لم تولد إيزابيل الليندي في تشيلي بل في ليما عاصمة بيرو حيث عاشت هناك حتى الرابعة من عمرها. وحين هجر والدها العائلة ، وكان يعمل سكرتيرا في السفارة ، دون سابق إنذار فقد خرج ليشتري السجائر ولم يرجع أبدا، اضطرت والدتها للعودة إلى سانتياغو مدينتها الأم. أمضت الليندي السنوات الخمس التالية في تشيلي ، إلى أن غادرت إلى بوليفيا ، حيث كان زوج أمها ، الذي كان دبلوماسيا هو الآخر ، قد عين هناك. بعد عامين قضتهما في بوليفيا ، غادرت العائلة إلى لبنان. مكثت في بيروت ثلاثة أعوام قبل أن تندلع الحرب الأهلية عام 1958 وتدفع بالعائلة للتشتت. عادت الليندي مع شقيقيها إلى تشيلي ، وذهبت أمها إلى إسبانيا قبل أن تلحق بزوجها في تركيا. حين رجوعها إلى منزل جدها في سانتياغو كانت الليندي أشد المراهقات تعاسة في تاريخ البشرية وذلك بلا ريب يعود إلى خصوصية طفولتها ومراهقتها.... اللتين غلب عليهما الترحال والفراق الدائمين. على أغلب الأحوال كانت ستبقى في سانتياغو قرابة عقدين آخرين لتتزوج وتعمل في الصحافة وتنجب أطفالا قبل أن تدفعها الظروف للرحيل مرة أخرى. في عام 1975 ، بعد عامين من الانقلاب العسكري العنيف الذي أطاح بالحكومة الاشتراكية التي كان يقودها ابن عم والدها ، سلفادور الليندي ، فرت من البلد وهي تشتكي من الأرق وترتجف من الخوف إلى فنزويلا حاملة حفنة من تراب تشيلي من حديقتي. ولأكثر من عقد كامل أقامت الليندي في كاراكاس إلى أن نشرت روايتها الأولى ( بيت الأرواح ) ، وكان انحلال زواجها الأول قد حررها لتبدأ حياة جديدة في كاليفورنيا ، حيث أقامت هناك ولا زالت تقيم منذ ذلك الحين. ليس من السهل الخروج بسلسلة الأحداث هذه إثر قراءة ( بلدي المبتدع:رحلة نوستالجية عبر تشيلي) وهو كتاب تقدم فيه الليندي مذكراتها حول حياتها داخل وخارج وطنها الأم. ولكي يخرج القارئ بقصة متماسكة من تجاربها يتوجب عليه أن ينخل ويعيد ترتيب نتف المعلومات التي ترد على طول الكتاب ، وهي أشبه ما تكون بقطع من الفخار التي يتم النظر إليها بصورة مضببة من قاع نهر ما ، حيث تقوم موجة رشيقة بإعادة ترتيبها على الدوام. على أكثر من صعيد ، وإذا ما وضعنا في اعتبارنا الكم الهائل من الأزمات الجغرافية والشخصية والسياسية في حياتها ، فإن انعدام النظام هذا يصبح أمرا مفهوما. في روايات الليندي - التي بني العديد منها حول حياة عائلتها وحياتها هي - يتم تحقيق ذلك التماسك ، لأنه في الروايات فقط وفي الفن يمكن لملمة ما تم تشظيته ليصبح كلا واحدا. لذلك ففي الحين الذي قد يقدم فيه هذا الكتاب النحيف صورة أكثر صدقا وحميمية لحياة الليندي ، إلا أن هذه الصورة غير ضرورية وغير متحققة بشكل تام. في أكثر من مرة يقال لنا أنه بسبب ورود حدث ما أو تفصيل ما أو قصة ما في مكان آخر من قبل ، فإنها لن تقوم بإخبارنا به مرة أخرى. لن أتوسع حول ذلك هنا حيث انني قد قمت بسرده في الفصول الأخيرة من روايتي الأولى ومن مذكراتي (باولا) ؛ لن أقوم هنا بتكرار تفاصيل تلك السنين....لأنني قد تحدثت عنها في مكان آخر ؛ لقد سردت مأساتها في (قصص إيفا لونا) ، ولا أريد أن أكررها هنا. (بلدي المبتدع) كتاب مليء بالثغرات التي لا يمكن ملؤها إلا بالرجوع إلى المقاطع ذات الصلة من روايات الليندي المبكرة ومذكراتها. وهو أمر قد يكون مثبطا لأولئك الذين لا يتوافرون على نتاجها كله في رؤوسهم أو بالقرب منهم. ليس لدى الليندي أوهام أو تخيلات حول مخططها العشوائي وتأثيراته. فهي تعترف بقولها ليس مقصودا من هذا الكتاب أن يكون عرضا لأحداث سياسية أو تاريخية. إنه فقط سلسلة من الذكريات. في مكان آخر تقول : إنني أكتب هذا... بدون خطة. يتم تعزيز الطابع العشوائي للكتاب بنبرتها غير المبالية والحافلة بالهذر واللغو ، وهو شيء آسر ومسل دائما. إن ملاحظاتها حول كيف أسهم إقصاؤها الأول ونفيها التالي عن التشيلي في تكوينها والتأثير على كتابتها تبدو مثيرة للاهتمام ومعبرا عنها بصورة تحرك المشاعر. عديدة هي المرات التي وجدت فيها أنه من الضروري أن أكبح جماح نفسي ، وأن أقطع كل العلائق ، وأن أترك كل شئ ورائي. المرة الأولى التي غادرت فيها التشيلي حين كانت طفلة ، شعرت بأن شيئا يتمزق في داخلي ... كان ثمة حزن لا يقهر يتبلر عميقا في دخيلة نفسي. تقول الليندي إن (بيت الأرواح) كان محاولة لإعادة القبض على بلدي المفقود ، وللم شمل عائلتي المشتتة ، ولبث الحياة في الموتى ولحفظ ذكرياتهم. هذه الملاحظات حول تأثير التاريخ والذاكرة على كتابتها تأتي مصحوبة بملاحظات أكثر عمومية عن التشيلي والتشيليين. كصحافية، تميل الليندي إلى التعميمات التشيليون سيئو المزاج ؛ الكوبيون ساحرون والمبالغات ، إننا نشرب شايا أكثر من كل سكان آسيا مجتمعين. هذه المقولات قد تبدو ضمن السمات المميزة للتشيليين عموما إننا نطلق أحكاما بدون أي أساس ، ولكن بنبرة يقين لا تدفع بأحد للشك فيما نقول ولكن مثل هذه المقولات لا تساعد في استحضار صورة حيوية بشكل خاص للبلد. أكثر الصور نضارة وتحديدا في هذا الكتاب تأتي مباشرة من حياة الليندي. فمن بين أجمل ما كتبته ما ورد حول جدها لأمها ، الذي كان رجلا قويا منحني موهبة الانضباط والحب للغة. وبالتأكيد إن لهذا الرجل الأوتوقراطي ذي المزاج الخاص تأثيرا كبيرا ودائما على الليندي والصورة التي تقدمها له في هذه الصفحات غنية ومؤثرة. كان رجلا لا يؤمن بالميكروبات ، لنفس السبب الذي يجعله لا يؤمن بالأشباح : فهو لم ير واحدا منها أبدا ، كما كان معجبا برغبة إيزابيل لأن تكون قوية ومستقلة ولكن دون أن تكون لديه القدرة على رعاية مثل هذه السمات اللاأنثوية أو التغاضي عنها. أحد أكبر الثغرات في الكتاب تظهر حين تضطر إيزابيل لتركه حين تغادر البلد بعد استيلاء بينوشيه على السلطة. أثناء قراءتي للكتاب ، ظللت أتساءل: ألا يثق كتاب السرد بأنفسهم؟ أو لماذا لا يثقون بأنفسهم؟ يبدو لي أن كل ما حاولت الليندي قوله في هذه المذكرات قد سبق لها أن عبرت عنه بشكل بليغ في كتبها السابقة. ولكن بالطبع إن ما يتم التعبير عنه في السرد غالبا ما يكون موجزا ومضللا ، ولذلك لا يمكن الوثوق به. أمامنا إذا أجزاء من قصتها في الشكل غير السردي ، في كتاب مغو ومحبط معا سيدفع بالعديد من القراء للرجوع إلى المصدر ( أو المصادر )...ونعني بذلك رواياتها.