كانت الحيرة والموصل والانبار من المدن العراقية القديمة التي اشتهرت بانتاج المواد الاولية للمنسوجات وصناعة الثياب قبل الاسلام، ثم تطورت بعد الفتح الاسلامي. فالحيرة عرفت بانتاج افضل انواع الاقمشة الصوفية التي اصبح جزء منها بعد الفتح الاسلامي في خلافة عمر بن الخطاب يدفع ضمن الجزية التي كانت مقررة عليهم لبقائهم على المسيحية. كما اشتهرت الموصل بانتاج المنسوجات القطنية والصوفية في حين اشتهرت الانبار بانتاج الاقمشة الكتانية. ومع تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية تطورت صناعة الانسجة وظهرت طرز جديدة من الثياب الرجالية والنسائية ارتبط بعضها بنوع خاص من النسيج كما حدث في زمن سليمان بن عبدالملك الذي "كان يلبس الثياب الرقاق وثياب الوشي، ففي ايامه صنع الوشي الجيد باليمن والكوفة والاسكندرية ولبس الناس جميعاً الوشي جبايا واردية وسراويل وعمايم وقلانس، وكان لا يدخل عليه اهل بيته وعماله واصحابه ومن في داره الا في الوشي. ومن مبالغته في حبه للوشي انه كان لباسه في ركوبه وجلوسه على المنبر والا يدخل عليه احد من خدامه الا في الوشي، حتى الطباخ كان يدخل اليه في صدره وشي وعلى رأسه طويلة وشي" كما يذكر السعودي. وذكر انه اوصى بأن يكفن بالوشي بعد وفاته، وكان نهماً يتناول الدجاج المشوي من سفوده وعليه جبة الوشي ويتفادى سخونتها بكمه حتى يقبض على الدجاجة فيفصلها عن السفود. وكان الخليفة هارون الرشيد قد عرضت عليه جباب بني امية ونظر الى جباب سليمان ولم يدر ماعلة اثر الدهن على كم كل جبة منها حتى حدثه الاصمعي عن نهم سليمان وطريقة تناوله الدجاج الساخن فكسى الاصمعي منها جبة فلبسها الاصمعي وكان يفتخر قائلاً: هذه جبة سليمان التي كسانيها الرشيد. منسوجات البصرة وملابسها الجاهزة خلال التطور تحولت مدينة البصرة بعد تمصيرها الى مصدّر للالبسة الجاهزة المخيطة، خصوصاً القطنية والصوفية التي كانت تصدر الى المدن الاسلامية في شتى الانحاء، ومن هذه الملابس الاكسية والمطارف والربط. اما الكساء فهو اللباس الخارجي الذي يرتدى فوق بقية الملبس مثل العباءة والجبة والقباء. والمطرف هو قطعة من النسيج المربع المعلم بطرفين حيث ينتهي الطرفان بحاشية، وقد كان معروفاً منذ الجاهلية. وكان معروفاً عند العرب ايضاً المرط وهو كساء من خزّ او مرعزي او من صوف. وسمت العرب الملاءة مرطاً ايضاً وهو الذي ورد في معلقة امرئ القيس وهو يمضي مع فتاته ليلاً: خرجت بها امشي تجرٌ وراءنا على اثرينا ذيل مرط مرحّل. والمرحل هو المنقوش بنقوش تشبه رحال الابل. كما عرف عند العرب الدرع وهو قميص المرأة، والمجول وهو ثوب تلبسه المرأة الصغيرة وقد ورد في المعلقة نفسها: الى مثلها يرنو الحليمُ صبابةً اذا ما اسبكرت بين درع ومجولِ. والاسبكرار هو الطول والامتداد، وبذلك يصف امرؤ القيس امرأة في مواصفات الجمال العربي الجاهلي. واصبح المطرف في العصور العباسية يصنع من الانسجة الثمينة وكان يطرز بخيوط الذهب فدخل في عداد الخلع التي كان الخليفة يخلعها على الشخصيات المهمة ورجال الدولة وشعراء وفناني البلاط العباسي. ودخلت المطارف المذهبة في عداد خلع الخليفة المقتدر بالله التي خلعها على سفير الدولة البيزنطية عندما زار بغداد العام 305 هجرية. وغالباً ما كانت المطارف تصنع من الخز الذي ندخل في حياكته خيوط الحرير. وكن الظرفاء في العصر العباسي يطرزون مطارفهم بأبيات من الشعر. الكوفة وخمارها الاسود أما الكوفة فقد نافست البصرة في صناعة الملابس الجاهزة والمنسوجات، وعرف عنها جودة بعض ضروب صناعاتها النسيجية القطنية والحريرية مثل عمائم الخز والمناديل والازر والريط والخُمُر. وعرف المنديل الرجالي الذي يشد على الرأس بپ"الكوفية" نسبة الى الكوفة وما يزال استعمالها شائعاً حتى اليوم. اما الازار فيلف به القسم الوسطي والسفلي من الجسم على الاغلب، ويمكن استعماله بطريقة اخرى اذ يؤتزر به بالجزء العلوي مروراً باحدى الكتفين. لكن الزبيدي في "تاج العروس" يعرفّه بأنه هو الذي يرتديه الرجل من تحت العاتق الى ما دون الوسط والاسفل. وكانت تجارة الخُمُر رائجة، وكانت تصدر من الكوفة. ومن طريف ما يروى عن تجارة الخمر ان تاجراً من الكوفة ذهب الى المدينة لبيع الخمر فباعها كلها الا الخمر السوداء فقد كسدت فشكا امره الى الشاعر مسكين الدارمي فروج علها اعلانياً بأبيات من الشعر اشتهرت: قلل للمليحة في الخمار الاسود ماذا فعلت بزاهدٍ متعبدِ قد كان شمر للصلاة ثيابه حتى وقفت له ببابِ المسجدِ ردي اليه صلاته وصيامَه لا تقتليه بحق دين محمدِ. وبعد الترويج الشعري هذا نفدت الخمر اذ لم تبق ظريفة في المدينة الا ابتاعت خماراً اسود وتحول الى موضة في ذلك العام. وتحولت واسط بعد بنائها من قبل الحجاج بن يوسف الثقفي والي الامويين على العراق الى مركز رئيسي للمنسوجات خصوصاً نسج البسط والستور الواسطية التي اشتهرت في كل انحاء العالم الاسلامي وكانت مضرب المثل بجودتها وارتفاع أسعارها. كما اشتهرت مدينة ميسان العمارة بين البصرة وواسط بصناعة الانماط والوسائد. واشتهرت الموصل بصناعة الستور والملابس الصوفية. اما بغداد فقد كانت مليئة بمعامل صناعة النسيج والثياب الجاهزة وكانت تصدر الى المدن العراقية والاسلامية الاخرى الثياب الحريرية الفاخرة ذات الالوان البهيجة والاقمشة القطنية والعمائم الرقيقة والمناديل والثياب العتابية الشهيرة التي كانت تحاك من خيوط القطن والحرير. كان الطراز يعني في بداية ظهوره التطريز، ثم صارت الكلمة تطلق للدلالة على الشريط الكتابي المطرز المضاف الى قطعة النسيج. وكان لون الطراز يختلف عادة عن لون النسيج المضاف اليه. وقال الشاعر يصف نهر دجلة: كأن دجلة طيلسان أبيضٌ والجسر يبدو كالطرازِ الاسودِ. وتطورت كلمة الطراز ودلالتها فاصبحت تطلق على معامل النسيج التي سميت "دور الطراز" على نفس دلالة "دور السكة" التي اطلقت على دور ضرب النقود. وكانت دور الطراز حكومية تخضع لاشراف الدولة ويتولى الاشراف عليها عادةً كبار الشخصيات في الدولة مثل جعفر بن يحيى البرمكي الذي تولى الاشراف على دور الطراز في عهد الخليفة هارون الرشيد وعلي بن عيسى وزير الخليفة المقتدر وحامد بن العباس وزير الخليفة الراضي بالله. ويبدو ان الثياب اصبحت بهية الالوان ورقيقة النسج وقد قال السري الرفاء: ثوبٌ تمزقه الأنامل رقةً ويصيبه الماءُ القراحُ فينهجُ وكأنه لما انتهى في خضرةٍ ثوبان ذا عاجٌ وذا فيروزج أسعار الملابس في عهود اسلامية مختلفة كان الحسن البصري يلبس ثوباً بأربعمئة درهم، وكان فرقد السندي يلبس المسوح، فلقيه الحسن البصري فقال: "يا ابا سعيد ما ألين ثوبك! فقال الحسن: "يا فريقد ليس لين ثيابي يباعدني من الله، ولا خشونتها تقربك منه، ان الله جميل يحب الجمال". وكان الفقيه والمحدث سعيد بن المسيب يلبس الحلة بالف درهم ويدخل المسجد، فقيل له عن غلاء ثيابه فقال: "ان أجالس ربي. وكانت العمائم تيجان العرب كما وصفها الخليفة عمر بن الخطاب. وكان السيد وشريف القوم يتعمم بعمامة صفراء، وسمي الزبرقان بن بدر بذلك لصفرة عمامته لأن الزبرقان هو اللون الاصفر. وقال ابو الاسود الدؤلي عن العمامة "انها جنة في الحرب ومكنة في الحر ومدفأة في القر، ووقار في الندى وزيادة في القامة وتعظيم للهامة". وكانت اسعار الملابس الجيدة واللينة غالية. وقد فعل الخليفة عمر بن عبدالعزيز عكس ما فعله الخلفاء الامويون قبله. فقبل خلافته كان يشتري الحلة بأربعين ديناراً فاذا لبسها استخشنها، فلما اتته الخلافة كان يشتري له قميص بأربعة دراهم فاذا لبسه استلانه، وقال: اني اخشى ان أسأل عن لينه يوم القيامة. وقد قومت ثياب عمر بن عبدالعزيز وهو خليفة باثني عشر درهماً وهي قميصه وخفه وعمامته وسراويله وفلنسوته. وكان الابجر يعتبر من اظرف الناس وأحسنهم هيئة لأن حلته بمئة دينار وفرسه بمئة دينار ومركبه بمئة دينار. وكانت الاسعار قد شهدت ارتفاعا مستمرا، فسعر القميص القطني في زمن الامام علي بن ابي طالب كان يتراوح بين 3 و4 دراهم لكنه ارتفع في زمن الامويين الى 6 دراهم ثم اصبح 14 درهماً. لكن المنسوجات الجيدة كانت اغلى خصوصاً المصنوعة من الحرير او الخزة فالطيلسان الكردي، وكان مشهوراً بمتانته وجودته كان يساوي 100 درهم وكذلك البرد اليماني المشهور فان سعره يصل الى 100 درهم. اما كساء الخز فتصل قيمته الى 500 درهم. وقد وصلت اسعار بعض الاكسية الخاصة الى 2000 درهم. وعلى سبيل المثال كان سعر ثوب القاضي عمر بن يوسف 70 ديناراً كما يذكر الخطيب البغدادي. انواع الملابس في الشعر اشتهرت انواع محددة من الملابس في العصور الأولى، منها البرود، وأشهر ماركاتها البرد اليماني. ولكن هناك اخرى مثل النجرانية والعدنية وهي من اليمن. قال الشاعر: اذا النفر السود اليمانون حاولوا له نسج برديه ادقوا وأوسعوا وورد ذكر لبرود ظهرانية وقطرية وهي برود حمراء لها اعلام فيها بعض الخشونة كانت ترد الى البصرة في اول تأسيسها وقال فيها الشاعر: كساك الحنظلي كساء صوف وقطريا فأنت به تقيدُ لكن لم يرد بعد ذلك ذكر لأي من المنسوجات القطرية حيث حلت محلها المدن الاسلامية، كما وردت بعض مصنوعات العراق المشهورة في الشعر العربي. قال احد شعراء بني هذيل: كأن الارجوان على ذراها وديباج العراق دمٌ نجيرٌ وورد ذكر الريطة العراقية: على الاحداج واستشعرن ريطا عراقياًوقسياً مصوبا الملابس في العصر العباسي حين بني ابو جعفر المنصور مدينة بغداد جعل الاسواق في اماكن محددة وحسب طبيعة السلع اذ ابعد القصابين مثلاً عن وسط المدينة لأسباب امنية اذ قال انهم سفهاء وبيدهم الحديد القاطع فخاف على الناس من خصوماتهم، ولأسباب صحية اذ ان الذبح وغسل الذبائح يستدعيان جريان مياه غير نظيفة وليست طيبة الرائحة. ولذلك وضع اسواق الملابس والمنسوجات والعطور والحلي وسط المدينة وجعلها طاقات مسقوفة. وكانت الاسواق متخصصة، فكان هناك سوق مستقل باسم سوق البزازين الذين يبيعون الاقمشة ويبدأ هذا السوق من قنطرة انشئت على نهر يدعى نهر البزازين، ويبدو ان اغلب الاسواق انشئت على انهر صغيرة تصل بين دجلة والفرات او تخرج من الفرات في شمال بغداد وتصب فيه في جنوبها على سبيل المثال نهر باسم نهر الدجاج عليه سوق الدجاج، وهي محلة ما تزال قائمة في كرخ بغداد حتى اليوم ولكن الانهر انطمست. وكانت هناك دار تسمى "دار القطن" تتولى حلج القطن ونسجه. كما كانت هناك محلة تدعى العتابية نسبت اليها اشهر الثياب العباسية التي سميت باسم المحلة وهي الثياب العتابية التي كانت تنسج وتصنع في هذه المحلة بحياكة خيوط الحرير والقطن بألوان مختلفة، واختصت هذه المحلة بتلك الصناعة. وليس بعيدا عنها تقوم دار القز الخاصة بصناعة الورق. كما اشتهرت في بغداد محلة التستريين على نهر دجلة التي اختصت بالثياب التسترية التي وردت في اشعار وقصص كثيرة. ويذكر ابن الجوزي في "مناقب بغداد" ان هناك سوقاً متخصصاً ببيع الفراء والملابس المصنوعة من الفرو وهذا السوق يسمى سوق الفرائين ويبدو ان النحوي الشهير الفراء كان يعمل فيه اذ ان اغلب المثقفين المسلمين كانوا يعملون في الحرف كالزجاج والحلاج والرفاء والخياط والزيات وغيرهم. وكانت تباع في اسواق بغداد البرود اليمانية المشهورة المستوردة من اليمن، والعصائب التي يشد بها الرأس وكانت من الحرير مربعة الشكل ذات لون اسود. ويبدو ان الصناعات المحلية لم تكن تسد حاجة الاستهلاك في بغداد، العاصمة العالمية آنذاك، فاستوردت اسواق بغداد الديباج والعمائم والملاءات التي تطرح فوق الكتفين كانت ذات خطوط زرقاء وبيضاء. وكانت المسوح تجلب من الموصل وهي اكسية من الشعر وكانت لبس المتصوفة والرهبان والزهاد. اما من مدينة امد فكانت ترد ثياب الصوف والكتان عبر السفن التجارية التي تمخر مياه الفرات ثم تنزل الى بغداد عبر نهر عيسى الذي كان يربط النهرين عند بغداد. كما كانت اسواق بغداد الخاصة بالملابس تستورد من الفيومودمياط ودبيق الثياب الكتانية، وكانت الثياب الدبيقية المطرزة والمحلاة بكتابات وأشعار وأدعية بالخط الكوفي اغلى الملابس وكانت ملابس الخليفة منها، كما كانت خلعه من هذا النوع ايضاً. وكان معدل الاستيراد السنوي من ملابس دمياط يصل الى 30 الف دينار. كما كان يصل سنوياً الى اسواق بغداد 5 آلاف ثوب من الثياب التوزية المنسوبة الى مدينة توز في فاس وهي ثياب رقيقة شفافة. ويقول الجاحظ في كتابه "التبصر بالتجارة" ان تجار بغداد استوردوا التكك الصوفية من ارمينية وكانت تربط بها السراويل ونهايتاها مطرزتان بالحرير الملون. * كاتب عراقي.