مثلما شكّل طي ملف الخلاف الحدودي بين قطروالبحرين مصدر ارتياح وغبطة في البلدين ولدى شعوب ودول مجلس التعاون الخليجي التي كانت تعيش ألم الخلاف وتفاعلاته الساخنة، جاء حدث لاهاي في 16 آذار مارس الجاري ليثير اصداء واسعة عربية ودولية، وليطيح ايضاً بتوقعات بعض المراقبين الذين ظنوا ان الدوحةوالمنامة ستدخلان مرحلة صراع ومواجهات. وكان بالامكان ان يضع اصحاب هذه التوقعات خطوطاً حمراً تحتها وخصوصاً اذا ما تأملوا خريطة التركيبة السكانية والتفاعلات بين الناس في البلدين والمنطقة، إضافة الى وجود قيادتين شابتين في قطروالبحرين ممثلتين في أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وأمير البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، اذ اكدت التجارب انهما يفكران بعقلية عصرية. هذا معناه ان أية قراءة لأبعاد الحدث لا بد ان تقف لتمعن النظر في الخلفيات "الذهنية والعقلية" التي ادت الى إشاعة اجواء الارتياح الواسع عقب اعلان اميري البلدين التزامهما تطبيق قرارات محكمة العدل الدولية بل السعي لتعزيز العلاقات الثنائية وارتياد آفاق جديدة للتعاون تستجيب تطلعات شعبين بينهما من الأواصر ما كان وسيظل على الدوام يشكّل صمام أمان وضماناً لمسيرة التفاهم والخطى الهادفة لتمتين العلاقات الرسمية والشعبية معاً. ولعل الاحتفاء الشعبي بالحدث كان اكبر دليل على ان قيادتي قطروالبحرين حققتا تطلعات النبض الوطني من خلال هذه القضية التي استمرت 62 عاماً وفتحتا في الوقت ذاته دروب العمل الواثق المدروس لبناء علاقة تتجاوز خلافات الماضي، ومشكلاته التي كانت مسألة اللجوء الى المحكمة واحدة من وسائلها بعدما رأت قطر في وقت مبكر ان اللجوء الى محكمة العدل سيوفر "حلاً ودياً وسلمياً" خصوصاً وان البلدين لم ينجحا في التوصل الى حل ثنائي للقضية الحدودية التي كانت تتعلق بالسيادة على جزر حوار وقطعة جرادة للمنامة حالياً والزبارة وجزيرة جنان وجرف فشت الديبل تحت السيادة القطرية بعد كلمة المحكمة هذا إضافة الى مفاصات اللؤلؤ للدوحة، وترسيم الحدود البحرية للمرة الأولى في تاريخ البلدين. وشهدت السنوات الماضية محاولات عدة لطي هذا النزاع اذ لعبت المملكة العربية السعودية دوراً مهماً اشاد به البلدان، كما كان لسلطنة عُمان جهودها ولدولة الامارات ايضاً في مجال تقريب وجهات النظر و"تهدئة" الاوضاع. وأصبحت مسألة بت القضية في محكمة العدل خياراً لا خيار غيره إثر عمليات شد وجذب بين البلدين. وكانت الدوحة تتمسك بهذا الخيار الذي رفضته المنامة في البداية، وكانت قطر ترى منذ العام 1965 اهمية عرض الموضوع على محكمة العدل الدولية وطرحت هذه الفكرة ايضاً عام 1981 بعد قيام الوساطة السعودية "حتى يتم البت في القضية على اساس مبادئ وقواعد القانون الدولي". وكانت السعودية استجابت للطلب القطري آنذاك واعتبرته "وسيلة مناسبة لحل كل الحلاف"، بحسب ما ذكر مصدر حكومي قطري في تلك الفترة. وقالت المصادر القطرية آنذاك ان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز بعث في 1987 الى أميري قطروالبحرين يعرض عليهما إحالة النزاع الى محكمة العدل الدولية فردت قطر على الرسالة في 26 كانون الاول ديسمبر 1987 وبناء على هذا قال القطريون "ان السعودية اعلنت في كانون الاول 1987 ان الطرفين وافقا على إحالة موضوع الخلاف حول السيادة حول جزر حوار وحدود البلدين البحرية الى محكمة العدل الدولية". ولكن الوساطة السعودية تواصلت ولم تتوقف المساعي والاتصالات والزيارات الى ان تقدمت قطر بسبب عدم التوصل الى "تسوية ثنائية" بين الدوحةوالمنامة بطلب الى محكمة العدل الدولية في 8/7/1991 تدعو فيه المحكمة الى النظر في طلباتها التي "تتعلق بالسيادة على جزر حوار وفيشت الديبل وقطعة جرادة وان تحدد الحدود البحرية بينها وبين دولة البحرين". وكانت محكمة العدل اصدرت حكمها الأول في شأن اختصاصها النظر في القضية في 1/7/1994 وهكذا استمرت تفاعلات القضية الى ان حل يوم 16 آذار مارس الجاري الذي كان علامة فارقة وفاصلة بين مرحلتين. واذا كان الناس في عالمنا العربي استوقفهم إعلان قطروالبحرين الفوري تطبيق حكم المحكمة فإن البلدين قدما درساً بليغاً من خلال هذه التجربة، وهو درس يعني انه في حال عدم التوصل الى تسويات ثنائىة فإن اللجوء الى محكمة العدل الدولية يعتبر سلوكاً حضارياً يعبّر عن تمسك بالنهج السلمي الودي لحل اعقد المشكلات، وهذا ما حدث بالنسبة لقضية الحدود القطرية - البحرينية، ما يتطلب ان تتأمل بعض الدول العربية وغيرها التي ما زالت تعيش مخاوف الاقتراب من لهيب الخلافات الحدودية، هذه التجربة القطرية - البحرينية التي تنم عن روح اخوية، اعطت دفعة قوية ايضاً لكيفيات احترام القانون الدولي في زمن يُنتهك فيه هذا القانون من دول عدة في عالم اليوم الذي يعيش مأساة "المعايير المزدوجة" والمختلة والظالمة، كما نرى حالياً في فلسطين التي يدفع اهلها كل يوم ثمن الاحتلال الاسرائيلي. واذا كانت تجربة قطروالبحرين امام محكمة العدل الدولية وبعد صدور الحكم شكلت دروساً مفيدة للعرب ودول العالم الثالث فإن قراءة سريعة لخطابي اميري قطروالبحرين لشعبيهما بعد صدور الحكم تعكس قصة جديدة تضع سماتها وملامحها قيادتان شابتان تسعيان حالياً الى بناء الدولتين بناء عصرياً يقوم على المؤسسات وقيم المشاركة الشعبية. فالبلدان قطروالبحرين يشهدان حالياً تحولات على طريق بناء المؤسسات، فالدوحة تعد الآن من خلال لجنة شكلها الأمير دستوراً دائماً للمرة الأولى سيحدد الحقوق والواجبات في شكل دستوري، وسيفتح هذا الأبواب امام اول انتخابات من نوعها لتشكيل برلمان منتخب بعدما كانت قطر اجرت اول انتخابات من طريق الانتخاب المباشر ادت الى تشكيل اول مجلس بلدي مركزي منتخب شاركت فيه المرأة في انتخابه من خلال الترشيح والاقترع. وها هي البحرين بعد الاستفتاء الشعبي على الميثاق والخطوات الايجابية التي اسفرت عن اطلاق معتقلين وعودة آخرين من الخارج تتهيأ بخطى مدروسة لبناء مؤسساتها، وهذا يعني ان روح القيادات الشابة في العاصمتين كانت وراء هذا الاخراج الرائع التي ادت لطي ملف الخلاف الحدودي الذي كان "شوكة" اقتلعها البلدان من الجسد توطئة لاطلاق طاقاته في ميادين التعاون والتفاهم. أما على صعيد التفاعل الشعبي فالتوقعات تشير الى ان حركة رجال المال والاستثمار ستنطلق في هذه المرحلة، كما اتوقع ان تفتح قطر مجالات عمل واسعة امام البحرينيين المعروفين بتأهيلهم وخبرتهم وحاجتهم ايضاً لفرص العمل. وسيأتي كل هذا وغيره تحت مظلة اللجنة العليا المشتركة التي كان البلدان شكلاها قبل اغلاق الملف الحدودي ويرأسها من الجانب القطري ولي العهد الشيخ جاسم بن حمد آل ثاني بينما يرأسها من الجانب البحريني ولي العهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة. هذا معناه ان "العرس القطري - البحريني" لم ينته بل بدأت اشراقاته تطل وتبشر بعطاء للشعبين، وشعوب المنطقة التي تتوق لمواكب الفرح وقوافل البناء، بعدما اضناها السفر في عوالم الحزن ومتاهات الخلافات الحقيقية او المصطنعة.