ان قرار الغاء الخلافة في 3 آذار مارس 1924، لم يكن فحسب قراراً ابن "ساعته"، أو نتيجة مباشرة لأفكار مصطفى كمال "العلمانية" اثر معاهدة "لوزان". فمؤسسة الخلافة كانت قد ضعفت وتلاشت منذ قرون عديدة، بل قبل قيام الدولة العثمانية نفسها. فمنذ تشكيل السلطنات الأولى، البويهية أولاً، ثم السلجوقية ثانياً، أضحت الخلافة رمزاً تحتضنه سلطنة متغلبة وتستخدمه صبغة دينية لقبول الأمر الواقع المستجد. وما كتاب الماوردي 974-1058م في "الأحكام السلطانية" الا محاولة تأسيسية لهذا النمط من العلاقة الوظائفية بين الخلافة والسلطنة منذ نهاية التجربة البويهية وبداية التجربة السلجوقية1. وهو أمر قبله ونسج على خطه الفقهاء اللاحقون أمثال الغزالي وابن تيمية وآخرين... وصولاً الى تبرير شرعية الدولة العثمانية سلطنة ثم خلافة2. واذا كان ابن خلدون 1332-1406م قد كشف من زاوية المنهج التاريخي، قواعد هذه العلاقة الوظائفية فيما بين العصبية والدين، وبشيء من الخفر والتردد المنضبط في المنهج الفقهي السائد، فإن تطور الأحداث عبر امتداد الحكم المملوكي في المشرق، ثم قيام الدولة العثمانية وتوسعها واستقرارها قروناً على أهم دوائر العالم الإسلامي آسيا الصغرى والبلاد العربية، أنسى المسلمين منصب الخلافة ليحل محله منصب السلطان في وعيهم وادراكهم ونمط علاقتهم بمراتب السلطة وولاياتها، من حسبة وقضاة وامارة ومشيخة ونقابة وافتاء. وكان "وهج" السلطان العثماني خلال القرون الثلاثة الأولى من الرابع عشر وحتى نهاية السادس عشر يذكر بإشعاع الخلفاء الأوائل "الفاتحين" دون ان يعني ذلك حاجة لدى السلطان أو "الفاتح" أو "الغازي" - وهذه بعض ألقابه - لادعاء منصب الخلافة، مع العلم أن هذه الصفة - صفة الخلافة - كانت هي أيضاً إحدى ألقابه أحياناً. والمؤرخون الذين دعوا الى اعادة النظر في قصة تنازل آخر خليفة من خلفاء بني العبّاس، المقيم لدى السلطان المملوكي في القاهرة، عن خلافة للسلطان سليم3 إنما يصيبون نقداً "للقصة" التي أضحت - بسبب تكرارها منذ عقد معاهدة كوجك كينارجي 1774 - "اسطورة" تاريخية لها وظيفتها في وعي النخب والسياسات العثمانية والأوروبية معاً. يشرح لويس ماسينيون في مقالته حول "الخلافة" في العام 1920 ظروف نشأة هذا الربط بين الخلافة والسلطنة العثمانية، قائلاً: "ان هذا الاختلاف المثير للفضول، ما هو في حقيقته الا حكاية خيالية شاعت شعبياً في الغرب، منذ نهاية القرن الثامن عشر بفضل كتابات عدد من الكتّاب معظمهم من المسيحيين الشرقيين، بدءاً من الأرمني Mouradgea d'Ohsson 1788، الى الأرثوذكسي Savas Pacha 1898 وإذ اندمجت بنية العالم الإسلامي في بنية المسيحية القروسطية، وتماثل الاجماع عند علماء السنّة مع المجامع المسكونية، وخلافة سلطان اسطمبول مع اطاعة بابا روما، أوصل هذا التصوّر، كما هي الحال لدى بارتولد ولدى نلينو اللذين قدّما حكايته بشكلٍ مثير للاعجاب، الى ادخال فكرة "السلطة الروحية" للسلطان العثماني كخليفة في القاموس الديبلوماسي الدولي. وهذه الفكرة التي سبق أن أخرجتها بذكاء مخيلة الكونت سانت بريست بمناسبة عقد معاهدة كوجك كينارجي، ما لبثت ان استعيدت في معاهدات 1909 ،1912... على الرغم من كونها أي الفكرة مناقضة ليس فقط لآراء العلماء فقهاء الإسلام، بل أيضاً لمصالح الدول الأوربية التي شجعوها على حساب هذه المصالح. ويذكر ان هذه الأسطورة تبنّاها أيضاً الليبراليون العثمانيون ذات وقت، عندما كانوا على وفاق مع السلطان عبدالحميد في لحظة دستور 1876، فلما لم تجلب لهم ما كانوا ينتظرونه، ما لبثوا أن تخلوا عنها وما كان الإسلام السنّي ليقبلها4. واللافت أن الخطاب السياسي العربي الذي طرح قضية الخلافة في الربع الأول من القرن العشرين، كصيغة لاستعادة دورها في العالم الإسلامي، كان يتداخل مع الخطاب الديبلوماسي والاستشراقي الغربي فيما يراد لوظيفة الخلافة، سواء بقيت عثمانية أو انتقلت الى العرب، أن تحققه في العالم الإسلامي من أهداف ومرام. ولا يعني هذا التداخل، التطابق بين الموقفين والمنطلقين، بل يعني الدلالة على ما ملكت الاستراتيجيات الغربية حيال ما سمي آنذاك "بالمسألة الشرقية" من قدرات معرفية مستوعبة وموظفة لما سماه ماسينيون في العام 1920 "طبيعة المطالب الإسلامية"، ومن بينها "مطالب الخلافة". تتسارع الأحداث بعد الحرب العالمية الأولى، فيتراجع دور الشريف حسين بسبب جملة من العوامل التي يعددها ماسينيون في حينه، فيرى أنه "لم يكن يملك المبادرة ولا أدوات العمل" ناهيك عن موقف الحكومة البريطانية - الهندية المعارض، ومواقف مسلمي مصر وتركياوالهند وروسيا وآسيا عامة الذين استمروا في العام 1920 بالدعاء "لخليفة اسطمبول" في خطبة الجمعة متهمين الشريف حسين بطعن "الخليفة" في ظهره. والشريف نفسه - ولعله بسبب هذه العوامل - لم يعلن ادعاء الحق في الخلافة من الأساس5. ويرى ماسينيون حيال هذا الانقسام ما بين المسلمين حول مسألة الخلافة، "أنه من الأفضل أن تتدخل الدول الأوروبية في هذا الصراع لخير الجميع" وأن يترك أمر اختيار "خليفة" لحركة المشاورة التي بدأت بين علماء المسلمين ويبدو أن ماسينيون كان لا يزال متفائلاً في العام 1920 حول امكانية أن يصل الحوار بين علماء المسلمين، الى ذاك الهدف. يقول: "ان اعادة التنظيم الاجتماعي للإسلام، كجماعة أممية قد بدأت. ان دعوة التوحيد التي كان قد أطلقها جمال الدين الأفغاني منذ أربعين سنة، تستمر وتتوسع بفضل الكتّاب السلفيين"، ويأمل ماسينيون أن "حركة مشاورة وحوار ما بين العلماء في مؤتمر اسلامي عالمي يمكن ان يؤدي الى نتيجة هذا المؤتمر يمكن أن يحسم الخلاف ما بين العرب والترك في موضوع الخلافة، وهكذا يعود الإسلام الى أصله في مبدأ الشورى الذي تخلى عنه معاوية في العام 680"6. واضح التداخل بين كتابات رشيد رضا وهذا الرهان الاستشراقي على دينامية الشورى ومآلها في الإسلام وان اختلفت المواقع والأهداف. يبقى أن بيعة علماء المسلمين لخليفتهم عبر الأقطار والحدود لا يعني - حسب ماسينيون - انهم "قد أصبحوا جزءاً من رعاياه أو مواطنين تابعين له"، "فالمسلمون يقبلون أن يكونوا الرعايا الشرعيين والمواطنين المخلصين للدول الأجنبية" شرط أن يكون على وجه الأرض زعيم مسلم لا يخضع إلا لله... يلتزم المسلمون الدعاء له في الصلاة لكي يستمر البرهان الدائم لحقيقة إيمانهم على الأرض وأمام الجميع، باعتبار هذا الزعيم حامياً للشريعة7. وأما بالنسبة لنلينو المستشرق الإيطالي، فإن الخليفة - وخاصة إذا كان مركزه مكة - فإنه سيكون مرجعاً صالحاً - "وبناء على الطلب - لحل المشكلات الإدارية العالقة ما بين الدول الغربية ومسلمي مستعمراتها". وكما يشرح انزاباتو بشيء من المكيافيلية - حسب وصف ماسينيون - "ان السلطة الزمنية التنفيذية الخاصة بالخليفة تكفي في الشريعة الإسلامية لإطلاق حركة اصلاحات ادارية، ما كان يمكن ان تحصل الا بثورة". وفي مقالته الثانية التي كتبها في العام 1925 حول "أزمة السلطة الدينية والخلافة في الإسلام"9 يبدو ماسينيون اقل تفاؤلاً من ذي قبل. بل أن الأجواء والتداعيات السياسية التي رافقت حركة مصطفى كمال، ثم الغاء هذا الأخير لمنصب الخلافة في 3 آذار مارس 1924، وبروز الصراعات والمنافسات السياسية المحلية اثر هذا الالغاء في بلدان العالم الإسلامي، ومنها مصر،... كل هذا جعله يتريث في ابداء الأحكام، بل جعله يتشكك في امكانية نجاح أي من المؤتمرات التي كان يحضر لها أو يفكر بها آنذاك10. وهنا أيضاً يثور السؤال: ألا يتداخل خطابه مع خطاب رشيد رضا حول "التأجيل" والظروف غير المناسبة، وضرورة "الاعداد" عبر "مدرسة المجتهدين" و"حزب الاصلاح" المقترحين؟ يبدو ان الكتاب الإسلاميين اللاحقين الذين أخذوا على الاستشراق أنه "تآمر" على الخلافة، وشوّه معانيها وأبعادها في تلك المرحلة من أمثال الشيخ محمد بخيت ممن ردوا على علي عبدالرزاق واعتبروا كتابه الإسلام وأصول الحكم دساً استشراقياً، وأنه يحمل آراء مرجوليوت أو أرنولد، أو أحد المستشرقين الإنكليز11 في مسألة الخلافة، لم يكونوا على اطلاع على الخطاب الاستشراقي وخاصة الإنكليزي في هذا الموضوع. فهذا الخطاب الاستشراقي ومعه خطاب نلينو وبارتولد وماسينيون وخبراء ومستشارين آخرين في السياسات الأوروبية، يتداخل ويتوافق مع الخطاب الإسلامي السلفي الباحث عن صيغة تجديد للخلافة أو احياء لها انطلاقاً من عدة مواقع جيو-ثقافية وسياسية في العالم الإسلامي من الهند الى مصر مروراً بتركيا والحجاز ونجد والعراق واليمن والمغرب أكثر مما يتوافق مع أطروحات علي عبدالرازق المتأثرة بمعطيين أساسيين: - المعطى المنهجي الخلدوني في فهم تاريخ "الملك" في التجربة التاريخية الإسلامية. - والمعطى الحدثي والمفاهيمي المعاصر الذي هيأته وثيقة الاعداد لالغاء الخلافة في تركيا. وإذا ما عدنا الى خطاب رشيد رضا في مجموعته الخلافة أو الإمامة العظمى ومقالاته اللاحقة الممهدة والمعلقة على مؤتمرات الخلافة في العام 1926، أدركنا أنها تحمل منهجاً فقهياً يحرص فيه صاحبه على البحث عن صيغة خلافة إسلامية "مناسبة" في رأيه لظروف العالم الإسلامي الجديدة ومرتكزة في الوقت نفسه على قواعد فقه الخلافة كما بيّنها الفقهاء الأوائل لكن بمعزل عن الصعوبات والعوائق والوسائل التي شرحها ابن خلدون في مقدمته ونعني: "العصبية وقانون التغلب". ومن هنا كان انتقاد رشيد رضا لابن خلدون في الخلافة أو الإمامة العظمى ورهانه على "الوعي الفقهي" - إذا صح التعبير - لدى علماء الأمة وأصحاب "الحل والعقد" فيها، شأنه شأن المستشرق ماسينيون والملاحظ أن رشيد رضا لم يدرك الصعوبات والعوائق الا بعد "خيبة الأمل" التي أوقعها في نفسه "الغازي" مصطفى كمال عندما ألغى هذا الأخير الخلافة، في حين أنه كان مرشحه لها. وربما بعد مراسلات مع صديقه شكيب ارسلان الذي بيّن له أهمية نظرية ابن خلدون في العصبية وذكره بما للعصبيات من أدوار في التحولات السياسية في التاريخ الإسلامي، يعود رشيد رضا الى فكرته القديمة - الجديدة: حزب الاصلاح ومدرسة المجتهدين الذي أناط بها تخريج "الخلفاء" أي عملياً، كان الموقف الفقهي هو موقف التأجيل. أما الخطاب العربي، المناقض لهذا الطرح، وهو الخطاب الذي نقرأه في المقتطف، وبصورة خاصة في مقالات عبدالرحمن شهبندر التي كتبها اثر الثورة السورية الكبرى، فإنه يطرح مسألة الدولة خارج التاريخ العربي والإسلامي. بل أن هذا التاريخ هو "تاريخ قروسطي" ينبغي القطع معه وتصفيته عبر ثالوث جديد: الزعيم، النخبة، الحزب. كان هذا الخطاب يمهد، تأسيسياً على تجربة أتاتورك، وعلى مقدمات الفاشية والنازية التي كانت تنتعش بعد الحرب الأولى، وعلى مقدمات الفاشية والنازية التي كانت تنتعش بعد الحرب الأولى، لنشوء أحزاب قومية في المنطقة لم تتذكر "الديموقراطية" الا أخيراً. وهذا الخطاب التصق معنى العلمانية خطأ. هذا في حين كان خطاب علي عبدالرازق، يؤسس لمنهج جديد يتواصل مع التاريخ الإسلامي عبر منهجية ابن خلدون من جهة، وعبر تفاعل مع معطيات الحاضر فكراً وسياسة وعلوماً اجتماعية وإنسانية من جهة أخرى. انه يقدم محاولة حل للمأزق الذي عاناه الموقف الفقهي السلفي نفسه: موقف رشيد رضا المأزوم بلا واقعيته، داعياً العقل الإسلامي للتفكر بالسياسة دون الانحباس بمقولات فقهية قديمة تثير الخلاف أكثر مما تستدعي التوحيد ودون الاندراج في لعبة التوظيف السياسي التي تتقنها الذرائعية السلطانية في تاريخنا القديم والحديث وواقعنا المعاصر. لقد سبق للإمام محمد عبده أن شدد على القول أن "لا دولة دينية في الإسلام". وسبق لفقهاء أن شددوا على "عدالة الدولة" دون التعويل على دين حكومتها12. وذهب فقيه معاصر الى اعتبار الدولة والخلافة في التاريخ الإسلامي أحد تجلياتها غير مقدسة في الفكر والفقه الإسلاميين، بل "ان السياسي كله غير مقدس13، بل هو "نسبي وزمني". السؤال، إذن، لِمَ وكيف لم تخلق تلك المواقف التي لها جذور أكيدة في التراث تياراً فاعلاً في المجتمعات الإسلامية الحديثة، ولم تنتج مناهج معرفة يكون موضوعها دراسة ما يتوهم أنه "مقدس" في وعي الناس ولا وعيهم؟ يبدو أنه في كل مرة ينتج فيه خطاب معرفة يمس ما يعتقد أنه "مقدس" تتدخل مؤسسات السلطة، حكومية كانت أم أهلية، لتقويضه قبل أن تتقوض هي نفسها. فأزمة شرعية السلطة - كحكم قائم أو مشروع "خروج" سيقوم - هي وراء افتعال "ضحايا ثقافية" في عصرنا الحديث. كانت علي عبدالرازق "ضحية ثقافية" لأزمة شرعية مشروع الخلافة في حينه. لقد حاول رشيد رضا أن يحل الأزمة عن طريق فقه الخلافة فاصطدم بمأزق حاول علي عبدالرازق ان يحله ارتكازاً على التاريخ، كل التاريخ، لا ارتكازاً على تاريخ المؤسسة الفقهية وحدها. فهل يستمر تاريخنا المعاصر باعادة انتاج مآزقه و"ضحاياه الثقافية" معاً، والتي كثرت خلال العقود الأخيرة "قتلاً" و"تكفيراً" و"تهجيراً" بسبب أزمات "السلاطين" الجدد، القائمين منهم "استبداداً" أو الذين يستعدون للقيام "خروجاً" أو "تغلباً"؟ الهوامش : 1 راجع تعميقاً وشرحاً لهذه الفكرة في: رضوان السيد، مقدمته لكتاب الماوردي: قوانين الوزارة وسياسة الملك، تحقيق ودراسة، بيروت، دار الطليعة، 1987. 2 راجع معالجة لهذه الفرضية في: وجيه كوثراني: الفقيه والسلطان، دراسة في تجربتين تاريخيتين: العثمانية والصفوية - القاجارية، القاهرة، المركز العربي الدولي، 1990. 3 راجع نقداً تاريخياً لهذه الرواية في: أسد رستم، "السلطان سليم والخلافة"، في آراء وأبحاث، بيروت، منشورات الجامعة اللبنانية، 1967، ص 16-17. 4 Louis, Massignon. "Introduction ‡ L'etude de revendications islamique" 1920, in: Opera Minora, Textes recucillis par, liban t.l,p. 273. 5 L. Massignon "Introduction ‡ L'etude des revendications islamiques", op. Cit., p.281. 6 Ibid. p. 282-283. 7 Ibid. p. 279. 8 Ibid. p. 282. 9 "La Crise de l'autoritژ religieuse et le Califat en Islam". 10 L. Massignon, "La Crise de l'autoritژ de religieuse et le califat en Islam". op. cit., p.294 et suivants. 11 يعرض محمد عمارة في دراسة منشورة على حلقات بعنوان: "عودة الى كتاب الإسلام وأصول الحكم" لندن، جريدة الحياة، أعداد من 4 الى 21 تشرين الأول اوكتوبر 1993، مختلف الفرضيات التي دارت حول تقييم كتاب علي عبدالرازق، ومنها أنه من تأليف مستشرقين!؟ أو من تأليف طه حسين!؟ ليصل الى استنتاج غريب مفاده وجود "أدلة أسلوبية وشواهد علمية على تعدد مؤلفي الكتاب". ولا أدري ما الذي يحدو بعض المفكرين الإسلاميين اليوم لإعادة طرح هذا الموضوع بهذا الأسلوب السجالي والتجريبي. لقد تأثر علي عبدالرازق بمرجعيات علمية عديدة، ومنها طه حسين، وبوثيقة فصل الخلافة عن السلطنة التي نشرت في القاهرة عام 1924 أمر لا شك فيه. بل أن تعدد المرجعيات التي استخدمها علي عبدالرازق لإثبات فرضيته، واستشاراته لطه حسين الذي قرأ المخطوطة ووضع عليها ملاحظات، أمر لا ينتقص من قيمته أبداً، بل على العكس، ان هذا التعدد يعطيه صدقية وموقعاً ملحوظاً في تيار فكري يحاول أن يستجيب لحاجات النهوض والاستقلال والحرية. ويبدو أن في ظاهرة اعادة طرح قضية علي عبدالرازق في ظل هجمة "الإسلاموية" - بسلاح التكفير والقتل والتفريق، على الفكر المتنور أو أي فكر آخر، وكما لاحظنا في مصر حالة نجيب محفوظ وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد، وظيفة صراعية سلطوية. وهي تتم على كل حال عن ثقافة سياسية مأزومة، وضيق في المجتمع يصل الى حد الانفجار، بعد أن ضاقت بل انعدمت سبل التداول السلمي بين أفراده وجماعاته. 12 يستعيد الشيخ محمد جواد مغنية موقفاً فقهياً مفاده "ان الحاكم الكافر العدل أفضل من الحاكم المسلم الجائر - لأن الأول لنا عدله وعليه كفره. والثاني له إسلامه وعلينا جوره"... ليضيف في نقده لنظرية ولاية الفقيه التي فهمت بمعناها الشمولي "إذا ساغ للشيخ محمد عبده أن يقول قد تجد في أوروبا مسلمين بلا إسلام وفي البلاد الإسلامية إسلام بلا مسلمين، ساغ لغيره أن يقول أيضاً: أية دولة أحسنت العمل فهي مسلمة حتى ولو كان رجالها من غير الفقهاء، وان أساءت فما هي من الإسلام في شيء حتى ولو تخرّج أعضاؤها من النجف أو الأزهر". محمد جواد مغنية، الخميني والدولة الإسلامية، بيروت، دار العلم للملايين، 1979، وخاصة ص 66-74. 13 محمد مهدي شمس الدين، المقدّس وغير المقدّس في الإسلام، مجلة المنطلق، كانون الثاني 1993. * باحث ومؤرّخ ورئيس تحرير مجلة "منبر الحوار".