تعود الحملة على التقليد، والدعوة الى الاجتهاد في تاريخنا الثقافي الى حقب بعيدة تصل الى زمن ابن تيمية 728ه/ 1328م، وتلميذه ابن قيم الجوزية 751ه/ 1351م. وينشغل بعدهما جلال الدين السيوطي 911ه/ 1505م في رسالته الطريفة المسماة: "الرد على من أخلد الى الأرض، وجهل أن الاجتتهاد في كل عصرٍ فرض" بالهمّ نفسه، وان لم تكن دوافعه ومقاصده هي نفسها مقاصد ابن تيمية وتلميذه. ويمضي الإصلاحيون اليمنيون في القرن الثامن عشر الميلادي الثالث عشر الهجري في اتجاهٍ أقرب للسلفية التيمية عندما يكتب الشوكاني 1259ه/ 1834م، أحد كبارهم، رسالةً في حكم التقليد، يذهب فيها الى حرمته. والأمر نفسه يقوم به مُعاصره المصري حسن العطّار 1766 - 1835م إذ يكتب عام 1223ه 1832م رسالة في الاجتهاد أيضاً، مورثاً هذا التقليد لتلميذه الشهير رفاعة رافع الطهطاوي 1801 - 1873 الذي نشر في مجلة "روضة المدارس" التي كان يرأس تحريرها مقالات في ضرورة الاجتهاد بعنوان: القول السديد في الاجتهاد والتقليد، بعد ان كتب طوال أربعة عقود في التجديد الشامل1. ولستُ أقصد من هذا الاستعراض اثبات استمرارية من نوع ما دامت لعدة قرون. بل ان ما أردت التوصل اليه ان المشكلة كانت مطروحة منذ القديم، وانها ظلت مطروحة في القرنين التاسع عشر والعشرين، لكن لدوافع وأهداف مختلفة. فقد كان مقصد مدررسة ابن تيمية الخروج من التعصب للمذاهب الفقهية من جهة، والتصدي للإسلام الشعبي من جهة ثانية. وقد ظل هذان الهدفان بارزين في ممارسات السلفيين المُحدَثين، ووقع ذلك في أساس تحالفهم مع الإصلاحيين بمصر والشام والمغرب والهند حتى أواخر العقد الثاني من القرن العشرين. بيد ان التيار الإصلاحي الرئيسي كان يذكر الاجتهاد، وهو يعني به التجديد أو النهوض. والفرق بين الأمرين أوضحه جمال الدين الأفغاني 1838 - 1897م عندما صحّح الانطباع السائد عن سدّ باب الاجتهاد" إذ ذكر في "العروة الوثقى" ان المسلمين وفقهاءهم على الخصوص لم يتوقفوا أبداً عن الاجتهاد في مسائل الحلال والحرام التي تمس حياتهم الشعائرية والخاصة" انما توقف علماؤهم وأهل الحل والعقد فيهم عن الاجتهاد والتجديد فيما يمسُّ حياتهم العامة، ورسالتهم ودورهم تجاه البشرية2. وقد تكررت هذه الملاحظة مراراً بعد ذلك، وبخاصةٍ في أطروحة مالك بن نبي 1973م عن القابلية للاستعمار، وأطروحة أبي الحسن الندوي 1993م عمّا خسره العالم بانحطاط المسلمين3. لكنْ، هناك اشارتان قديمتان للمسألة، ربما أفادتا كثيراً في كشف الوعي المبكّر بالحاجة الى مشروع جديد للنهوض في الدين كما في الدولة. فعبدالرحمن الجبرتي 1754 - 1822م يرى عشية خروج الفرنسيين من مصر عام 1801م ان الذي حدث4: "انعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وحصول التدمير، وعموم الخراب"، ولهذا فالأمر يحتاج الى اعادة بناء شاملة. وزميله حسن العطار يعلّق على ذلك أيضاً5: "ان بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها". وهكذا فقد سيطر لدى نُخَبٍ عثمانية في اسطنبولوالقاهرة ودمشق وبغداد، مطالع القرن التاسع عشر، وعيٌ بضرورات التغيير، والتجديد، وان اختلفت دوافعهم لذلك. أما خير الدين التونسي 1822 - 1889 فيعتبر في كتابه "أقوم المسالك" أن التحدي الأوروبي هو الذي يفرض التغيير الشامل. يقول خيرالدين6: "ان التمدن الأوروباوي تدفق سيله في الأرض فلا يعارضه شيءٌ الا استأصله قوة تياره المتتابع. فيُخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار إلاّ إذا حذوا حدوه وجَرَوا مجراه في التنظيمات الدنيوية فيمكن نجاتهم من الغرق...". تأتي مقولة خيرالدين هذه في التمدن - كما عند غالبية نهضويي القرن التاسع عشر - لتَحسمَ أمرين اثنين" ان التمدن أو التقدم هو المسألة التي تتأسس عليها علاقات الغلبة بين الغرب الأوروبي وعالم الإسلام، وانه لا مفهوم آخر لهذا التمدن أو ذاك التقدم غير المفهوم الأوروبي أو الأوروباوي، كما يذكر خيرالدين. ولذا يكون من باب تحصيل الحاصل دعوة المسلمين - إذا أُريدت لهم النجاة - الى ان يحذوا حذوه ويجروا مجراه، في مسائل "التنظيمات الدنيوية" على الخصوص. ولا يختلف رفاعة الطهطاوي - الذي بدأ الكتابة قبل التونسي بزُهاء الأربعة عقود - عن التونسي في فهمه لطبائع الصراع الحضاري ومعناه، الا في طرائق العرض، واهتمامات الموقع وأولوياته. فقد كان الطهطاوي رجل تربية وثقافة" بينما كان التونسي رجل حُكم وسلطة. ولذا فإن قوة الدولة وتنظيمها هي الأساس عند التونسي في حسم مسألة النهوض، بينما يجد الطهطاوي انه من الضروري ان يكون هناك تساوقٌ بين المجتمع والنظام السياسي في هذه المسألة لكي يستقيم "أمر العمران". فقد تأسست الممالك - بحسب الطهطاوي - "لحفظ حقوق الرعايا بالتسوية في الأحكام والحرية وصيانة النفس والمال والعِرْض على موجب أحكام شرعية وأصول مضبوطة مرعية". وتقوم مسألة الحقوق هذه لدى الانسانية جمعاء على معنيين هما مما ميّزَ الله سبحانه به بني البشر: العقل والحرية: ف"الحرية منطبعة في قلب الإنسان من أصل الفطرة". وهي التي تضمن استمرار "الهيئة الاجتماعية" التي ينبغي ان يتصف كل فردٍ من أفرادها" بأنه حُرٌّ يُباح له ان ينتقل من دار الى دار، ومن جهةٍ الى جهة من دون مضايقة مُضايق ولا اكراه مُكره. وأن يتصرف في نفسه ووقته وشغله فلا يمنعه من ذلك الا المانع المحدود بالشرع أو بالسياسة، مما تستدعيه أصول مملكته العادلة...". واستناداً الى فهم نابع من ثقافته الفرنسية، وتجربته الطويلة، وفهمه لأصول الاجتماع البشري. كما يقول" يقسّم الطهطاوي الحرية الى خمسة أقسام: حرية طبيعية وحرية سلوكية وحرية دينية وحرية مدنية وحرية سياسية. أما الفكرة نفسها، وأما تجلياتها الخمسة السالفة الذكر فتنبع عنده من وعي بما يسميه هو "المنافع العمومية، التي تضع هذه الحريات في اطارها الإنساني والاجتماعي والدولتي، فلا يكون هناك افتئاتٌ على الشرع أو على السياسة التي تستدعيها أصول المملكة العادلة7. ويخترق هذه المنظومة القائمة على فكرتي المنافع العمومية والتنظيمات، والتي تبلورت تماماً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وعيٌ غلاَّبٌ بأن الشريعة الإسلامية التي تأسست عليها قديماً حضارة عالمية، يمكن أن تشكل في روحها وأحكامها الحافز للنظام المدني الجديد. ذلك ان التنظيمات العلمية والسياسية والاقتصادية انما مناطُها المصلحة والاجتهاد في تحصيلها" وهو ما لا تكتفي الشريعة بإباحته بل تندب اليه وتحض عليه. ولذا فقد قام شبه تحالفٍ بين رجالات الدين والعلم من جهة، ورجالات الشأن السياسي أو العام من جهةٍ ثانية" في المجال الديني: لتجديد الشريعة ودعوتها - وفي المجال العام: لتجديد البُنى السياسية في عالم الإسلام. وكان الطهطاوي، ومن بعده التونسي قد تحدثا عن المصالح في صون النفس والعرض والمال في شرائع الإسلام - استناداً الى المستصفى للغزالي لدى الطهطاوي، والى ابن قيم الجوزية لدى التونسي -، وفي القوانين الحديثة. لكن الفقهاء النهضويين ما لبثوا في سبعينات القرن التاسع عشر وما بعد أن اكتشفوا الفقيه المالكيّ الكبير الشاطبي توفي بعد 790ه/ 1377م وكتابه الموافقات" فانتظمت تحت عنوان مقاصد الشريعة - التي يدعو اليها الكتاب - المنظومة التي تضامت أجزاؤها خلال العقود السابقة. وقد أفاد منها المجددون المسلمون في اغناء آليات القياس التقليدية أو استيعابها لصالح المقاصد العامة للتشريع الأعلى سقفاً، والتي تسمح باسم ضرورات المصالح بتبنّي انشاء المؤسسات الحديثة العسكرية والسياسية والتربوية 8. بل ان الاجتهادات الكبرى في القرن التاسع عشر" مثل التنظيمات العثمانية، ومفاهيم المواطنية، وتجاوز مسألة داري الحرب والسلم، والتجديد في قضايا المرأة، والمال والثروة، والملكية الخاصة" كُلُّ ذلك تم تحت لواء المصلحة ومقاصد الشريعة. هناك إذاً عند النهضويين خمسة أفكار تداولوها بأشكالٍ مختلفة طوال قرابة القرن من الزمان - من آخر الثلث الأول للقرن التاسع عشر، والى آخر الثلث الأول من القرن العشرين" وهي9: أولاً: ان علاقة أوروبا بالمسلمين قائمة على الغَلَبة. وعِلّةُ هذه الغَلبة التقدم الأوروبي، وتخلف المسلمين. وثانياً: ان السبيل لتعديل الموازين في الصراع هو التعلم منهم ومنافستهم بحسب الطرائق والأساليب التي اتّبعوها هم" إذ لا مفهوم للتقدم غير ما سنَّهُ أولئك الأوروبيون. وثالثاً: انه لا تناقض بين الإسلام والتقدم، بل ان ذلك هو مقتضى الإسلام، والمقصد العام لشريعته" والمسلمون هم المقصِّرون لا الإسلام. ورابعاً: ان الإطار الاجتماعي والسياسي للتقدم أمران: المناقع العمومية، والتنظيمات. وخامساً: ان الفقيه المسلم، والمفكّر المسلم مسؤولان في مجال الدعوة، وفي مجال العمل مثل مسؤولية السياسي، بل ربما أكثر، للوصول الى التقدم من طريق مكافحة التقليد والجمود، ونشر قيم الإسلام الأصيلة، التي كانت وراء المجد الإسلامي القديم، ويجب أن تعود رائدةً وموجهة في ظل الظروف الجديدة10. وبلغت هذه النزعة للتجديد والدخول في العالم الحديث ذروتها في العقد الأول من القرن العشرين" في مثل اجابة السيد محمد رشيد رضا بمجلة المنار عام 1907 على تساؤل قارئ للمجلة لماذا لا نُسمي الحكم الدستوري حكم الشورى ما دام هو هو؟! وأجاب السيد رشيد11: "لا تقل أيها المسلم ان هذا الحكم المقيد بالشورى أصل من أصول الدين، ونحن قد استفدناه من الكتاب المُبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الأوروبيين، والوقوف على حال الغربيين. فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكرت أنت وأمثالك ان هذا من الإسلام...". ويعني هذا انه حتى في حالة وجود معنىً ما أو مؤسسة ما في الشريعة" فإنَّ الوعي بها واعادة اكتشافها انما أتيا في ضوء الاعتبار بحال الغرب ثقافةً ومؤسسات. على ان هذا الانضواء الظاهر تحت لواء فكرة التقدم الغربية" كانت له حدوده أيضاً. يبدو ذلك في نقاشات جمال الدين ومحمد عبده مع رينان وهانوتو. وفي جدل محمد عبده مع فرح أنطون حول التقدم بالذات في علاقته بالمسيحية والإسلام والغرب12. ثم استجدت في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين أمور وأحداث ومتغيرات زعزعت أسس تلك التوافقية الثقافية والسياسية، وتركت آثارها الغائرة والعميقة في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر. فقد روّع المسلمين هجوم الإيطاليين على ليبيا عام 1911 واحتلالها دونما اعتراض جدي من القوى الأوروبية الكبرى، التي كانت هي نفسها تستعمر أكثر أجزاء العالم الإسلامي. وانهزمت السلطنة العثمانية المرتدية رداء الخلافة الإسلامية في الحرب الأولى مع التحالف الأوروبي الذي ضمَّها والمانيا، فقامت القوى الأوروبية بتقسيمها، واستمرت بأشكال مختلف أجزاء الدولة المتساقطة. وفي النظام المتكون عقب الحرب العالمية الأولى، بإشراف القوى الأوروبية، بدأت تظهر في عالم الإسلام الدول الوطنية، المعادية للإسلام البانيا وتركيا أو المحايدة إزاءه. وسرعان ما بدا ذلك في الثقافة في أطروحات عبدالغني سني بك الفصل بين السلطنة والخلافة، وحسن تقي زاده التغريب الكامل، وعلي عبدالرزاق فصل الدين عن الدولة، وطه حسين اعادة النظر في الموروث الديني. لقد بدأ بعض الإصلاحيين وبعض تلامذتهم، يرون في الثقافة الجديدة، والدولة الجديدة أموراً تتهدد هويتهم الاجتماعية والثقافية، فتسارعت ردود الفعل في الظهور بأشكال مختلفة. في الجانب الاجتماعي/ الديني ظهرت جمعيات وهيئات للحفاظ على الهوية، وممارسة الدعوة والتربية من أجل ذلك مثل الشبان المسلمين 1927 والإخوان المسلمين 1928، وأنصار السنّة، والجمعية الشرعية 1931 واتحاد الشبيبة الإسلامية 1933. وفي الجانب الثقافي كثرت الردود على أطروحات عبدالغني سني بك وعلي عبدالرازق وطه حسين، كما بدأت شرائح من الانتليجنسيا العربية والاسلامية تعالج في نتاجها الثقافي موضوعات وشخصيات اسلامية. لقد شهدت عشرينات هذا القرن وثلاثيناته عملية "فك ارتباط" من نوع ما بين المثقفين الاسلاميين، والدولة الطالعة. وجرى تحوُّل تدريجي عن الغرب من الناحية الثقافية، بعد أن كان الاصلاحيون الاسلاميون على الخصوص، يفصلون بين السياسة والثقافة في العلاقة مع الغرب. ولعل خير مثال على التحول في أوساط المثقفين والمسلمين، وفي حياة رجل واحد، السيد محمد رشيد رضا نفسه الذي سبق أن استشهدنا بمقولته في الاعتبار بحال الأوروبيين لإعادة اكتشاف القيم الاسلامية الأصيلة. فالسيد رشيد الذي سبق له أن قرّظ كتابي قاسم أمين تحرير المرأة 1899، والمرأة الجديدة 1900 حين صدورهما، عاد في "نداء للجنس اللطيف" 1932 فردّ على تلك المقولات داعياً المرأة للالتزام بأحكام الشريعة، ونشر النص الذي ترجمه عبدالغني سني بك في فصل السلطنة عن الخلافة في مجلة المنار ثم هاجمه 1922 - 1923، وأصدر كتابه في الإمامة العظمى 1923 راداً على الدعوات لإلغاء الخلافة، وانقلب موقفه كلياً من مصطفى كمال عندما ألغى الخلافة عام 1924، وامتلأت صفحات الأخبار في مجلته في العشرينات بالشكوى من الفرنسيين والانكليز، ذاهباً عام 1927 الى أن الحكم الدستوري الذي سبق له - كسائر الاصلاحيين - ان اثنى عليه، لم يردع الأوروبيين والصهيونيين المثقفين بثقافتهم عن الطغيان واستعباد الشعوب بسبب الشَرَه المادي والسلطوي13. وفي الأربعينات بدأ الربط الواضح بين التبشير والاستعمار والاستشراق، وبدأ النعي على مادية الغرب ووحشيته وحربه الضَروس على نفسه وعلى العالم. كما اتضحت المسألة التي بدأ الحديث فيها في الثلاثينات من أن الغرب يملك نُظماً اجتماعية وسياسية جديدة، لكن النظم الاسلامية أفضل - إلى أن حدثت القطيعة بين التيارين الاسلامي والقومي في الخمسينات، فصار الغرب، كما صار أفراخه أنظمة وحكاماً نموذجاً لحكم الطاغوت وثقافته وقيمه. واستشرت في الستينات وما بعد أحاديث الغزو الثقافي، والمؤامرة العالمية على الاسلام، فسادت العقائدية الجو العربي والاسلامي حتى لدى غير المتدينين تجاه ثقافة الغرب وسياساته عموماً. فأنهت ثقافة الهوية والقطيعة المستجدة آخر آثار أطروحات الاصلاحية، لمصلحة خصوصية متعملقة تضع - بحسب سيد قطب ومحمد قطب ومحمد محمد حسين وآخرين - نظام السماء في مقابل نظام التراب، ونور الاسلام في مقابل حنادس الجاهلية. إن أهم ما يميز الدعوة التجديدية والاصلاحية للنهضويين ان بداياتها لم تكن بدايات فقهية، بمعنى أن مسائل الحلال والحرام ذات الطابع الشعائري والتعبدي لم تلعب دوراً كبيراً فيها، وإن ظلت ملحوظة طبعاً. فقد كان الهدف إيضاح ضرورات التغيير، واستنباط الأدوات الفقهية لشرعنته أو لإثبات مشروعيته. ولذلك ففي حين كانت الدعوة لفتح باب الاجتهاد هي العنوان، فإن ما سرى تحتها ليس الاهتمام ببحث معنى الاجتهاد، وإعادة النظر في آلياته التقليدية وأدلته وقواعده المتوارثة، بل التركيز على تغيُّر الأحكام بتغيُّر الزمان، والقواعد الفقهية الأخرى مثل قاعدة رفع الحرج، ولا ضرر ولا ضِرار، والمشقة تجلب التيسير. لكن سرعان ما جرى تجاوز ذلك كله للاستناد الى قاعدة المصلحة، وربط تلك القاعدة بفرض الكفاية الذي إن لم يقم به البعض أثِم الجميع. ومع أن المذهب الحنفي كان هو السائد في مؤسسات الدولة، وفي التعليم، فإنّ نص ابن قيّم الجوزية، الفقيه الحنبلي، في المصالح، هو الذي بدا في متناول اليد لشرعنة الجديد 14. وطبيعي أن لا يكون الجديد هنا هو الجديد في الدين، حتى لا يختلط بالبدعة، بل هو الجديد في تدبير الأمور الدنيوية للمسلمين، باعتبار أنه حيثما تكون المصلحة فثمّ شرعُ الله. وظل الأمر على هذا النحو في التدليل للجديد وتعليله وشرعنته، بالمزج بين قاعدة المصلحة، وتنقيح المناط في القياس، الى أن تنبه الفقهاء قبل المثقفين من رجالات الدولة، الى نص الشاطبي السالف الذكر، والذي يتحدث بشكل مطوَّل عن مقاصد الشريعة المتمثلة في حفظ الضروريات الخمس أو مراعاة المصالح الضرورية لصون استمرار المجتمع الانساني: النفس والدين والعقل والنسل والمِلْك، فجرت تحت السقف الجديد عملية الشرعنة الشاملة للأفكار والمؤسسات الجديدة اللازمة لنهوض المسلمين وتقدمهم. وقد عنى ذلك ثلاثة أمور: الأول، العودة للربط بين الشأن الديني والشأن الدنيوي، لحاجة المشروع الجديد للدولة الى مشروعية أمنتها له اجتهادات الفقهاء، وفتاوى شيوخ الاسلام15. ولذلك فإن اطروحة التلازم بين الدين والدولة في عالم الاسلام ليست من صنع الاحيائيين المسلمين في العقود الأخيرة، بل هي من موروثات النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولذلك أيضاً ظهر نمط جديد من العلماء أو رجال الدين، تعددت مواردهم الثقافية بخلاف الفقهاء التقليديين الذين ما كان الشأن العام من ضمن همومهم أو ثقافتهم. وهذا النمط الجديد من العلماء، العامل في مؤسسات الدولة، هو الذي تمكن وبقرار من الدولة من صوغ مجلة "الأحكام العدلية" العثمانية، التي حوّلت اجتهادات وآراء وفتاوى الفقهاء الى قوانين، أفادت في الصوغ والتنظيم من القوانين المدنية الحديثة 16. والأمر الثاني أن اللقاء بين العلماء والدولة في مشروع واسع للنهوض والتجديد، استتبع تلاقياً وليس توحداً بين فئتين رئيسيتين من فئات العلماء: السلفيين الذين كانوا يدعون الى فتح باب الاجتهاد في الدين، ومكافحة البدع والخرافات، والإصلاحيين أو النهضويين الذين أنتجهم المشروع الجديد للدولة في عالم الاسلام. ولا يعني ذلك أن السلفيين ما كانوا يُعنون بالأمر السياسي، فقد أنشأت السلفية الوهابية دولة في قلب الجزيرة العربية، وراحت تأثيراتها تتوسع باتجاه مصر والهند واليمن والمغرب، بل ما أعنيه أن أولوية السلفيين خارج الجزيرة كانت مكافحة التقليد والجمود والاسلام الشعبي، بينما كانت أولوية النهضويين الاصلاح والنهوض والتقدم. وقد التقى الطرفان في مجال مكافحة التقليد ومظاهر الاسلام الشعبي التي تُخِلُّ من وجهة نظرهم بصفاء فكرة الوحدانية ورؤيتها، وتنشر قيم التواكل والخمول والجمود. وقد أسهم هذا التلاقي بين الفئتين في صوغ مشروع لتجديد الإسلام ودعوته من طريق العودة للأصول الاجتهادية، ومفارقة التقليد المذهبي الأعمى. بيد أن اللافت في الأمر أن العودة للأصول والمنابع ما أدت الى إعادة نظر في آليات الاستنباط الموروثة، على رغم ازدهار التأليف الفقهي، وازدهار نشر مدوَّنات السنّة النبوية، وظهور مؤلفات ضخمة عدة في تفسير القرآن، أما على نهج التفسير بالمأثور أو في ظل تبني بعض الفرضيات والنظريات العلمية الحديثة17. والأمر الثالث أن هذا التلاقي بين السلفيين والإصلاحيين ما أنهى لأول وهلة وجود أو نفوذ التقليديين من المتمسكين بالمذاهب الفقهية السنية المعروفة وبخاصة الحنفية والشافعية والمالكية. وقد عانى الاصلاحيون والسلفيون على حد سواء من سيطرة التقليديين من مذهبيين وصوفية على المؤسسات والمعاهد الدينية والأوقاف. وما كانت الدولة الجديدة حاسمة في الوقوف ضد التقليديين في المسائل التي ما كانت تُهمُّها - فضلاً عن أن جمهور العامة كان لا يزال تحت سيطرة التقليديين، فما كان من مصلحة الدولة الوقوف في وجه المتصوفة مثلاً حتى لا تُزعج العامة. إضافة الى حاجة السلطات وشيوخها وفقهائها أحياناً الى التقليديين وجمهورهم في مجال التصدي للتدخل الأجنبي. وعندما اتجهت الدول الوطنية في حقبة ما بين الحربين الى تبني أطروحات الاصلاحيين بشأن المؤسسات الدينية والتعليم الديني، والأحوال الشخصية، كان الاصلاحيون كفئة متميزة قد تضاءلوا عدداً ونفوذاً، كما كان السلفيون قد اعتزلوا الشأن العام أو صاروا ضد المشروع المتغير للدولة. ولقد عنى تراجع مشروع الاصلاحيين في الدين والدولة بعد عشرينات القرن العشرين، ظهور فئات جديدة من ذوي الثقافة الدينية، تمتلك وعياً إحيائياً ليست أولويته مسألة التقدم والنهوض، بل حفظ الهوية وصونها. وقد استتبع ذلك الانتصار لمنهج جديد في تأمل الشأن الديني والشأن العام على حد سواء، هو منهج التأصيل. ويعني ذلك أنه في حين كان الاصلاحي يسارع الى الاعتراف بالجديد ومحاولة ترشيده بالتأسيس على المصلحة المعتبرة أو على مقاصد الشريعة، فإن الاحيائي كان يتأمل الجديد الغربيّ في الأساس لأول وهلة باعتباره ابتداعاً مشككاً في مشروعيته وضرورته، وبخاصة اذا لم يستطع أن يجد له أصلاً نصيّاً أو اجتهادياً. وهكذا فإن البيئات الاسلامية العربية شهدت في ما بين العشرينات والخمسينات ظواهر عدة أسست للفكر الاسلامي المعاصر الذي شهدنا نتاجاته طوال العقود الستة الماضية. أولى تلك الظواهر انفكاك التحالف بين الاصلاحيين والسلفيين من جهة والدولة الحديثة من جهة ثانية. وفي الوقت نفسه تراجع الدور الفكري والفقهي للاصلاحيين، والافتراق بينهم وبين السلفيين الجدد. وثانية تلك الظواهر بروز المثقفين ثم الفقهاء الاحيائيين الذين يملكون وعياً مختلفاً واهتمامات مختلفة وأولويات مختلفة. وهؤلاء يملكون أيضاً موقفاً سلبياً من التقليديين والاصلاحيين على حد سواء، وإن أشبهوا الاصلاحيين في الموضوعات المطروحة، وأشبهوا التقليديين في الموقف من الجديد والطارئ. وثالثة تلك الظواهر إصرار الاحيائيين الاسلاميين على المنهج المستقل في الأصول والفروع، وعلى المنظومة المستقلة والمنفصلة في سياق المشروع الاسلامي الشامل والحل الاسلامي. الحواشي 1 قارن عن ذلك بفهمي جدعان: أسس التقدم عند مفكري الإسلام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1979، ص 185- 252. 2 جمال الدين الأفغاني: العروة الوثقى الوحدة الإسلامية في الأعمال الكاملة، تحقيق ودراسة محمد عمارة، ص 344- 345. 3 مالك بن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي 1956، ص 38- 44، وأبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، الطبعة السادسة، 1965، ص 63- 66. 4 عبدالرحمن الجبرتي: مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس، نشرة 1961، ص 32- 33. 5 حاشية العطار على جمع الجوامع 2/225- 226. وقارن بعلي مبارك: الخطط التوفيقية، 4/38. 6 خير الدين التونسي: أقوم المسالك، تحقيق المنصف الشنوفي، تونس 1972، ص 50. 7 رفاعة رافع الطهطاوي: مناهج الألباب المصرية، الطبعة الثانية، مصر 1912، ص 18- 19، وانظر له: المرشد الأمين للبنات والبنين، مصر 1872، ص 127. وانظر محمود فهمي حجازي: أصول الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي، الهيئة المصرية 1974، ص 42- 45. 8 الغزالي: المستصفى 1/286- 287، والشاطبي: الموافقات في أصول الأحكام 1/11 - 12،4/90. وقارن بمحمد عابد الجابري: بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 540، ومحمد جمال باروت، وأحمد الريسوني: الاجتهاد، النص، الواقع، المصلحة، دار الفكر بدمشق 2000، ص 106 - 116، ورضوان السيد: سياسيات الإسلام المعاصر، بيروت 1997، ص 244- 246. 9 سياسيات الإسلام المعاصر، مرجع سابق، ص 247. 10 يرى الفقيه المسلم المعاصر لنفسه دوراً مشابهاً، مع تأكيد أكبر على مسألة الفتوى، والحكم الشرعي، قارن بجمال عطية، ووهبة الزحيلي: تجديد الفقه الإسلامي، دار الفكر بمدشق، 2000، ص 155. 11 عن وجيه كوثراني: مختارات سياسية من مجلة المنار، دار الطليعة، بيروت 1980، ص 97. 12 قارن بمحمد عبده: الإسلام والرد على منتقديه القاهرة، 1928، ومحمد عبده: الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، نشرة الهلال 1960. 13 سياسيات الإسلام المعاصر، مرجع سابق، ص 157- 170، Charles Smith, The Crisis of Orientation; The Shift of Egyptian Intellectuals ot Islamic Subjects in the 1930's" IJMES,PP.382-410. 14 استخدم الإصلاحيون ثم السلفيون نصين له: أعلام الموقعين عن رب العالمين، والطرق الحكمية في السياسة الشرعية. 15 قارن عن ذلك، عفاف لطفي السيد: العلماء ودورهم في مصر مطلع القرن التاسع عشر، بمجلة "الاجتهاد"، السنة الأولى، العدد الرابع، 1989، ص 215 - 236، وخالد زيادة: العلماء وتجربة التنظيمات في القرن التاسع عشر، بمجلة "الاجتهاد"، السنة الثانية، العدد الخامس 1989، ص 189- 212، وأورييل هايد: موقف العلماء من الإصلاحات في عهدي سليم الثالث ومحمود الثاني، بمجلة "الاجتهاد"، السنة الحادية عشرة، العدد 54/64، 2000، ص 15-84. 16 قارن س.س. أنَر: مجلة الأحكام العدلية العثمانية" بمجلة "الاجتهاد" السنة الأولى، العدد الثالث، 1989، ص 197- 218. 17 قارن عن اهتمامات السلفيين فهمي جدعان: أسس التقدم، مرجع سابق، ص 185- 252. وانظر عن علاقات السلفيين بالإصلاح والإصلاحيين" د.د. كومينز: Commins الإصلاح الإسلامي. ترجمة مجيد الراضي، دار المدى بدمشق 1999، ص 42- 61. * كاتب لبناني، والنص ألقي في ندوة القدس التي عقدت في الدوحة في 28/10/2000.