تجد الروايات الأميركية اللاتينية استقبالاً خاصاً لدى القراء العرب منذ نحو عشرين عاماً، وتأتي هذه الخصوصية من تقاطع وجوه الحياة بصراعاتها وطموحاتها وانكساراتها، هنا وهناك، وتنفرد الكاتبة التشيلية ايزابيل الليندي بالبراعة في رصد شخصياتها الأثيرة من النساء الجريئات اللواتي يحاولن اكتشاف انفسهن واقتحام الحياة المزدحمة بالصراعات القديمة الجديدة التي يديرها الرجال. وتأخذ روايتها "صورة عتيقة" مكانها بعد رواية "ابنة الحظ" وقبل رواية "بيت الأرواح" لتشكل معهما ثلاثية روائية متصلة - منفصلة، تمتد على مساحات زمنية ومكانية واسعة. حيث تبدأ "ابنة الحظ" في ثلاثينات القرن الثامن عشر، وتبدأ "صورة عتيقة" بعد خمسين عاماً لتتواصل الى بدايات القرن العشرين. كعادتها، في كل رواياتها، تمهّد ايزابيل الليندي الأرض الوعرة التي تتحرك فوقها شخصياتها، وتحدد العلاقات الرئيسية بين الشخصيات، والأمكنة، والأحداث الكبرى الموازية، أو التي تشكل خلفية للأحداث الحية، قبل أن تمضي في تقطيع المشاهد المزدحمة بالتفاصيل. كم هي الحياة باهظة الثمن حينما ترتبط اطلالة الجنين على الحياة بموت أمه في ولادة عسيرة، هكذا ولدت أورورا وكبرت برعاية جدتها لأمها الزا سوميرز، في سان فرانسيسكو، وزوجها الطبيب الصيني تاو شين، فلم تر "أورورا" أمها ولم تعرف أباها الذي ظل لغزاً حتى اكتشفته في شبابها. تقبض ايزابيل الليندي على قلمها بقوة لتتحكم بمصائر شخصياتها القلقة، وتطلق عنصر المفاجأة في لحظة غير متوقعة، وقد تكون هذه المفاجأة موتاً محزناً لشخصية مفصلية، لتأخذ الحياة في الرواية مساراً آخر، كما حدث في مصرع تاو شين بعد أن اعتدى عليه أفراد من عصابة في الحي الصيني تعمل في المتاجرة بأجساد الفتيات الصغيرات المستوردات من الصين، وكان تاو شين يحاول انقاذهن، وقد حرر بعضهن سراً، وتعاون مع راهبتين شابتين من دعاة الفضيلة في تسليم بعض أفراد هذه العصابة الى الشرطة، لكن العصابة نصبت له كميناً، بينما كان يصطحب حفيدته أورورا، في طريق العودة الى البيت، ولم يفلح الأطباء في انقاذه من الاصابات الخطيرة التي تعرض لها، بينما أصيبت الطفلة أورورا بصدمة أفقدتها ذاكرتها، ومحت صور طفولتها في السنوات الخمس التي عاشتها في بيت جديها لأمها. وتمتلك الليندي شيئاً من خبرة الطبيب الجراح والرسام وجرأتهما في تشريح الجسد البشري، ورصد حركاته ونزعاته، وآلامه ونشوته، في سكونه وانفعالاته المتصاعدة أو المتعاكسة. وهي بذلك تملك حرية واثقة في اختيار الايقاعات المنسجمة في الحركة والحوار والفكرة التي تحملها كل شخصية من موقعها في الرواية التي تستعير لغة السينما، أحياناً. تستعيد أورورا ذكريات ما بعد صدمتها، فبعد أن مات تاو شين قررت الزا أن تصحب جثمانه الى الصين، لتدفنه هناك، كي لا تفقد روحه اتجاه بوابة السماء، ووجدت نفسها مضطرة الى تسليم أورورا الى جدتها لأبيها غير المعلن، لأن الرحلة ستكون طويلة ولا تخلو من مخاطر الأسفار الطويلة في البحر. تبحث أورورا عن جذورها الخلاسية المركبة فتجد مزيجاً غريباً من الأعراق التي تواصلت في دمائها، فأبو جدتها الزا بحار انكليزي كان يقيم في ميناء فالبارايسو في تشيلي، وأمها امرأة مجهولة من السكان الأصليين، أما جدها من أمها فهو الطبيب الصيني تاو شين، بينما كان أبوها من عائلة دل بايي التشيلية التي أقامت في سان فرانسيسكو ستة وثلاثين عاماً، وعادت الى التشيلي بعد أن تضخمت ثروتها، في الوقت الذي كانت فيه تشيلي تعيش حالاً من الغليان، حيث زحفت قواتها لتحتل البيرو بعد معارك طاحنة، بينما تخوض المعارضة مواجهات للاطاحة بالديكتاتور بالماسيدا. عادت عائلة دل بايي الى تشيلي، لتعيش في سانتياغو وتدير ممتلكات جديدة، تقودها الجدة المتصابية باولينا التي لم ترفض الزواج من خادمها المطيع ويليامز بعد موت زوجها، وكانت أورورا تكتشف بين حين وآخر وجوهاً للحياة لم تعرفها من قبل، وحينما حصلت على آلة تصوير، جاءتها كهدية، أصرت على تلقي دروس خاصة في التصوير لدى أمهر المصورين في سانتياغو. ومن آلاف الصور الضوئية، ومن الذاكرة، راحت أورورا تنسج أسطورتها الخاصة وترصد بالصور والكلمات أساطير الحيوات الخاصة للناس الذين عاشت معهم، كطفلة مدللة، برعاية جدة مغامرة طموحة، ثم كزوجة أخفقت في زواجها الأول، وهي ليست متأكدة من حب جديد، يقودها الى المجهول، ولكنها متأكدة من جرأتها في اكتشاف حياتها بالكلمة والصورة. كان التصوير يمنحها ولعاً مستمراً باكتشاف الممرات المعتمة في حياتها، ويعطيها قدرة على التأمل والاستذكار: "فما نملكه في آخر المطاف ملء أيدينا هو الذاكرة التي نسجناها، كل واحد يختار درجة اللون التي يروي بها قصته الخاصة... إنني أعيش ما بين تدرجات ألوان مختلطة وأسرار مغبشة، وارتياب، واللون المناسب لرواية حياتي يتفق أكثر مع لون صورة عتيقة باهتة..". * "صورة عتيقة" ايزابيل الليندي، ترجمة صالح علماني، دار المدى - دمشق 2001.