اخترنا مصطلح الإعلام الفاسد ترجمة لكلمة "Disinformation" إلى أن يشير علينا أحد بترجمة أكثر دقة. وبانسداد قنوات المعلومات نحن نعني وجود عوائق وضعت عمداً، او سمح لها بالوجود بدافع من الإهمال او التخلف، بما يعوق وصول المعلومة في اتجاه صاعد الى صانع القرار، وبالتالي يحجب عنه الرؤية اللازمة لاتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب حماية للذات والدولة. وإذا كنا نتخذ من مسرحية شكسبيرية هي "يوليوس قيصر" مرجعاً لنا في التفكير والاستنباط فذلك لأننا ندرك أن الفن العظيم يخلق واقعاً أكثر صدقاً من الواقع نفسه، أي أنه أوقع من الواقع إذا جاز التعبير. سنركز في كلمتنا على نقطتين، الأولى هي أن التآمر يحتم استخدام الإعلام الفاسد، وبذلك يكون وجود الإعلام الفاسد في حد ذاته، مهما بدا بريئاً مؤشراً الى وجود تآمر من نوع ما، أو هو في القليل يغري بالتآمر أو الاختراق. النقطة الثانية سنتناولها في كلمة تالية، وسنوضح فيها أن الفهم الشائع لدى الأكاديميين ودارسي شكسبير على مدى مئات السنين من أن كاسياس رأس المؤامرة على قيصر كان رجلاً حاقداً وأن بروتس كان رجلاً نبيلاً يعمل من أجل روما، أي من أجل قضية عامة، وأنه اشترك في حلقة التآمر لاغتيال قيصر دفاعاً عن الديموقراطية التي يتهددها انفراد قيصر المتوقع بالحكم كديكتاتور فرد. فنحن نرى في كل ذلك أكذوبة كبرى سنتولى كشفها بأدلة لا تقبل النقض من النص نفسه. إن المسؤول عن هذا الفهم هو جملة انطونيو في آخر المسرحية التي قالها في رثاء بروتس قبل دفنه بلحظات: "هذا هو الروماني النبيل بينهم جميعاً. كل المتآمرين فعلوا ما فعلوه بدافع من الحقد على قيصر ما عداه هو، وهو وحده كان مدفوعاً بقضية عامة. إن عناصر التوازن بين نبله وطبيعته، سيدفع الطبيعة لأن تقول: لقد كان رجلاً". لا شيء أبعد عن الحقيقة مثل الجملة السابقة التي قالها انطونيو بوعي كامل لأسباب سياسية بحتة. هذه كذبة سياسية رائعة الهدف منها هو التهدئة والاستيلاء على افراد معسكر بروتس المهزوم. ففي حرب اهلية ليست مع اعداء من خارج البلاد، عندما ينهزم عدوك وينتحر فلا بد من أن تعامله بما يليق به من احترام حرصاً على ايقاف المعركة بينك وبين افراد معسكره المهزومين لإعادة الوحدة الى المجتمع. هل كان المطلوب أن يقول انطونيو: رحمه الله، لقد كان وغداً كبيراً؟ أعود الى نقطتي الأولى، كاسيوس، رأس المؤامرة كان أيضاً على يقين من أن بروتس النبيل كان يحقد على قيصر للمكانة الرفيعة التي وصل اليها بعد انتصاره الأخير، لذلك كان من السهل عليه أن يضمه إلى حلقة التآمر. ولأنه كان يعرف فاعلية وسحر الكلمة المكتوبة التي تسمى الآن الإعلام لذلك لجأ إليها. ليس مهماً وجود آلة طباعة وأحبار وورق، تكفي خطابات بخط اليد منشورات ارسل واحداً منها لتوضع على مقعده، في مكتبه في مجلس الشيوخ بحيث يعثر عليه هو وحده، وخطاباً آخر سيلصق بالشمع على تمثال في الحديقة التمثال لجد بروتس مؤسس الجمهورية في روما، وخطاباً ثالثاً سيوضع على حافة النافذة. هي خطابات تنقل رأي الناس في الشارع نبض الجماهير لكي يعلم بروتس أن اغتيال قيصر مطلب جماهيري. كانت العبارات المكتوبة في هذه الخطابات المنشورات قليلة وبسيطة للغاية ولكنها تفي بالغرض. لوسيوس خادمه، وجد الخطاب الاول اعطاه إياه قائلاً: وجدت هذا الخطاب موضوعاً على حافة النافذة، وأنا واثق انه لم يكن هناك عندما ذهبت لأنام أي أنه وضع منذ دقائق، إذاً هو يحمل انباءً جديدة. ويبدأ بروتس في قراءة الخطاب، بروتس: أنت غافل... استيقظ... انظر بنفسك... هل روما... إلخ... تكلم، اضرب، صحّح الاوضاع، أنت نائم يا بروتس... اصح. هذا هو بالضبط ما جاء في الخطاب، كلمات قليلة للغاية اكتفت بالايحاء من بعيد ولكنها أكملت الدائرة داخل عقل بروتس، لدرجة أنه هو نفسه أكمل الخطاب بصوت مسموع متولياً الإفاضة والشرح جملة هل روما... إلخ تحولت الى هل روما ستكون في قبضة رجل واحد؟... ماذا؟... روما؟ هل أنا مطالب بأن اتكلم؟ أن أضرب، أن أقوم بالتصحيح. آه يا روما، كل ما تطلبينه سيلبيه بروتس. تصور، كلمة إلخ تحولت إلى كل هذه الكلمات!! السؤال هو، هل كان كاسياس في حاجة إلى استخدام الإعلام الفاسد مع بروتس على رغم أنه واثق أنه ضمه فعلاً الى حلقة التآمر؟ الاجابة: نعم. فالعبقري الشرير كاسياس على وعي أن النبلاء الوطنيين من هذا النوع الذي يعانون من الغيرة والحقد والعجز عن الفعل في حاجة دائماً إلى من يؤكد لهم أنهم يعملون من أجل الجماهير ويلبون مطالبها، ليس هو من سيقتل قيصر، بل الجماهير، الرأي العام، القضية العامة. لقد أرسل كاسياس هذه الخطابات عشية الاغتيال، اسمحوا لي بالتوقف لحظة طالباً السماح باستخدام تعبير بالعامية، فصيح الاصل، لوصف ما فعله كاسياس، لقد اراد أن يبيّت عليه هو مصطلح معروف في الاوساط العمالية، فقد تتفق مع أحد العمال ان يأتي اليوم الفلاني للقيام بعمل ما، ولكنك لا تتركه، عليك أن تبيّت عليه، أن تذهب اليه ليلاً وتنبهه إلى ما هو مطلوب منه في الغد، يعني أن يبات ليلته مملوءاً بفكرة العمل المطلوب منه في الصباح، هكذا بيّت كاسياس على بروتس فاصبح جاهزاً الآن لأن يتحول الى قاتل يقتل قائداً كبيراً هو أيضاً صديقه بعد أن علم أن قتله مطلب جماهيري من اجل الحرية والديموقراطية. ألم يكن كاسياس سيفعل ذلك بطريقة مختلفة لو كان يمتلك صحيفة ومحطة اذاعة وتلفزيون؟ بالتأكيد كان سيفعل ذلك في حال أن يكون الهدف المطلوب غسل مخه اكثر من شخص، جماعة أو شعب، سيرى بعض الناس انني اقفز قفزة واسعة عندما أقول إن كل خبر كاذب في مطبوعة ما، يشير الى وجود تآمر من نوع ما. ولكنني أصر على أن تفسير ذلك بالجهل أو الغباء أو انعدام الحرفة هو بالضبط ما أعجز عن الاقتناع به. منذ شهر كامل قال عرّاف ليوليوس قيصر: قيصر.. احترس من منتصف آذار مارس. لم يأخذ قيصر هذه النبوءة بجدية، نحن ايضاً لن نتعامل معها كمعلومة. ففي السياسة نحن نتعامل مع المعلومات فقط، لقد مر الوقت ونحن الآن، في منتصف آذار مارس في مكان قريب من مبنى الكابيتول قبل حادث الاغتيال بدقائق قليلة. فجأة يظهر شخص يقف وحده على المسرح، هو أرتيمودراس، لم يظهر من قبل في المسرحية ولن يظهر في ما بعد. كان يمسك بورقة اخذ يقرأ منها: قيصر، احترس من بروتس، تنبه لكاسياس، لا تقترب من كاسكا، ضع عينيك على سنا، لا تثق في تريبونيوس، لاحظ جيداً ماتيلاس سيمبر، ديشياس بروتس يكرهك، أنت أخطأت في حق كايوس ليجيرياس، ما يجمع بين عقولهم جميعاً انهم ضد قيصر، وبما انك لست مخلداً فانظر حولك، إن الثقة الزائدة بالنفس تمهد الطريق للمؤامرة، لتحفظك الآلهة... المحب ارتيمودراس. بعد أن انتهى من قراءة الورقة يقول: سأقف هنا إلى أن يمر قيصر فأعطيها له كما لو كنت صاحب مظلمة، قلبي يتمزق لعجز الفضيلة عن أن تحيا بعيداً من انياب الحقد، إذا قرأت هذه يا قيصر فقد تعيش، إذا لم تقرأها فسينجح الخونة في مسعاهم. ثم يخرج من المسرح. بلغة عصرنا نحن أمام معلومة أمن قومي خطيرة للغاية، غير أنها في حاجة إلى قناة اتصال سالكة لتصل الى صانع القرار لحماية نفسه من المؤامرة، فهل سينجح؟ ويصل موكب قيصر، ويداعب قيصر العراف قائلاً: ها قد جاء منتصف آذار مارس. فيرد عليه: نعم يا قيصر، ولكنه لم يذهب بعد. وعندما يصل الموكب الى حيث يقف ارتيمودراس يمد له يده بالورقة صائحاً: عاش قيصر، اقرأ هذه الورقة. سنلاحظ أن شكسبير في الجملة السابقة استخدم كلمة schedule وهي تعني ورقة كما تعني ايضاً مخططاً، او جدولاً، أو خط سير لأحداث تماماً كما تعنيه الكلمة الآن، ولو أن قيصر كان أقل ثقة بالنفس وأكثر حذراً للفتت الكلمة نظره، الرجل لم يقل اقرأ هذه الشكوى أو المظلمة أو الخطاب. على الفور يتدخل ويشياس وهو عضو في المؤامرة، ويمد يده بشكوى أخرى قائلاً: تريبوتياس يرجوك أن تقرأ شكواه. فيلح ارتيمودراس: أوه... قيصر، اقرأ هذه أولاً، فهي ذات صلة بك، اقرأها يا قيصر العظيم. ويرد قيصر: ما له صلة بنا سيكون آخر ما نهتم به. مرة أخرى يلح الرجل في انفعال: لا تؤجل ذلك يا قيصر.. اقرأها في الحال. قيصر يرى هذا الطلب غريباً ويصيح: ماذا؟ هل الرجل مجنون؟ ويصيح أحد الكبراء: يا أخ... تنح عن الطريق. وهنا يتدخل كاسياس العبقري المتآمر ليحسم الأمر: ماذا؟ هل تصر على أن يقرأ شكواك في عرض الطريق؟ تعال الى الكابيتول. لم تصل المعلومة الى قيصر، الهدف والضحية لأن ديشياس وكاسياس تدخلا في الوقت المناسب وسدا قناة الاتصال. وابتعد الموكب في طريقه الى الكابيتول، ولقي قيصر مصيره المحتوم. دعونا نتقدم في الزمن الآن ألفي عام، ونسأل هل كان هناك - خارج حلقة التآمر - من كان يعرف أن هناك خطة لاغتيال أنور السادات؟ وماذا فعل لايصالها؟ مرة أخرى نقابل ارتيمودراس. العقيد ادريس حينذاك، ضابط مباحث أمن الدولة في ضاحية من ضواحي القاهرة وهي شبرا الخيمة، في صباح 6 تشرين الاول اكتوبر 1980 جاءه أحد مصادره، فعنفه بشدة فتعليمات السلامة الأمنية تمنع ذلك إلا أن المصدر قال له: كان لا بد من أن أبلغك أن أنور السادات سيغتال اليوم في العرض العسكري، وأؤكد لك أن معلوماتي صحيحة. أجرى الضابط مكالمات هاتفية غير مطمئنة، فترك مكتبه وأخذ طريقه الى وزارة الداخلية، قابل زملاء له فانهالت عليه الاسئلة، هل تثق في هذا المصدر؟ نعم كل المعلومات التي عرفتها من طريقه كانت صحيحة، فكر يا ادريس لو أن هذه المعلومة طلعت فشنك حانروح في داهية؟ لم يبلغني بشيء غير صحيح من قبل، أنا واثق من مصدري. زملاؤه جميعاً من القيادات الوسيطة، لا بد من عرض الأمر على مسؤول كبير، وكان نائماً في ذلك الوقت في مكتبه في الوزارة بعد أن ظل ساهراً طول الليل، هناك مسؤول آخر، ولكن سيترتب على إبلاغه تعقيدات إدارية وحساسيات شخصية، ناقشوا الأمر بسرعة واضطراب وقرر العقيد إدريس أن الفرصة الوحيدة المتاحة هي ان يذهب بنفسه الى العرض العسكري في مدينة نصر، ويبلغ الوزير أو أي مسؤول آخر هناك. في تلك اللحظة التي قرر فيها الضابط أن يذهب بسيارته الى حيث يوجد العرض العسكري، تكون ماكينة الدولة العصرية توقفت تماماً ثم عادت الى الوراء مئات عدة من السنين بالسرعة نفسها التي يقود بها سيارته، لتصل الى عصر العدائين couriers الذين يحملون الاخبار ليوصلوها عدواً أو على ظهور الخيل. ووصل الضابط الى المنصة وطلب الدخول لأمر مهم منعه رجال الحرس بالطبع، احتد عليهم واحتدوا عليه، كان من المستحيل بالطبع أن يخبرهم بما جاء من أجله، شاهد وزير الداخلية من مكانه في المنصة ما يحدث، في ما بعد قال: كنت مندهشاً لسلوك ذلك الضابط السخيف الذي يصر على الفرجة على العرض من المنصة. بعد هذا التصريح، لك ان تتصور مدى ما يتمتع به الوزير من حس أمني، ولكنها مرة أخرى أوهام القوة والثقة الزائدة بالنفس التي تمنع رؤية الخطر، انه حتى لم يفكر في أن يتعرف على ما يحدث بنفسه، خصوصاً أن ضابطاً تابعاً لوزارته طرف في المشكلة. وعاد إدريس محبطاً الى زملائه، كانوا جالسين جميعاً في مكتب واحد يتابعون العرض على شاشة التلفزيون، سألوه بلهفة: قلت لهم يا إدريس؟ أجاب في يأس: لا، ما عرفتش أدخل المنصة، ولا عرفت أقابل أي مسؤول. فتنفسوا الصعداء وقالوا في ارتياح: الحمد لله، المعلومة طلعت فشنك، العرض ماشي عال العال، وكل حاجة طبيعية انت كنت حاتودينا في داهية يا إدريس. في تلك اللحظة استمعوا الى طلقات الرصاص تدوي في جهاز التلفزيون... واغتيل السادات. سأتوقف لحظات قبل أن أنهي كلمتي، اتناول فيها سلوك الضابط بالتحليل، الرجل كان واثقاً من مصدره، وبإحساس قوي بالواجب قرر أن يذهب الى آخر الشوط ليبلغ بما يعرفه، ولكني اتصور أنه جاءت عليه لحظة انتابه الشك في صدق المعلومة التي وصلته، ففي جو العرض العسكري وصخب الاحتفال، ومظاهر الثقة والقوة والانضابط التي تسود كل عناصر المكان، كان لا مفر من أن يشك في صدق ما يعرفه، بالتأكيد استولى عليه الإحساس بأنه - وحده - يعارض هذا الكيان الكبير الذي يتسم بالقوة والثقة، فقرر أن يتراجع وربما تمكن من إقناع نفسه بما يتمناه، وهو أن المعلومة كاذبة، لقد تأخر وقت الإبلاغ، العرض بدأ فعلاً، حتى لو تمكن من ايصال المعلومة طبقاً لما يحتمه الواجب، فالله وحده يعلم مدى الاضطراب الذي سيتسبب هو فيه، لقد قال بيرون من قبل إن المعرفة هي شجرة الأسف، وهي فعلاً كذلك. انسداد قنوات الاتصال المعلوماتية أدى إلى اغتيال الزعيمين، في حالة يوليوس قيصر تدخل عمداً أفراد من حلقة التآمر لمنع المعلومة من الوصول الى قيصر، وفي حالة السادات تدخل التخلف... التخلف ايضاً يتيح للمتآمرين الاختراق والوصول إلى الهدف . * كاتب مصري.