آخر هو الحرير الأحمر. والبَغَايَا يَرْكُضْنَ أَكْسِيَةَ الإِضْرِيجِ والشَّرْعَبِيَّ ذا الأذْيَالِ ومن ذكر الحرير بلفظ الردن قول عديّ بن زيد: ولَقَدْ أَلْهُو بِبِكْرٍ شَادِنٍ مَسُّهَا أَلْيَنُ مِنْ مَسِّ الرَّدَنْ ومن ذكرِه بلفظ السندس قول المتلمس يمدح قيساً وهو أحد سادات اليمن، ويصف ثوراً: لَهُ جُدَدٌ سُودٌ كأن أَرَنْدَجاً بِأَكْرُعِهِ وبِالذِّراعَيْنِ سُنْدُسُ 2- خامات الصباغ: أكثر الشعراء الجاهليون من ذكر خامات النسيج، كذلك أكثروا من ذكر صباغه، في معرض وصفهم الثياب ووصفهم أستار الهوادج، أو على سبيل التشبيه. ويستفاد من الشعر وشروحه أن خامات الصباغ نبات وتربة، وكانت للعرب تقنيات في استخراجه. ومن أنواع الصباغ عندهم: العندم والصرف والجِساد والورس والزعفران والأرجوان والجريال والبقم، وكانوا في الغالب يستحلبونها استحلاباً أو يطبخونها طبخاً، وربما تخصص حرفيون بطبخ الصباغ كما يستفاد من قول عديِّ بن زيد يشبِّه البرق في سرعة وميضه بالنار في الأشنان: مِثْلُ نَارِ الحُرَّضِ يَجْلُو ذُرَى المُرْنِ لِمَنْ شَامه إِذْ يَسْتَطِيرُ فالحُرَّضَ جمع "حَرّاض"، وهو "الذي يوقد الحرض ليتخذ منه القلى للصبَّاغين". وعلى كثرة ما جاء في شعرهم من ذكر للأصباغ، نجتزئ فنورد ما نراه كافياً للدلالة على اصطناعهم هذه الأصباغ. أ - العندم: وقيل انه البُقْم، وربما استعملته العرب في صباغ الثياب أو استعملته خضاباً لوجوه النساء" فمن استعماله خضاباً ما جاء في قول حميد بن ثور يصف عذارى في هودج، وقد اقترن بذكر الزعفران: سَرَاةَ الضُّحَى مَا رِمْنَ حَتَّى تَحَدَّرَتْ جِبَاهُ العَذَارى زَعْفَرَاناً وَعنْدَما ومن ذكر استعمال العندم في صباغ النسيج، ولا سيما نسيج الهودج، قول زهير بن أبي سلمى برواية التبريزي: وعَالَيْنَ أنماطاً عِتَاقاً وكِلَّةً وِرَادَ الحَوَاشِي لَوْنُهَا لَوْنُ عَنْدَمِ ب - الزعفران: وهو أيضاً من خضاب النساء وصباغ الثياب" قال عمرو بن معديكرب يذكر الزعفران في الثياب: وصِبْغُ ثِيَابِهَا في زَعْفَرَانٍ بِجُدَّتِهَا كَمَا اْحَمرَّ النَّجِيعُ ج - الجساد: وقالوا إنه الزعفران نفسه" ذكروا ذلك في قول طرفة بن العبد، متحدثاً عن مجلس شراب ينادمه فيه فتيان، وتروح بينهم قينة أنيقة في ثياب ملونة: نَدَامَايَ بِيضٌ كَالنُّجُومِ وقَيْنَةٌ تَرُوحُ عَلَيْنَا بَيْنَ بُرْدٍ ومَجْسَدِ فالمجسد: "الثوب المصبوغ بالجساد وهو الزعفران، ويقال: بل هو الثوب الذي أُشبع صبغه فيكاد يقوم من اشباع صبغه، والمسجد لغة فيه". د - المغرة: وهي "طين أحمر يصبغ به "المفضليات، وممن ذكروها مزردبن ضرار الذبياني، في قوله يصف إبلاّ: هِجَاناً وحُمْراً مُعْطِرَاتٍ كَأَنَّها حَصَى مَغْرَةٍ أَلْوَانُها كَالُمَجاسِدِ ه- الأرجوان: وهو كثير الذكر في شعرهم، والرواة مجمعون على أنه "صبغ أحمر"، وربما زادوا فقالوا: "صبغ أحمر مشبع"" قال عمرو بن كلثوم يصف وقعةً وثياب متقاتلين: كَأَنَّ ثِيَابَنَا مِنَّا ومِنْهُمْ خُضِبْنَ بِأُرْجُوَانٍ أَوْ طُلِينَا و - الورس: وقالوا إنه "نبات كالسمسم أصفر يزرع في اليمن"، وهو قول شارح ديوان الأعشى في قوله يصف أسداً في خدره: فَمَا مُخْدِرٌ وَرْدٌ كَأَنَّ جَبِينَهُ يُطَلَّى بِوَرْسٍ أو يُطَانُ بِمُجْسَدِ ويطلعنا الأعشى على تقنيات صنع الصباغ من الورس، وهي خلطه وإذابته في الماء وتحريكه، فيقول: كَأَنَّ المُكْرَهَ المَعْبُوطَ مِنْهَا مَدُوفُ الوَرْسِ أَوْ رُبٌّ عَقِيدُ فالمدوف من "داف الدواء والزعفران يدوفه: خلطه، ودافه في الماء أذابه وضربه فيه حتى يختر ويتماسك". 3- عدة الغازل وتقنيات الغزل: والغزل هو المرحلة الأولى من تلك العملية المتكاملة التي تجعله مع الحياكة والخياطة أشبه بالحرفة الواحدة. والملاحظ أنه مسبوق دائماً بمرحلة لا تنفصل عنه هي ندف الخامات وحلجها، تبعاً لمصدرها، حيوانياً كان أم نباتياً. ويفهم من شعر الجاهليين والمعاجم أنَّ الرجل والمرأة كليهما زاول الندف" ففي "جمهرة اللغة" لابن دريد ذكر لمنفجة النادف وهي "القوس التي يندف بها القطن، ووترها الكِسْل"، وشاهدها رجزٌ لا ندري عصره، إلاَّ انه يدل على أنَّ النادف رجل: وأَبْغِ لَهُ مِنْفَجَةً وكِسْلاَ وأما المرأة النادفة فمذكورة في شعر أو بن حجر، وهو قوله في ناقة: عَلاَ رَأْسَهَا بَعْدَ الهَبَابِ وسَامَحَتْ كَمَحْلُوجِ قُطْنٍ تَرْتَمِيهِ النَّوَادِفُ وهو يعني "أنها إذا همَّتْ لتقوم كَسَا رأسها زبد لغامها وكأنه محلوج القطن الذي تبعثره النوادف". وقد سمّوا الندف "طرقاً"، وهو "ضرب الصوف بالقضيب" تهذيب إصلاح المنطق، ص37، وبذلك نعرف آلتين من آلات الندف: "المنفجة" و"كسلها" أي وترها، والقضيب. وثمة اسم آخر للمندف هو "المحبض" اللسان، وقد ورد ذكر آلة لقطع القطن هي "الجلام" في قول لبيد بن ربيعة يصف ثوراً: حَتَّى إِذَا انْجَرَدَ النَّسِيلُ كَأَنَّهُ زَغَبٌ يَطِيرُ وكُرْسُفٌ مَجْلُومُ وأما القطن والصوف المهَّيآن للغزل فأطلق عليهما اسم "السبيخ" وهو "ما يسبخُ بعد الندف أي يُلفَّ لتغزله المرأة" اللسان. وربما خلطوا خامتين مختلفتين تمهيداً لغزلهما خيطاً واحداً" ففي اللسان بيت لم يذكر قائله ولا ندري عصره، هو: حَلْبَانَةٍ رَكْبَانَةٍ صَفُوفِ تَخْلِطُ بَيْنَ وَبَرٍ وصوفِ ولم يكتفِ الجاهليون بالخامات الأولية في ندفهم وغزلهم" فهم عمدوا الى المستعمل من ثيابهم ففَّككُوه ثم غزلوه من جديد صنيع ما نفعل في أيامنا، وسمّوا ذلك "النكث"، وهو "أن تُنقض أخلاق الأخبية والأكسية، فتُغزل ثانية" تهذيب اصلاح المنطق، ص58. وقد تحدث طرفة بن العبد عن ذلك في معرض مدحه قتادة بن مسلم الحنفي، وهو قوله: أَلْقَوْا إِلَيْكَ بِكُلِّ أَرْمَلَةٍ شَعْثَاءَ، تَحْمِلُ مَنْقَعَ البُرَمِ وهو يعني ب"منقع البرم" كما يقول شارح الديوان أنهم "كانوا ينقعون في البرمة الخيوط التي كانوا يأخذونها من نقض الأكسية والأخبية، ليغزلوها ثانية، ويحوكوها نسيجاً يتخذون منه الأخبية". ونحن نلاحظ في بيت طرفة أنَّ هذه كانت مهمة المرأة. والغزل، كالندف، حرفة الرجل والمرأة على السواء، وأكثر ما اشتغلت به المرأة حتى تمثلت بها كُتُب اللغة" قال الجوهري: "وغزلِت المرأةُ القطن تغزله غزلاً واغتزلته بمعنى.... وأغزلتِ المرأة: أدارت المغزل" الصحاح، وجاراه في ذلك ابن منظور، ثم قال: ونسوةٌ غُزَّلٌ غوازل" اللسان، وشاهده قول جندل بن المثنى الحارثي: كَأَنَّهُ، بِالصَّحْصَحانِ الأَنْجَلِ قُطْنٌ سُخَامٌ بِأَيَادِي غُزَّلِ غير انه استدرك فقال: "على أنَّ الغُزَّل قد يكون هنا الرجال لأن فُعَّلاً في جمع فاعل من المذكر أكثر منه في جمع فاعلة". ونصَّ ابن منظور على أنَّ الغزل مهنة المرأة والرجل في مكان آخر أيضاً، وذكر "الدَّرَّارة" وهي "المغزل الذي يغزل به الراعي الصوف" قال: جَحَنْفَلٌ يَغْزِلُ بالدَّرَّارة". وأضاف: "وأما المُدِرُّ، فهو بتشديد الرَّاء، الغَزَّال"، وكذلك "أَدَرَّتِ الغازلةُ دَرَّاتها إذا أدراتها لتستحكم قوة ما تغزله من قطن أو صوف". وربَّما سمّي الغزَّال الرجل "العَصَّاب"، وكل ذلك يعني ان الرجل والمرأة زاولا الحرفة في الجاهلية باعتبارهما من الرقيق والرعاة، علماً بأن الرعاة عبيد غالباً. واستعمل الغازل والغازلة آلة واحدة، وإن تعددت أسماؤها، فاسم "ما تغزل به المرأة المِغْزَل والمُغْزَل والمَعْزَل" اللسان، وجمعه المغازل" قال عوف بن عطية بن الخرع التميمي: أَتَأْكُلُ أَشْبَاهُ المَغَازِلِ ذِمَّتِي ولمَّا تَكُنْ فيها الرِّبَابُ عَمَاعِمَا؟ وربما صنعوا المغزل من عود عوسج، وهو ما يذكره الشَّمَّاخ بن ضرار في صفة امرأة: مُنَعَّمَةٌ لَمْ تلق بُؤْسَ مَعِيشَةٍ ولَمْ تَغْتَزِلْ يوماً على عُودِ عَوْسَجِ وفي البيت، علاوة على ذكر مادة المغزل، تصريح بأن الحُرَّة لا تزاول الغزل. ومن أجزاء المغزل "الفُلْكَة"" سميت بذلك "لاستدارتها" الصحاح، ف"كلُّ مستدير فلكة". وقد شبَّه بها امرؤ القيس ذروة جبل، فقال: كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيْمَرِ غُدْوَةً مِنَ السَّيْلِ والغُثَّاءِ فُلْكَةُ مغْزَلِ و"يقال للمغزلِ نفسه الدرَّارة والمدرَّة"، و"المبارم: المغازل التي يُبرم بها" اللسان. ومن أسمائه أيضاً "المردن"، وهو "المغزل الذي يغزل به الردن "جمهرة اللغة. وتتشابه تقنيات الغزل عند الجاهليين بحكم تشابه المغازل، وقد توارثها العرب جيلاً بعد جيل حتى بقيت منها في عصرنا بقية، وهي أعواد تشبه السهام في دقتها واستوائها وشكلها الأسطواني، وهي تشبه المسمار المستعمل في البناء من حيث دقة طرفه المدبَّب. وتقنيات الغزل بسيطة، تقوم على جعل العود الى الجهة السفلى، وجعل الفلكة الى الجهة العليا، والغازل يمسك الصوف باليد اليسرى ويفتل العود بُوسْطى يمناه وإبهامها، ما لم يكن أعسر، ومع دوران المغزل تجتذب السَّنَّارة في أعلى الفلكة ووسطها مقداراً محسوباً من الصوف أو القطن، يمرره الغازل بواسطة إبهام اليسرى ووسطاها وسبابتها، كما يمرر حبات المسبحة، فيما تقبض اليد اليسرى على الصوف أو القطن. والغزل عملية تدوير، أي عملية برم وفتل، وإن عنى البرم عندهم فتل حبلين أو خيطين معاً" قال ابو حنيفة: "أبرم الحبل: جعله طاقين ثم فتله... والمبرم من الثياب:المفتول الغزل طاقين"، وقيل إن المبرم هو "الشديد الفتل"، ويقابله "السحيل" وهو الرخو جمهرة اللغة، وشاهدهما قول زهير بن أبي سلمى في مدح الحارث بن عوف وهرم بن سنان: يَمِيناً لِنَعْمَ السَّيِّدَانِ وُجِدْتُمَا على كُلِّ حالٍ مِنْ سَحِيلٍ ومُبْرَمِ وهذا مجاز أصله "أنَّ المبرم يفتل خيطاه ثم يصيران خيطاً واحداً، والسحيل: خيط واحد لا يُصمَّ إليه آخر. ويقال: السحيل: الذي قد مُدَّ ولم يُفتل بعد". وربما كان البريم خيطاً "يُفتل من قوىً بيضٍ وسود"، كما قال حميد بن ثور: طِرْفٍ أَثِيلٍ مَعْقِدِ البَرِيمِ عَارٍ لَطِيفِ مَوْضِعِ السُّمُومِ ومن تقنيات الغزل "الردن"، وهو "الغزل يُفتل الى قُدَّام، وقيل: هو الغزل المنكوس... وقيل: الردن: الغزل الذي ليس بمستقيم" اللسان، واستشهد ابن دريد في جمهرته على ذلك قول الأعشى: فَأَفْنَيْتُهَا وتَعَلَّلْتُهَا على صَحْصَحٍ كَرِدَاءِ الرَّدَن وإن قال شارح ديوان الأعشى إن الردن في البيت: الخزّ. وأيّاً ما كان الخيط، على طاق واحد أو على طاقين، فإنه يُجمع على عود المغزل تحت الفلكة، بأن يحرر ما فُتِلَ من السَّنَّارة ويلفَّ على العود، حتى إذا تجمع على هذا العود مقدارٌ جرى فصله وجمعه في ما يشبه الكرة، وهو كُبَّةُ الغزل، واسمها مأخوذ من "الكُبِّ"، وهو "الشيء المجتمع من تراب وغيره" جمهرة اللغة. وعملية الفصل هذه أشبه بالتعرية، حتى جاز للأعشى أن يشبِّه نفسه وقد خسر ماله بالمغازل التي تُعرَّى من الخيوط التي تُمِرُّها المغازل، وهو قوله: وعُرِّيتُ مِنْ وَفْرٍ ومَالٍ جَمَعْتُهُ كَمَا عُرِّيَتْ مِمَّا تُمِرُّ المَغَازِلُ هذا بعض ما جاء في الشعر الجاهلي داّلاً على شيوع الغزل في عرب الجاهلية، ومعرفتهم بتقنياته وأدواته، وهي تقنيات وأدوات تحمل على الظن أنَّ المغازل كانت كثيرة، وأنَّ الغازلين والغازلات كانوا كثيرين، حيث استطاع العرب انتاج ما يفي بحاجاتهم الى اللباس والأخبية وكسوة المطايا، وهي كثرةٌ تبررها طاقة المغزل اليدوي المحدودة على الانتاج. والمغزل اليدوي، شأنه شأن سائر آلاتهم الحرفية، شاهد على درجة رقي بلغوها في جاهليتهم، تقطع بأنَّهم لم يكونوا بدائيين بمعايير ذلك الزمان. * باحث لبناني في شؤون التراث الشعبي.