بعد مضي أكثر من سبع سنوات على ابرام اتفاق أوسلو للسلام مع الحكومة الاسرائيلية، يبدو ان السلطة الفلسطينية، أو بعض قياداتها على الأقل، بدأت تراجع أسلوبها التفاوضي، الذي اتسم برد الفعل والبدائية وغياب التخطيط والتفكير الاستراتيجي، إذ اعتمد جوهرياً على حسن نية الديبلوماسية الاميركية والثقة شبه العمياء بإدارة الرئيس السابق بيل كلينتون. من جهة اخرى، يرد بعض اعضاء فريق مفاوضات السلام الاميركي على الانتقادات العربية والفلسطينية بطريقة غير مباشرة للدفاع عن سجل الإدارة في هذا المجال، بالإضافة الى محاولة تلميع صورتهم وتأكيد أنهم ليسوا مسؤولين عن الاخفاق في تحقيق اختراق على المسار الاسرائيلي - الفلسطيني. تكمن أهمية هذه المواقف والتصريحات في أنها تلقي أضواء على خلفية الموقف التفاوضي الفلسطيني والاستراتيجية الاميركية المتناغمة مع الاستراتيجية الاسرائيلية. أصدر "مركز الاعلام الفلسطيني"، احدى مؤسسات السلطة الفلسطينية، أخيراً تقويماً نقدياً لدور الإدارة الاميركية في مفاوضات السلام، وحدد الأسباب الرئيسية التي تقف وراء عجزها عن تحقيق نتائج أفضل على المسار الفلسطيني. ويعتبر التقرير خطوة جريئة وسابقة نوعية في محاولة متواضعة لوضع النقاط على الحروف وشرح موقف السلطة الفلسطينية ومآخذها واعتراضاتها على الأسلوب الذي اتبعه الرئيس الاميركي بيل كلينتون وفريق مفاوضيه في ادارة عملية السلام. كما يشير إلى أن المفاوضات، في نظر الاميركيين، كانت هدفاً في حد ذاتها وليست وسيلة مرحلية لإنجاز تقدم حقيقي وملموس يخفف من معاناة الشعب الفلسطيني ويساعده على الخروج من محنته وينهي الاحتلال والحصار المفروض عليه. انصب اهتمام وتركيز ادارة بيل كلينتون على الشكليات، خصوصاً استمرار المحادثات. وليس بالضرورة على فحواها أو مضمونها ونتائجها. ويضيف التقرير ان الفريق الاميركي توهم ان غياب المقاومة الفلسطينية للاحتلال الاسرائيلي، بالإضافة الى استمرار الدولة العبرية في بناء المزيد من المستوطنات في الأراضي المحتلة خلال انعقاد المفاوضات، يعفي الولاياتالمتحدة من القيام بجهد اضافي وفاعل لإنجاز سلام حقيقي. لم تشعر ادارة بيل كلينتون بالحاجة الى مواجهة الحقائق التاريخية أو التعاطي الجدي مع قرارات الشرعية الدولية، طالما ان الساحة الفلسطينية بقيت هادئة وغير معبأة أو قادرة على تفجير الوضع الأمني. وهكذا حصل تغليب الشكل على المضمون وأصبح هدف المفاوضات استمرار المفاوضات، لا أكثر ولا أقل، والحفاظ على ميزان القوى، الذي يخدم بالطبع المصلحة الاسرائيلية. ذهب التقرير أبعد من ذلك في نقده للاستراتيجية الاميركية، التي حاولت جاهدة عدم معالجة المواضيع الأساسية المتنازع عليها، مثل عدم شرعية الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية في حرب حزيران يونيو 1967، والتفاوض من أجل التفاوض وعدم احراج اسرائيل ودفعها لتحمل مسؤوليتها وواجباتها الدولية. في هذا السياق، شدد التقرير على ان استراتيجية واشنطن، التي اعتمدت على فكرة "الغموض البناء"، كانت لها تداعيات خطيرة على عملية السلام، إذ اعتقد كل من الفلسطينيين والاسرائيليين ان الطرف الآخر مستعد لتقديم تنازلات جوهرية، بغض النظر عن حقيقة مثل هذا السيناريو وواقعيته. ويبدو ان الفلسطينيين يحملون ادارة كلينتون، خصوصاً استراتيجية "الغموض البناء"، مسؤولية محورية في اخفاق المفاوضات. إذ صبّت هذه الاستراتيجية في مصلحة الهروب من مواجهة الحقائق الصعبة والتزام تنفيذ قرارات الشرعية الدولية. وأضاف تقرير "المركز الاعلامي الفلسطيني" ان تركيز الادارة الاميركية على الشكليات واغفال المضمون اقنع العديد من النخب والشعوب العربية بأن عملية السلام مجرد قناع صمم خصيصاً لخداع حكوماتهم ودفعها الى تطبيع العلاقات الاقتصادية والسياسية مع الدولة العبرية لمساعدتها على الخروج من عزلتها الاقليمية. وولد هذا الشعور الغاضب داخل معظم البلدان العربية وحتى داخل البلدان التي ابرمت معاهدات سلام مع اسرائيل، وفعّلت التبادل التجاري معها، عداء ليس فقط للدولة العبرية بل ايضاً للولايات المتحدة أخذ اشكالاً متعددة، منها خصوصاً الدعوات الشعبية لمقاطعة البضائع والسلع الاميركية. ومع الأسف أصبحت الولاياتالمتحدة في السنوات العشر الأخيرة اكثر التزاماً وارتباطاً بالمنطلقات الايديولوجية الاسرائيلية. النتيجة الطبيعية لهذا الانحياز الصارخ، هي التشديد على حماية أمن اسرائيل وأمن قواتها المحتلة على حساب الفلسطينيين، الذين يعانون من تدهور خطير في معيشتهم ونوعية حياتهم. لعبت هذه الفجوة الكبيرة بين الواقعين الاسرائيلي والفلسطيني دوراً جوهرياً في تزايد حدة الاحتقان الشعبي على الساحة الفلسطينية وانفجار انتفاضة الأقصى. ويختتم "مركز الاعلام الفلسطيني" تقريره بدعوة الولاياتالمتحدة الى ادارة عملية السلام بأسلوب وطريقة جديدين وخلاّقين: "من الخطأ بمكان اعتبار ان اتفاق سلام شاملاً بين الفلسطينيين والاسرائيليين مجرد فرصة اعلامية لالتقاط الصور... باستطاعة الولاياتالمتحدة ان تقدم الكثير في تشجيعها للعدالة والسلام والاستقرار في الشرق الأوسط، لكن فقط اذا استطاعت ان تستخلص الدروس والعبر من الاخطاء والاخفاق خلال السنوات السبع الأخيرة". فالسلام غير ممكن مع استمرار الاحتلال وبناء المستوطنات! هناك نقاط عدة تستوجب التوقف عندها والتأمل بمضامينها في تقرير "مركز الاعلام الفلسطيني": أولاً، تتسم نبرة التقرير بالنقد الهادئ الموضوعي، إذ غابت عنه السجالية ويسود التحليل المبني على قراءة دقيقة للاستراتيجية الاميركية. ثانياً، بدلاً من ان تتبنى السلطة الفلسطينية بشفافية وعلنية التقرير المذكور وتحاول تطويره وتوثيقه واستخدامه في محاولة جدية للتأثير في سياسات ادارة الرئيس الجمهوري الجديد جورج دبليو بوش، فإنها غسلت يديها منه واعتبرت انه لا يعبر عن رأيها وموقفها من دور ادارة بيل كلينتون السابقة في عملية السلام. الملفت ان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أعلن في بيان رسمي ان تقرير "مركز الاعلام الفلسطيني" ليست له أية صلة بسلطته، هذا مع العلم بأن التقرير وزع بواسطة الانترنت، على انه يعبر عن لسان حال الفريق الفلسطيني المفاوض. ولم يكتف عرفات بنفي علاقته بمضمون التقرير، بل شدد واكد على انه يقدر ويحترم جهود الرئيس الاميركي السابق وجهود ادارته في دفع مفاوضات السلام الى الامام. الأسئلة التي تطرح نفسها هي: "هل بإمكان الرئيس الفلسطيني ومستشاريه ان يستخلصوا الدروس والعبر من علاقاتهم مع الحكومة الاميركية بعد سبع سنوات من التعامل البدائي والساذج مع سيد البيت الأبيض والثقة شبه العمياء به؟ هل هناك من محاولات جدية داخل نخبة السلطة الفلسطينية لإعادة تقويم كيفية التعاطي مع الولاياتالمتحدة، حكومة وشعباً؟ وهل تستطيع السلطة الفلسطينية ان تستوعب اهمية المؤسسات والمجتمع المدني الاميركي وتبادر الى استثمار قدراتها المحدودة في بناء الجسور للتواصل المباشر مع الشعب والنخب الاميركية؟ وهل هناك من مخرج للقيادات العربية للتخلص من عقدة ووهم دور الأشخاص في صياغة السياسات الخارجية في واشنطن والانتباه الى الدور المحوري للمؤسسات؟ بالفعل، ارتكبت السلطة الفلسطينية اخطاء جسيمة في رهانها على بيل كلينتون، الذي كان يفتخر بأنه من اكثر الرؤساء الاميركيين تعاطفاً مع الدولة العبرية، وفي تصديقها للتطمينات الشفوية الفضفاضة التي رددها الرئيس الاميركي السابق على مسمع من الرئيس الفلسطيني. المحزن ان الأمر وصل ببعض اعضاء السلطة الفلسطينية في منتصف التسعينات الى اطلاق التصريحات التي تزعم بأنهم حققوا اختراقاً في طبيعة العلاقات الاميركية - الفلسطينية! ولمح البعض الآخر الى قدرة على منافسة اسرائيل في كسب ود كلينتون! أين المنطق والفكر التحليلي؟ كيف ولماذا تم تغييب العقل السياسي؟ هل اكتشف الجانب العربي فجأة، ومن دون أي انذار أو تحذير سابق، ان ادارة كلينتون لا تعتبر قرارات الشرعية الدولية ملزمة للإسرائيليين؟ إن المفاجأة الحقيقية تكمن في قصر النظر التحليلي العربي وغياب أو تغييب الفكر الاستراتيجي! ثمة حاجة ماسة وضرورية ليس فقط إلى تقويم نقدي لدور واشنطن في عملية السلام، بل ايضاً إلى فهم طبيعة العلاقات العربية - الاميركية واستنباط أساليب ناجعة للتواصل المباشر مع المجتمع المدني الاميركي. * استاذ العلاقات الدولية والديبلوماسية في جامعة سارة لورنس في نيويورك.