لم تعرف هيئة المحكمة الجنائية في باريس ما إذا كان الحكم بالسجن المؤبد الذي أصدرته غيابياً أمس، بحق مجرم الحرب النازي الديز برونير، يستهدف عجوزاً فاق الثامنة والثمانين من العمر، أم شخصاً ميتاً. وفي ظل الغموض الذي يلف مصير برونير، ومكان وجوده، فإن انعقاد المحكمة بناء لدعوى أقامها رئيس جمعية ابناء ضحايا معسكرات الاعتقال الفرنسيين المحامي سيرج كلارسفيلد، كان أقرب الى المناسبة الرمزية منه الى المحاكمة الفعلية. فأمام حشد ضم حوالى مئة شخص احتشدوا بصمت في قاعة المحكمة الى جانب قفص المتهمين الفارغ، تلي محضر الدعوة الذي وجهت بموجبه الى برونير تهمة "ارتكاب جرائم بحق الإنسانية" باعتباره المسؤول عن ترحيل 345 طفلاً يهودياً الى معسكرات الاعتقال النازية سنة 1944. وبعد تلاوة أسماء ضحايا برونير الأمر الذي استغرق اكثر من نصف ساعة، أدلى المدعي العام فيليب بيلغير بمرافعة مقتضبة، قال فيها: "أرغب لمرة واحدة ان يكون كلامي صمتاً وأن تقتصر عباراتي على الخشوع، بحيث نكون بمستوى الكرامة المناسب لمثل هذه الجلسة". وأضاف بيلغير ان "المدعي العام يتألم عادة عندما يطلب الحكم المؤبد" بحق متهم ولكن "في هذه المرة فإن فكرة الحكم المؤبد تنطوي على فرح خال من أي شعور آخر؟". وأشار الى ملف الدعوى الذي يقع في أكثر من 50 جزءاً، قائلاً ان فرحه مرده الى "الموت والأسى الذي ينساب من هذه الوثائق" وأن عقوبة السجن المؤبد تبدو له في هذه الحال بمثابة "عقوبة مؤكدة لا مفر منها". وبصدور هذه العقوبة قلبت فرنسا، صفحة ملاحقاتها القضائية، لمجرمي الحرب النازية، كون برونير آخرهم، بعد كلاوس باربي الذي توفي في السجن سنة 1991 وبول توفييه الذي توفي أيضاً في السجن سنة 1996 وموريس بابون المعتقل منذ سنة 1999. وعلق كلارسفيلد في تصريح أدلى به لوكالة الصحافة الفرنسية على قرار المحكمة بالقول: "كان علينا القيام بواجب اطلاع بلدنا على ما حصل في تلك الحقبة"، وأنه كان بوسعه ان يبدي ارتياحه وسروره لهذا القرار "لو أني تمكنت من جلبه الى فرنسا" ليمثل أمام القضاء. وأعرب عن أمله في أن تعمل السلطات الفرنسية على أخذ هذه المحاكمة بعين الاعتبار، "لتكون بمثابة نقطة انطلاق نهج سيؤدي الى اعتقاله". ويشكك كلارسفيلد مثله مثل الكثير من ذوي ضحايا برونير في صحة النبأ الذي أشار الى وفاته سنة 1995، فيما ليس لدى القضاء الفرنسي أي أدلة على ذلك. فالمعلومات المتوافرة لدى كلارسفيلد، الذي فقد والده خلال إحدى عمليات الدهم التي شهدتها مدينة نيس جنوبفرنسا سنة 1943، بأمر من برونير، تفيد بأنه لجأ الى سورية في اواخر الخمسينات. وتتقاطع هذه المعلومات مع ما جمعه القاضي الفرنسي هيرفي ستيفان الذي تولى التحقيق في الملف، ويفيد أن برونير مقيم في دمشق في شارع جورج حداد، باسم مستعار هو الدكتور يورغ فيشر. ولدى تردد نبأ وفاته، توجه فريق من المحققين الفرنسيين الى النسما لمقابلة ابنته، التي رفضت التعاون وتقديم اي أدلة تثبت وفاة والدها. لكن السلطات السورية نفت تكراراً أن يكون برونير موجود على أراضيها، ولم تبد تجاوباً لا مع المذكرة القضائية الفرنسية التي صدرت في هذا الشأن، ولا مع المساعي التي قامت بها السلطات الفرنسية التي أثارت القضية مراراً مع المسؤولين السوريين. والأمر الوحيد المؤكد اليوم هو أن برونير الذي طالما اعتبر بمثابة الذراع اليمنى لأدولف ايخمان مهندس ما يسمى "بالحل النهائي للمشكلة اليهودية"، اختفى في مكان ما ولم يخلف وراءه اي أثر.