لا يزال الشعر الجاهلي مصدراً أساسياً يخبرنا بأحوال عرب الجاهلية، وينطق بمظاهر عيشهم وتقاليدهم، ومن ذلك ما احترفوه من حرف يدوية، وما اقتنوه من أدوات حضارة ارتبطت مباشرة بأنماط عيشهم، في بواديهم وحواضرهم على السواء. ومن شأن دراسة الحرف اليدوية في العصر الجاهلي ان تطلعنا على صحة القول ببدائيتهم أو عدم صحته. والواقع أن العرب عرفوا الكثير من الحرف التي لبَّت حاجاتهم المعيشية المادية، أو لبَّت حاجاتهم الترفيهية، ومكنتهم من التكيف مع الظروف البيئية والمحيط، وقلّصت الى حدٍّ بعيد من الفارق في التحضُّر الذي كان قائماً بينهم وبين شعوب سابقة في هذا المضمار، وكانت بينهم وبينها صلات تجارية أو حروب. لم تعدم البوادي والحواضر في جزيرة العرب حِرفاً يدوية لبّت الكثير من حاجات الجاهليين، الى جانب ما استوردوه من مصنوعات من خارج الجزيرة. وطبيعي ان تشيع الحرف في الحواضر على نطاق أوسع من نطاق شيوعها في البوادي" ويفسَّر ذلك بدواعي الترف والاستقرار في الحواضر العربية قبل الإسلام. ولما كانت المدن الرئيسية واقعة على طرق التجارة بين الشرق والغرب، فقد كان من الطبيعي أن يتأثر سكانها العرب بحرف الأمم المتقدمة المجاورة أو البعيدة، مثل بيزنطة وفارس والهند والصين والحبشة، والشواهد الشعرية التي تتحدث عن احتكاكهم بهذه الأمم غير قليلة. وإذ يصعب الحديث عن حرف تخصص بها البدو، وحرف تخصص بها الحضر، وإن تفاوتت درجات التحضر في المجتمعين، فإن من الضروري ان نأخذ في الاعتبار امرين أساسيين: الأول ان الاحتكاك بين هذين المجتمعين لم ينقطع" فقد كان على العرب في داخل الجزيرة ان يسيّروا رحلتين على الأقل رحلة الشتاء ورحلة الصيف شمالاً وجنوباً، وأن يدخلوا في معاهدات مع القبائل المنتشرة على طرق التجارة، تتولى فيها هذه القبائل حماية قوافل التجارة من الغارات" علاوة على حركة انتقال الشعراء ورؤساء القبائل والتجار الى الممالك المستقرة في اليمن والحيرة والشام" والشعر الجاهلي حافل بالحديث عن وفود الشعراء على البلاطات، وعن أعطيات الملوك وجوائزهم، ولا نعدم فيه حديثاً عن الحرف وعن أدوات الحضارة. وطبيعي ان يؤثر هذا الاحتكاك في حياة البدو، وأن تتطور عاداتهم الاستهلاكية، وأن يأخذوا عن الحواضر الحرف التي تجد خاماتها في الداخل والجوار وتلبي حاجاتهم الأساسية" والأمر الثاني ان طبيعة البادية نفسها فرضت على البدوي حاجات ضرورية تتصل بسكناه ولباسه وطعامه وارتحاله. بناء على ما تقدم يمكن الحديث عن انتشار حرف أساسية، كالنجارة والحدادة والغزل والنسيج والخياطة والدباغة في الجزيرة العربية. أ- النجارة: ان طبيعة البادية أعوزت العربيّ الى النجّار، شأن أهل الحواضر، مع تفاوت في درجات الحاجة هنا وهناك، فالنجارة والأخشاب في البادية تلبي الضروريات فيما هي في الحاضرة تلبي الضروريات والكماليات معاً كما بكّر ابن خلدون في القول "فأما أهل البدو فيتخذون منها العُمُد والأوتاد لخيامهم والحدوج لظعائنهم والرماح والقِسِي والسهام لسلاحهم. وأما أهل الحضر فالسقف لبيوتهم والأغلاق لأبوابهم والكراسي لجلوسهم" المقدمة. وعلى رغم موقف الازدراء الذي وقفه العربي من الحرفيين عموماً، فإننا لا نستبعد ان يكون النجارون في الجزيرة كثراً، وأنهم كانوا ذوي حذق في حرفتهم، بغض النظر عن كثرتهم هنا أو قلتهم هناك، وعن مستويات منتوجاتهم التي لا شك في أنها كانت عالية الجودة في الحواضر العريقة" فهذا الدكتور جواد علي يحدثنا مثلاً عن أن الرحالين والمنقبين عثروا "على ألواح من الخشب وعلى شبابيك ومواد خشب اخرى في اليمن وحضرموت، منقوشة نقشاً بديعاً" المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. وليس هذا غريباً" "ذلك أنه إذا عظمت الحضارة وجاء الترف وتأنق الناس في ما يتخذونه من كل صنف من سقف أو باب أو كرسي أو ماعون، حدث التأنق في صناعة ذلك" كما يقول ابن خلدون. والأخبار التي تتحدث عن وجود النجارين في جزيرة العرب في المصادر غير الشعرية كثيرة، وهي في الشعر شواهد على ذلك. وحسبنا ان الشعراء تحدثوا بكثرة عن نجارة الرحال في اليمن والحيرة وغيرهما" ففي اليمن صنعت رحال جيدة وصفها النابغة الذبياني بالكمال، وقال إن إهداءها مع الناقة مما يُمدح به الأشراف أمثال هَوْذَة بن ابي عمرو العذري الذي: يَهَبُ الجوادَ بِسَرْجِهِ ولِجَامِهِ والغسْسُّ تَخْطُرُ بِاليَمَانِي الكَامِلِ فاليماني "ها هنا: الرحل يعمل باليمن. والكامل: التام". وأما رحال الحيرة فامتدحها النابغة نفسه، فقال في صفة جمل: والأُدْمُ قَدْ خُيِّسَتْ فُتْلاً مَرَافِقُهَا مَشْدودَةٌ بِرِحَالِ الحِيرَةِ الجُدُدِ ويفهم من ذكر الحيرة ورحالها في الكثير من شعرهم، ان الرحال الحارية، كالرحال اليمنية سواء بسواء، كانت شائعة في الجزيرة العربية، غير محصورة في مكان صنعها. وأما البادية فلم تحرم النجارين الذين صنعوا الرجال من شجرها، وهو ما يتضح عند دراسة النجارة تفصيلاً، وحسبنا الإشارة الى أن الشعراء ذكروا قبائل تخصصت بصنع الرحال، وأن أشخاصاً بأعيانهم برعوا في صنعها أمثال علاف، وهو من قبيلة قضاعة، وممن ذكروه الأعشى الكبير في قوله: وكُورٍ عِلاَفِيٍّ وقِطْعٍ ونُمْرُقٍ ووَجْنَاءَ مِرْقَالِ الهَوَاجِرِ عَيْهَمِ 2- الحدادة: وكالنجارة كانت الحدادة شائعة في البادية والحاضرة. وفي المصادر غير الشعرية الكثير من الأخبار التي يمكن العودة إليها في شأن الحدادة وانتشار محترفاتها. وأما الشعر فلم يقصّر في ذلك، ففي الحيرة حدادون قيون الى جانب النسّاجين وغيرهم، وأشار الى ذلك عمرو بن كلثوم، فقال في شأن سليمى ام النعمان بن المنذر: إذ لا تُرَجِّي سُلَيْمى أنْ يكونَ لها مَنْ بِالخَوَرْنَقِ مِنْ قَيْنٍ ونَسَّاجِ وهذا ينطبق على الحواضر الأخرى، ولا سيما اليمن التي كانت مشهورة بحدّاديها حتى ذمّ الشعراء أهلها جميعاً وعيّروهم بأنهم قيون، فلا يسلم شاعر كحسان بن ثابت، وهو أكثر من عبَّر القيون، من ردّ التهمة عليه وتعييره بأنه من سلالة قيون يمنيين، عيّره بذلك أمية بن خلف فقال: أليسَ أبوكَ فِينَا كانَ قَيْناً لدى القَيْنَاتِ، فَسْلاً في الحِفاَظِ يَمانِياً يظَلُّ يَشُدُّ كِيراً وينْفُخُ دَائِباً لَهَبَ الشَّوَاظِ؟ وذكر الحدادون في مكة، حتى أنهم سمّوا جبلاً يطل عليها باسم رجل حدّاد، وهو جبل أبي قبيس، "لأنه أول من بنى فيه"، كما ينقل الدكتور جواد علي عن مصادره. كما ذكر كثيراً صحابي حداد هو خبّاب بن الأرت، ونقلوا عنه قوله: "كنت قيناً في الجاهلية"، وذكر حدادون آخرون أمثال عقبة بن أبي معيط، والوليد بن المغيرة، وأُبَيُّ بن خلف، ومن الأجانب "الأزرق بن عقبة، أو عقبة الثقفي، غلام الحارث بن كلدة الثقفي، ذكر انه كان رومياً حداداً" المفصل. وقد هجا حسان بن ثابت كثيراً الحداد الوليد بن المغيرة، كما هجا حداداً آخر هو العاص بن هشام بن المغيرة الذي ذكرت المصادر انه كان له "غلمان قيون"، الأمر الذي يسمح باستنتاج ان الورشة المانيفاكتورة عرفت في جزيرة العرب في الجاهلية، وأن العمل الحرفيَّ لم يكن دائماً عملاً فردياً. وأما مدينة الطائف، وهي مدينة الدباغ، فلم تخل من حدادين كما تقول المصادر. ويبقى أن الحدادين في البوادين كانوا فئتين: فئة مقيمة، وفئة كانت وافدة تتنقل بين القبائل وتؤدي لها خدمات، ويروون في ذلك نوادر، منها نادرة تتصل بحداد اسمه سعد، وكان إذا طال به المقام في قبيلة ولم يستعمله احد يدعي انه مغادر غداً حتى يستعملوه، فلما كثر منه ذلك نسب الى الكذب والاحتيال، وصار كل قين غير أمين كما يقول أوس بن حجر: بَكَرَتْ أُميَّةُ غُدْوَةً بِرَهينِ خَانَتْكَ إنَّ القَيْنَ غيرُ أمينِ وذكروا بني القين كثيراً، وسموهم "عرب القين"، وقال بلاشير إنهم استوطنوا البتراء قبل الإسلام، فيما ذكرهم النابغة الذبياني من دون ان يعين موطنهم، وإن نسبهم شارح ديوانه الى قضاعة، يقول النابغة: وحلَّت في بَنِي القَيْنِ بنِ جَسْرٍ فقَدْ نَبَغَتْ لنَا منْهُمْ شُؤونُ وتجعلهم مصادر اخرى فرعاً من أسد، وإلى أسد هذه قالوا إن الكاهلي الحداد أو الهالكي الحداد ينتسبان. وممن ذكره بلفظ الهالكي لبيد بين ربيعة في صفة ثور: جُنُوحَ الهالكيِّ على يَدَيْهِ مُكِبّاً يَجْتَلِي نُقَبَ النِّصَالِ وممن ذكره بلفظ الكاهلي الحطيئة، وأسهب في الحديث عن ان امرأة هذا الكاهلي فركت زوجها وقتلته بالسم، يقول الحطيئة: ولم أكُ مثلَ الكاهِلِيِّ وعِرْسِهِ سَقَتْهُ على لوحٍ دِمَاءَ الذَّرَارِحِ وإلى جانب هؤلاء وهؤلاء يشير الشعراء الى حدادين مجهولي النسب والموطن، يقول أوس بن حجر في صفة سيف، ذاكراً حداداً اسمه ابن مجدع: وذَا شُطُبَاتٍ قَدَّهُ ابْنُ مُجَدَّعٍ لهُ رَوْنَقٌ ذِرِّيُّهُ يَتَأَكَّلُ ويقال إن ابن مجدع هذا قين مشهور بصنع السيوف. ويذكر الأعشى حداداً من بني خفاجة، وهم "حيٌّ من العرب" كما يقول ابن دريد، يقول الأعشى: وأَدْفَعُ عنْ أَعْرَاضِكُمْ وأعيرُكُمْ لِسَاناً كَمِقْراض الخَفَاجِيِّ مِلْحَبَا. 3- الغزل والحياكة والخياطة: وحاجة العرب الى الغازل والحائك والخياط أشدّ، فاللباس اكثر ضرورة عندهم، وكذلك البيوت المنسوجة من وبر أو شعر، وما كُسِيَ به الرحل والهودج، الخ... ويمكننا افتراض ان هذه الحرف الثلاث المرتبط بعضها ببعض حتى كادت ان تكون حرفة واحدة، كانت اكثر ازدهاراً من سائر الحرف في جزيرة العرب، الى جانب ما استورده العرب من منسوجات الهند والصين وغيرهما. وتشير المصادر غير الشعرية بإسهاب الى مواطن ازدهار النسيج عموماً في الجزيرة حاضرة وبادية، وفي الشعر مصداق لهذه الإشارات، ولاسيما حديث الشعراء عن منسوجات اليمن، يقول طرفة بن العبد مثلاً، ذاكراً قريتي ريدة وسحول المتخصصتين بهذه الحرفة: وبالسَّفْحِ أيَاتٌ كَأَنَّ رُسُومَهَا يَمانٍ وَشَتْهُ رَيْدَةٌ وسَحُولُ ويذكر الشعراء أن ثرمداء وصنعاء اليمنيتين تخصصتا بصناعة البرود، قال حميد بن ثور، معتبراً أن البرد يكون أجمل إذا كان موشىً في هاتين البلدتين: ما بَالُ بُرْدِكَ لَمْ يَمْسَسْ حَوَاشِيَهُ من ثرمداءَ ولا صنعاء تَحْبِيرُ ويذكر نابغة بن جعدة الثياب الحضرمي، فيقول في صفة ساق: يُدِيرُ علينَا كَأْسَهُ وشِوَاءَهُ مَنَاصِفَهُ والحَضْرَمِيَّ المُحَبَّرا كما يذكر بشر بن أبي خازم النصع الحميري، فيقول في صفة ثور: فَجالَ كأنَّ نِصْعاً حِمْيَرِياً إذا كَفَرَ الغُبارُ بِهِ يَلُوحُ وذكر الشعراء منسوجات وملابس منسوبة الى شرعب، ومن هؤلاء الأعشى، قال يصف امرأة في ثياب النوم: يَنُوءُ بها بُوصٌ إذا ما تَفَضَّلَتْ تَوَعَّبُ عَرْضَ الشَّرْعِبيِّ المُغَيَّلِ وأما العراق فاشتهر كذلك بالغزل والحياكة والخياطة. وقد مرَّ ذكر النساجين في بيت لعمرو بن كلثوم، وإشارته الى وجودهم في قصر الخورنق. وأكثر ما ذكرت منسوجات الحيرة، وامتدحت جودتها. والطريف ان نعثر على إشارة عند حميد بن ثور الى أن النسيج كان يختم في العراق، يقول: تَخَيَّرْنَ إِمّا أُرْجُوَاناً مُهَذَّباً وإِمّا سِجِلاَّطَ العِراقِ المُخَتَّمَا وكثر ذكر النسيج الحاري، وممن ذكروه أبو قيس بن الأسلت الذي زيّن رحل ناقته بالطنافس المعقومة أي الموشاة وبالطنافس الأقطاع، يقول: أُزَيِّنُ الرَّحْلَ بِمَعْقُومَةٍ حَارِيَّةٍ أو ذَاتِ أَقْطَاعِ ويذكر الشعراء الثياب المصنوعة في ميسان، وهي "بلد من كور دجلة أو كورة بسواد العراق. النسب إليه ميساني وميسناني. الأخيرة نادرة"، يقول أبو دؤاد الإيادي في نساء يختمرن بالخُمُر: ويَصُنَّ الوُجُوهَ في المَيْسَنَانِيِّ كما صَانَ قَرْنَ شَمْسٍ غَمَامُ ويقول حميد بن ثور في ثياب امرأة: وجاءَتْ يَهُزُّ الميسنانيُّ مَشْيَهَا كَهَزِّ الصَّبَا غُصْنَ الكَثِيبِ المُرَهَّمَا أما في الشام فازدهر الغزل والحياكة والخياطة بحكم احتكاك اهلها بالروم، وهم أسبق في التحضر، و"كانت بعض الثياب المستوردة من بلاد الشام ومصر ومن الأرضين التي تسودها اكثرية نصرانية ترد وعليها صلبان منسوجة" كما يقول الدكتور جواد علي في مفصله. ومن المنسوجات المشهورة "القبطية"، وقيل إنها صنعت في مصر والشام، وذكرها زهير بن أبي سلمى، فقال مهدداً بالهجاء: لَيَأْتِيَنَّكَ منِّي مَنْطِقٌ قَذِعٌ باقٍ كما دنَّسَ القِبْطِيَّةَ الوَدَكُ ويتحدث امرؤ القيس عن ثياب صنعت في انطاكية الشام، فقال: عَلَوْنَ بِأَنْطَاكِيَّةٍ فوق عَقْمَةٍ كَجُرْمَةِ نَخْلٍ أو كَجَنَّةِ يَثْرِبِ وأوضح انها ثياب موشاة ملونة فكأنها الجنائن في يثرب. ولم تعدم البوادي والمدن الداخلية مثل هذه الصناعة، وعرف عن العوّام مثلاً أنه كان خياطاً، وهو من أهل مكة، كما ذكر بعض الشعراء ان قبيلة بني تزيد أو أبي يزيد صنعت البرود، قال أبو ذؤايب الهذلي: يَعْثُرْنَ في عَلَقِ النَّجِيعِ كأنَّما كُسِيَتْ برودَ بَنِي تَزِيدَ الأَذْرُعُ والبيت يدل على أن هذه البرود كانت حمراء. وتحدثت المصادر عن نسيج صنع في قطر، وآخر في البحرين، وفي أماكن مختلفة غيرهما، كما جاء في الشعر الجاهلي، وكما يتضح عند دراسة النسيج والخياطة بتوسع. 4- الدباغة: ويبدو أن الدباغة كانت حرفة البوادي بصورة رئيسية، وإن عرفتها الحواضر، فالبادية موطن الماشية التي منها الجلود، وموطن الحمر الوحشية والثيران الوحشية ومنها الجلود أيضاً، علاوة على وجود شجر الدِباغ فيها من قرظ وغيره. لذلك كان طبيعياً ان تكون الجلود المدبوغة في رأس قائمة الصادرات من البوادي الى الحواضر، كما تذكر المصادر، وكما يذكر الشعر، فهذا النابغة الذبياني ينسبون إليه قصيدة يذكر فيها إتجار البدو بالجلود، وهو قوله: مِنْ قوْلِ حَرْمِيَّةٍ قالتْ وقَدْ ظَعَنُوا: هلْ في مَخِيفِكُمُ مَنْ يشتري أَدَمَا؟ والقصيدة - على أية حال - مشكوك فيها، فقد "قال أبو حاتم: سمعت الأصمعي يقول: سمعت خلفاً الأحمر يقول: أنا وضعت على النابغة هذه القصيدة". ومع ذلك تبقى القصيدة شاهداً، ما دام الرواة الذين وضعوا على الجاهليين شعراً، أو تزيدوا فيه قد نظموا شعراً يوافق أحوال العصر الجاهلي. ويذكر أن أشهر المدن الداخلية التي عنيت بالدباغة الطائف التي وصفها الهمذاني بأنها "بلد الدباغ، يُدبغ بها الأُهُبُ الطائفية المعروفة". وكالطائف كانت ثقيف، على ما يقول الدكتور جواد علي، ومثلهما كانت يثرب التي اشتهرت بصناعة التروس من جلد البقر، قاول اوس بن حجر يصف ترساً فيسميه "ذا بقر": وذُو بَقَرٍ مِنْ صُنْعِ يَثْرِبَ مُقْفَلٌ وأَسْمَرُ دَانَاهُ الهِلاليُّ يَعْقِرُ. و"ذو بقر" هو الترس باعتبار الأصمعي، والكنانة باعتبار أبي عبيدة. وعند دراستنا تقنيات الدباغة سنعرف مصادر الجلود ومواد الدبغ، ونلم بوجوه استخدام الجلود المدبوغة، وإن مدناً وقرى أخرى دبغت الجلد وبينها مكةوالبحرين والحيرة. ذُكِرَ ان جذيمة الأبرش، وأصله من الأزد "كان أول من ملك قضاعة بالحيرة وأول من حذا النعال". واشتهرت اليمن بدباغة الجلود، واشتهر من جلودها ما دبغ في جرش وهي يمانية، وصعدة وكانت "موضع الدباغ في الجاهلية" كما يقول الهمذاني، فهي "في موسط بلد القرظ، وربما وقع فيها القرظ من ألف رطل الى خمسمئة بدينار مطوق على وزن الدرهم القفلة". وكانت جلود اليمن مشهورة بجودتها حتى امتدحها الشعراء وشبّهوا بها، فهذا عمرو بن كلثوم يفخر بتروس قومه المصنوعة هناك، فيقول: عَلَيْنَا البِيضُ واليَلَبُ اليماني وأَسْيافٌ يَقُمْنَ وينْحَنِينَا كذلك اشتهرت من جلود اليمن الجلود المعروفة ب"السِبت"، وممن وصفوها بالجودة طرفة بن العبد الذي قال، مشبهاً بها مشفر الناقة: وخَدٍّ كَقِرْطَاسِ الشَآمِي ومِشْفرٍ كَسِبْتِ اليماني قَدُّهُ لَمْ يُجَرَّدِ ومنهم أيضاً كعب بن زهير الذي قال في المعنى نفسه: تَنفِي اللُّغَامَ بِمثلِ السِّبْتِ خَصَّرَهُ حَاذٍ يَمَانٍ إذا ما أرْقَلَتْ خَفَقَا * * * تلك مواطن الحرف في البادية والحاضرة، وكان وجودها ضرورياً في حقبة من التاريخ كانت الجزيرة فيها ترهص ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي البعثة التي انتقلت بالمجتمع العربي تلك النقلة الحضارية الواسعة التي ما كانت ممكنة لولا انّ هذا المجتمع عرف في نشاطه اليومي ما لبّى حاجاته المادية، واقترب كثيراً من تلبية حاجاته الكمالية. وإن الإلمام بالحرف التي عرفها العرب في تلك الحقبة يكشف حقيقة ان الشعر الجاهلي لم يكن شعر انفعالات وعواطف وإثارة، بل كان وثيقة صوّرت درجة من التحضر عند العرب أعلى مما تشير إليه دراسة شعرهم دراسة أدبية محضاً. كما تظهر الحرف اليدوية ان العرب لم يكونوا بداة متخلفين، بل عرفوا - بشهادة الحرف - الكثير من المعايير والحسابات الدقيقة، وخصوصاً عند دراستنا دراسة تفصيلية حرفاً مثل النجارة والحدادة والغزل والنسيج والخياطة والدباغة. * كاتب في شؤون التراث الشعبي.