"محمد الحبيب العقارية" تدخل موسوعة جينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    محترفات التنس عندنا في الرياض!    رقمنة الثقافة    الوطن    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    المالكي مديرا للحسابات المستقلة    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    أسرة العيسائي تحتفل بزفاف فهد ونوف    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    أكبر مبنى على شكل دجاجة.. رقم قياسي جديد    استعادة التنوع الأحيائي    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    أجواء شتوية    المنتخب يخسر الفرج    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    قراءة في نظام الطوارئ الجديد    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    الرياض .. قفزات في مشاركة القوى العاملة    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    العريفي تشهد اجتماع لجنة رياضة المرأة الخليجية    الذاكرة.. وحاسة الشم    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحج ومكة وفكرة المؤتمر في كتابات النهضويين المسلمين . صراعات دول جديدة ذات مصالح واتفاق على "رابطة العالم الإسلامي" 2 من 2
نشر في الحياة يوم 08 - 03 - 2001

} تناولت الحلقة الأولى فكرة عقد مؤتمر إسلامي في مكة المكرمة أثناء الحج، واضمحلال الفكرة بين العثمانيين وخصومهم. هنا حلقة ثانية أخيرة تتابع الموضوع:
أسهمت كتابات عبدالرحمن الكواكبي في "طبائع الاستبداد" ومن خلال فكرة المؤتمر في "أم القرى" في دفع رهان الإصلاحيين المسلمين على الشورى والدستور الى الأمام. وبذلك لم تعد الصورة عن الإسلام التقليدي الداعم للاستبداد الحميدي صحيحة. بيد أنّ وفاة محمد عبده عام 1905، أفقدت الإصلاحيين قيادتهم العامة المطلة على سائر أجزاء ديار الإسلام، بحيث بدا دُعاةُ الإصلاح والمعارضة لاستبداد السلطنة بعد وفاة الأستاذ الإمام جماعةً شاميةً سلفيةً ذات عصبيةٍ عربيةٍ محليةٍ، تذكّر اهتماماتُها السياسية بما كان يدعو إليه بلنت في ثمانينات القرن التاسع عشر.
وقد ظهر ذلك واضحاً في رد فعل رشيد رضا على اقتراح صحافي ومؤلف تتري اسمه غاسبرنسكي Gasprinkii 1851 - 1914م عقد "مؤتمر إسلامي عام" بالقاهرة، من أجل مناقشة أسباب التخلف الاقتصادي لدى المسلمين، عام 1907. فقد أزعج رضا إسراع الشيخ علي يوسف ومصطفى كامل المواليين للخديوي والشيخ محمد توفيق البكري شيخ مشايخ الطرق الصوفية للاستيلاء على اللجنة التحضيرية للمؤتمر، ولذلك بادر بعد تردد الى معارضته بحجة أن الفكرة في الأصل للأفغاني، ثم لمحمد عبده وتيار "المنار"، وقد رأى هؤلاء جميعاً ان يكون المؤتمر بمكة 1. وهكذا فإنّ الصراع على مكان المؤتمر أصبح يخفي في الحقيقة صراعاً على السلطة داخل العالم الإسلامي بين السلطنة اسطنبول، ومصر الخديوي عباس الثاني، والتحالف الإصلاحي/ الشامي. وقد تراجع هذا الصراع عن واجهة الأحداث بقيام الحركة الدستورية في إيران 1905- 1906 ثم في الدولة العثمانية 1908، إذ ما عاد الإصلاحيون يرون ضرورة للانفصال السياسي 1908- 1912 ما دام العملُ الداخليُّ ممكناً. على أن العمل الإصلاحي المرتبط بفكرة المؤتمر بمكة ما عاد له طابعه الإسلامي العام حتى في العهد الدستوري العثماني، بدليل حدوث مؤتمر باريس 1913، الذي لم يشهده من الإصلاحيين غير الشوام، والذي كانت مطالبه شامية وعربية تتراوح بين اللامركزية، وبين الدعوة للانفصال عن السلطنة بحجة السياسة الطورانية والتتريكية للدستوريين الأتراك2. أم دعاةُ العالمية الإسلامية من بين الإصلاحيين غير الشوام، فإنّ مقترحاتهم للمؤتمر عادت للارتباط بالدولة العلية من دون تأكيد على الخلافة التي تراجعت إيديولوجيتها بتنحية السلطان عبدالحميد الثاني عام 1909. فالتضامن الإسلامي كما يرى الإيراني ميرزا علي آغا ت 1918م يتطلب مؤتمراً يمكن ان ينعقد بمكة أو باسطنبول. والتتري محمد مراد 1853- 1912م يرى عقد المؤتمر باسطنبول برئاسة شيخ الإسلام وليس الخليفة. واللجنة المركزية لجمعية الاتحاد والترقي المسيطرة باسطنبول تقترح عقد مؤتمر سنوي باسطنبول لعلماء المسلمين من داخل الدولة وخارجها للبحث في الشؤون التي تهم المسلمين عامة. والشيخ عبدالعزيز جاويش 1872- 1929م القريب من الحزب الوطني المصري، والمرتبط بقوة بفكرة بقاء الدولة العثمانية، يقترح عام 1913م بالتضامن مع شكيب أرسلان في مواجهة الذين حضروا بمؤتمر باريس مؤتمراً باسطنبول لدعم السلطنة وضع له برنامجاً من اثنتي عشرة نقطة3.
ظل السيد محمد رشيد رضا حتى العام 1912م مصراً على أن "المنار" هي وارثة تقليد الإصلاح المرتبط بفكرة المؤتمر بمكة. لكنّ خيبة أمله بالاتحاديين بعد زيارته لاسطنبول عام 1910، وتعاطف الإصلاحيين مع مؤتمر باريس، أبعد المشاركين والموافقين الذين أعدم جمال باشا بعضهم بعاليه ودمشق عام 1916 بحجة تآمرهم مع فرنسا، وتهديدهم أمن الدولة اثناء الحرب عن التيار الإسلامي العام الداعم للدولة العثمانية، والداعي لإصلاحها في الوقت نفسه. ولذلك في حين تركزت اهتمامات السيد رشيد عشية الحرب الأولى وأثناءها 1913 - 1918 على علاقات العرب بالترك، ومصائر العرب، فإن الإصلاحيين الآخرين ظلّوا يعملون على دعم الدولة العلية مادياً ومعنوياً وسياسياً في مصر والشام واسطنبول والأقطار الأوروبية. كما ظلُّوا يقدمون الأفكار والمقترحات ذات الأبعاد الحضارية والاقتصادية التي يمكن ان تبحثها مؤتمرات داخل الدولة أو خارجها4. وهكذا فإن الحرب التي مزقت الدولة العثمانية، مزَّقت أيضاً دعاة العالمية الإسلامية الى مستميتين في الدفاع عن دولة الخلافة وبقائها، أو ساعين لإيجاد بديل أو بدائل عن الدولة المتساقطة. أما حركة الخلافة بالهند فهي نموذج للفريق الأول. وأما مجموعة "المنار" فهي نموذج للفريق الثاني. على أن الموقف انقلب انقلاباً راديكالياً بعد الحرب، بحيث ما عاد ممكناً الحديث عن عالمية إسلامية يدور الخلافُ حول وسائل تحقيقها، بالمؤتمرات أو بغيرها. لذلك علينا هنا أن نقف وقفة قصيرة لإعادة قراءة المشروع العالمي الإسلامي ومآلاته في العشرينات، قبل العودة لاستعراض وقائع المؤتمرين بمكة عام 1924 و1926 واللذين أظهرا وصول المشروع الى مأزق، بحيث اتخذ "المؤتمر" معاني أخرى لا تتصل بالقضية الأصلية للإصلاحيين.
لماذا جرى التفكيرُ بالمؤتمر وبمكة في الأصل؟ لقد سبق ذكر الرأي القائل إن فكرة المؤتمر، وعقده بمكة، عَنَتا تمرداً على العثمانيين. وقد رجّحتُ أن ذلك غير صحيح فالشخصيتان اللتان اقترحتاه، إحداهما تركية، والأخرى جمال الدين الأفغاني. والأولى كانت في اسطنبول، والثانية انتهت في اسطنبول. ولهذا فالمرجح ان مشروع النهضويين، اصحاب فكرة المؤتمر إنما كان يريد إصلاح أمور المسلمين لتقوية جانبهم في مواجهة الاستعمار، ومتابعة الإصلاحات التي أوقفها عبدالحميد الثاني للغرض نفسه. وقد ذكروا هم هذه الأسباب لعقد المؤتمر أو المؤتمرات، كما أوضحوا أسبابَ اختيارهم لمكة، والتي لا تخرج عن ثلاثة أمور: ارتباط المسلمين دينياً بها، وبُعدها عن تأثيرات القوى الأجنبية، وإمكان التقاء كبار المسلمين من داخل الدولة العثمانية وخارجها سنوياً في رحابها. وحدثت تطوراتٌ في مطلع القرن العشرين وعقده الأول عدّلت من معالم المشروع العالمي الإسلامي لدى الإصلاحيين: يأس بعض الإصلاحيين مثل الأمير صباح الدين 1877- 1948، وعبدالرحمن الكواكبي من التأثير على عبدالحميد باتجاه الإصلاح حيث رأى الأمير صباح الدين ابن اخ عبدالحميد ضرورةَ إسقاطه5، وحيث رأى الكواكبي ضرورة فصل الخلافة عن السلطنة، وإقامة خليفة عربي بمكة له سلطات روحية، ورأيٌ من خلال الجمعية أو المؤتمر السنوي في الشؤون العامة والكبرى. هكذا اتخذ المشروع الإصلاحي معالم سياسية محددة وانقسامية كان يمكن ان تتراجع بعودة الدستور والحريات 1908- 1909 لولا وفاة محمد عبده عام 1905، وافتقار الإصلاحيين من تيار "المنار" إلى شخصية مشابهة جامعة. لذلك انقسم الإصلاحيون الى قسمين: العرب من أهل الشام بالتحديد الذين فكّروا وعملوا من أجل لامركزية تعطيهم حكماً ذاتياً ضمن الدولة. وقد اجتمعوا عام 1913 بباريس، وظهرت أصواتٌ تدعو للانفصال التام. وقد ضعُف تيار اللامركزية خلال الحرب بسبب اتجاه كثير من دعاته أهمهم محمد فريد وشكيب أرسلان لدعم الدولة من دون شروط لخوفهم على الوجود - والقسم الثاني، وأكثره من مسلمين غير عثمانيين رأى ضرورة الانتظام ضمن الداعمين للدولة دونما اشتراط للأخطار الكبيرة التي تتهددها وتتهدد المسلمين بشكل عام. وانتهت الحرب بهزيمة الدولة العثمانية وحليفتها ألمانيا، واحتلال اسطنبول، وتمرد مصطفى كمال بالأناضول كما هو معروف. وتسارعت خطوات الاضمحلال بفصل السلطنة عن الخلافة عام 1922، وإلغاء الخلافة عام 1924. وتعاظم الإحساس بالفجيعة بسبب الهزيمة من ناحية، وقيام كيانات صغيرة منفصلة في ظل الاستعمار، لكن أيضاً وقبل ذلك بسبب فقد المشروعية بسقوط "دار الإسلام" أو نظامها الخلافة لمصلحة النظام الدولي المتبلور في حقبة ما بين الحربين.
كان من الطبيعي والحال هذه، أن تعود فكرةُ المؤتمر وبمكة للبروز بقوة. فالشرعية العثمانية تتضاءل ثم تزول، وراديكاليو الإصلاحيين كانوا قد رأوا مع الكواكبي إمكان عقد مؤتمر لاختيار خليفة بمكة. لكن الفريقين الإصلاحيين كانا قد تغيرا أثناء الحرب، وما عاد يمكن تحديدهما حتى ضمن مقاييس ما قبل الحرب. فالمسلمون خارج السلطنة العثمانية، وعلى رأسهم محمد علي وشوكت علي من "حركة الخلافة" الهندية ظلّوا يأملون ويعملون لإعادة الخلافة العثمانية، ولذلك ما وافقوا على تسمية الحسين بن علي خليفة في "مؤتمر الحج" بمكة عام 1924، ولا على تسمية ملك مصر في "المؤتمر الإسلامي العام للخلافة" بمصر عام 1926، لارتباط الشريف حسين بالبريطانيين، ووجود الجيش البريطاني بمصر6. ورشيد رضا الذي انهمك في نقاشات حول الخلافة والسلطنة 1922- 1924 وشروطهما التاريخية والشرعية تردد قليلاً 1916 - 1917 ثم رفض البيعة للشريف حسين للسبب نفسه الذي رفضه من أجله الهنود، ولم يحضر مؤتمر الحج عام 19247. ثم استطاع هو وغيره التهرب من البيعة لملك مصر عام 1926 بحجة تأجيل ذلك لمؤتمر آخر ينعقد في السنة التالية، وهو ما لم يحدث أبداً8.
كان المؤتمر الأخير الذي ذُكرت فيه مسألة الخلافة هو مؤتمر العالم الإسلامي الذي انعقد بمكة عام 1926 عقب مؤتمر القاهرة. وكان الملك عبدالعزيز قد صارح المصريين عندما دعوه لإرسال ممثلٍ عنه الى المؤتمر القاهري، أنه يؤيد مصر في ذلك، وهو ليس مهتماً شخصياً بمسألة الخلافة. لكنه لا يقبل أن تبحث امور الحرمين في المؤتمر المصري كما ردد بعض المصريين والهنود، إذ لا حاجة لذلك ما دام قد صار ملك نجد والحجاز، والحرمان آمنان ومحميان9. أما الدعوة التي أرسلها الملك في 28 نيسان ابريل 1926 لحضور مؤتمر العالم الإسلامي اثناء موسم الحج فقد نصّت على خدمة الحرمين وسكانهما وضمان مستقبلهما، وتأمين الراحة للحجاج والزائرين، وترقية أحوال الأراضي المقدسة، والبحث في تعاون المسلمين من أجل الوصول الى هذه الأهداف. لقد كان يريد طمأنة المسلمين الى مجريات الأمور بالحرمين بعد سيطرته عليهما عام 1924. وما كان يريد المطالبة بالخلافة، لكنه لا يقبل أيضاً أن يتدخل الآخرون في شؤون الحرمين باقتراح نظام معين لهما. وكان من دلائل ذلك المبايعة له ملكاً على نجدٍ والحجاز قبل انعقاد المؤتمر. وقد لاحظ عالم هندي كان حاضراً بمكة أثناء البيعة أن ابن سعود حلّ مسألة المشروعية بأخذ البيعة لنفسه على الحكم بالكتاب والسنّة - وبذلك تضاءل الهمُّ الذي كان يحرّك علماء آخرين للبحث عن خليفة من اجل استعادة المشروعية التاريخية10. وعندما انعقد المؤتمر في النهاية كان الحاضرون من العلماء والرسميين اكثر وأكبر تمثيلاً من مؤتمري الشريف حسين والقاهرة. وقد حضر ممثلون لعدة دول إسلامية من ضمنها مصر - التي كان مليكها يسعى للخلافة - لاطمئنانهم الى أن الملك عبدالعزيز لا يريد منافستهم على ذلك اللقب الذي استنفد أغراضه منذ زمن. وقد تحدّث موفدين عدة فعلاً في الخلافة وشروطها، وفي طرائق العناية بالحرمين. واقترح بعضهم ترشيح الملك عبدالعزيز للمنصب أو بالأحرى للقب. وعندما تطرق البحث الى التضامن الإسلامي ومقتضياته حدث خلاف كبير. فالهنود والجاويون والسودانيون كانوا ما يزالون مهتمين بالتعاون الإسلامي العامّ، وبإيجاد هيئة للعناية بذلك. أما العرب فقد صاروا أحزاباً كل فريق مرتبط بهذه السلطة أو تلك من الدول التي قامت بعد الحرب في الأقطار المختلفة. وكان السيدان رشيد رضا وشكيب أرسلان، اللذان اختلفا حول نصرة الدولة العثمانية في الحرب وبعدها، قد عادا للاتفاق حول دعم الملك عبدالعزيز باعتباره الأكثر استقلالاً ومشروعية في عالم الإسلام آنذاك. وقد انشئت للمؤتمر سكرتاريا تعمل لعقده سنوياً، لكنه لم يعد للانعقاد. والأمير شكيب أرسلان، الذي كان سكرتيراً عاماً للمؤتمر عام 1929 طاف بالحجاز ذلك العام، ونشر مذكراته الطريفة حوله تحت عنوان: الارتسامات اللطاف11 من دون ان يذكر شيئاً عن مصائر مؤتمر العالم الإسلامي. لكنّ الملك عبدالعزيز - الذي لم يحضر اكثر جلسات مؤتمر العام 1926 لكي يتيح للحاضرين أن يتناقشوا بحرية - ظلّ يجتمع سنوياً بكبار العلماء والرسميين القادمين للحج، فيتحدث إليهم في شؤون الحرمين، والتضامن الإسلامي.
أظهرت المؤتمرات الثلاثة التي انعقدت بمكة 1924 وبمصر 1926 ثم بمكة 1926 أن النظام الإسلامي الكلاسيكي للمشروعية قد انتهى، وأن الدول المنتصرة بالحرب تُبلور نظاماً إقليمياً متفرعاً على نظام القوة الدولي الذي ظهر بعد الحرب الأولى. كما أظهرت تلك المؤتمرات ان المسلمين لا يملكون بدائل أو حلولاً لأزمة المشروعية، غير البدائل القطرية الدولة الوطنية التي يعترف بها النظام الدولي الجديد. ولذلك فإن الأزمة سرعان ما استنبتت بيئات لإيديولوجيات. وفي حين ظل الإسلاميون خلال العشرينات يتقاذفون التهم والاقتراحات، عمد الشاب وقتها عبدالرزاق السنهوري في أطروحة للدكتوراه صدرت بباريس عام 1926 الى اقتراح منظمة للأمم الإسلامية، تحفظ معنى الوحدة، وتصون كبرى المصالح12.
أما امين الحسيني، مفتي القدس، فقد دعا عام 1931م الى مؤتمر إسلامي بالقدس للتضامن مع المقدسيين والفلسطينيين في مواجهة الصهاينة، حرص فيه على أن لا يذكر أحد شيئاً عن الخلافة أو استعادتها حتى لا يُغضب الحكام العرب من جهة، والبريطانيين من جهة ثانية13. أما مكة فقد انتظمت فيها في ما بعد إدارةُ ونشاطات "رابطة العالم الإسلامي"14 التي مثّلت الصيغة الجديدة للتضامن الإسلامي، ولموقع المملكة العربية السعودية، ودورها المتنامي في قيادة ذلك التضامن.
بدأت فكرة المؤتمر بمكة باعتبارها سبيلاً للوحدة والنهوض والشورى. ثم انصبّ الجهد على استخدامها في تجديد المشروع السياسي أو إعادة تحديده. لكنها وهي تغادر مكة الى القدس والقاهرة، كانت قد تحولت الى أداة في الصراع بين الأقطاب المتنافسين ضمن النظام العربي الجديد.
الحواشي
1 مجلة المنار مايو 1908 11 3: 181- 184. وانظر محمد توفيق البكري: المستقبل للإسلام، القاهرة، بدون تاريخ حوالى 1909، ص ص116- 119.
2 ما حضره السيد رشيد رضا لكن حضره أصدقاؤه: عبدالحميد الزهراوي، ومحب الدين الخطيب، وأحمد طبارة" قارن: وثائق المؤتمر العربي الأول 1913: كتاب المؤتمر والمراسلات الديبلوماسية الفرنسية المتعلقة به. تقديم ودراسة وجيه كوثراني. دار الحداثة ببيروت 1980. وكان الأمير شكيب أرسلان ضد المؤتمر" قارن بشكيب أرسلان: سيرة ذاتية، بيروت 1969، ص109.
3 M.Kramer, Islam Assembled; op.cit.45-54.
4 قارن بعلي يوسف: بيان في خطط المؤيد تجاه الدولة العلية العثمانية، القاهرة 1916، وأوراق محمد فريد مذكراتي بعد الهجرة، نشر الهيئة العامة، 1978، م1، صفحات متفرقة R.peters, Jihad in, Modern History, 1986, PP.163-211.
5 J.Landau, The Politics of Pan-Islam; op.cit.27-29.
6 M.Kramer, Islam Assembled; op.cit.81, 84- 85,93- 95.
7 مقالات الشيخ رشيد رضا السياسية، مرجع سابق، م4، ص 1856: انتحال السيد حسين امير مكة للخلافة! ونملك الآن دراسة مستفيضة عن تطورات موقف الحسين بن علي من فكرة الخلافة، وكيف أنه لم يبايَع بها إلا بعد إلغائها بأنقرة، قارن نضال داود المؤمني: الشريف حسين بن علي والخلافة. منشورات لجنة تاريخ الأردن، عمان 1996. وانظر دراسة وجيه كوثراني: الدولة والخلافة في الخطاب العربي إبان الثورة الكمالية، بيروت 1996.
8 مقالات الشيخ رشيد رضا السياسية، مرجع سابق، م4، ص1911 - 1930.
9 M.Kramer, Islam Assembled; op.cit.106- 122 وانظرعن المؤتمر: مقالات الشيخ رشيد رضا السياسية، مرجع سابق، م 4، ص 1938- 1947.
10 Kramer; op.cit.109
11 الارتسامات اللطاف في رحلة الحاج الى أقدس مطاف. وهي الرحلة الحجازية لأمير البيان ونادرة الزمان الأمير شكيب أرسلان. نشر مجلة المنار عام 1350ه.
12 Le Califat: Son evolution vers une societe des nations orientales.Paris 1926.
13 انظر عن وقائع مؤتمر القدس: A.Nielsen, "The International Islamic Conference at Jerusalem" in Muslim
World 1932: 22 4: 340- 354; Kupferschmidt, "The General Muslim Congress of 1931 in Jerusalem" in Asian and African Studies 1978 12 1: 123- 162.
14 قارن عن رابطة العالم الإسلامي، دعوتها، ونشاطاتها: R.Schulze, Islamischer Internationalismus in 20. Jahrhundert; 1988.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.