ثمة إجماع في أوساط نخبة السياسة الخارجية الاميركية والاسرائيلية على ان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يقف وراء انتفاضة الاقصى الاخيرة، فهو المدبّر والمحرّك للتظاهرات التي تفجّرت بعد زيارة ارييل شارون زعيم تكتل حزب "ليكود" اليميني لباحة الحرم المقدسي وللمواجهات الدموية بين المواطنين الفلسطينيين وجيش الاحتلال الاسرائيلي، التي اسفرت عن مقتل اكثر من مئة فلسطيني، بينهم عشرات الاطفال، وجرح حوالى الفين من المدنيين. وحمّلت الحكومتان الاميركية والاسرائيلية عرفات شخصياً وسلطته الوطنية مسؤولية اندلاع الاضطرابات وتأجيجها ايضاً بواسطة اللعب على مشاعر الفلسطينيين المتوترة، ومشاركة عناصر الشرطة والقوى الامنية الفلسطينية في اطلاق النار على الجنود الاسرائيليين، وطلبتا من عرفات لجم حركة "فتح" التابعة له وضبطها ومنع افرادها من استفزاز الجيش الاسرائيلي. المراقب للموقفين الاميركي والاسرائيلي وللتغطية الاعلامية في البلدين للانتفاضة يدرك جيداً استراتيجية واشنطن وتل أبيب التي تُحمّل الرئيس الفلسطيني مسؤولية الاضطرابات الدامية في الاراضي المحتلة وتشديد الضغط عليه لوقفها ومنع تصعيدها وقمعها اذا امكن. بغضّ النظر عن الاهداف الرئيسية وراء الاستراتيجية الاميركية - الاسرائيلية، لا تأخذ هذه الرؤية التبسيطية في الاعتبار الواقع الفلسطيني المعقّد والمتأزم، وبخاصة المخاض السياسي - الاقتصادي والسوسيولوجي الذي تعيشه الشرائح الاجتماعية الفلسطينية، والمتغيرات الاقليمية والدولية التي تلقي بثقلها على مجتمع يرزح تحت وطأة احتلال عسكري عنيف ومهين. الرؤية الاميركية - الاسرائيلية، والتي تختزل الامور والقضايا المصيرية لشعب بأكمله يعاني الأمرّين بشخص معيّن كعرفات، لا تفتقر الى عمق تاريخي فحسب بل تتهرّب ايضاً من طرح الاسئلة الصعبة عن الاسباب الحقيقية للانفجار الشعبي في الاراضي المحتلة وعن اسباب فشل سياسات الصفقات المرحلية والهروب والقفز فوق المعطيات والحقائق التاريخية وقرارات الشرعية الدولية. طبعاً، ضاع القرار في واشنطن وتل ابيب. لا يريدون ان يعترفوا بفشل منهجهم الابتزازي، ويفضّلون ان يلقوا بتبعة ومسؤولية الانفجار على شخص الزعيم الفلسطيني، الذي دغدغ آمالهم ولفترة طويلة، منذ ابرام اتفاق اوسلو السري في 1993 حتى ربيع هذا العام، بتقديم المزيد من التنازلات حتى اغلاق ملف الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي قبل ان تستوفيه المنية. تمثّل انتفاضة الاقصى فشلاً ذريعاً للديبلوماسية الاميركية، وبالتحديد لإدارة الرئيس بيل كلينتون التي راهنت منذ البداية على قدرتها على تعليب وتسويق الاقتراحات الاسرائيلية، بالنسبة الى القدس ولموضوع اللاجئين، الى السلطة الفلسطينية ولزعيمها عرفات، مستخدمة اساليب متعددة تتراوح بين الترغيب والتهديد الجزرة والعصا. لا يمكن فهم استثمار ادارة كلينتون بشخص عرفات منذ اواخر 1993 وحتى هذا العام الا لتمرير اتفاق سلام خارج اطار الشرعية الدولية وقرارات الاممالمتحدة. لقد فتح كلينتون ابواب البيت الابيض امام عرفات، وجعله يشعر بأنه قائد مهم يملك رصيداً ضخماً تحتاج اليه الولاياتالمتحدة لنجاح عملية السلام، وأغدق عليه المديح والوعود ليكسب ثقته وليشعر الفدائي القديم بالأمان في احضان العم سام ويقدم التنازلات "الضرورية" المطلوبة منه لإبرام صفقة التسوية. ووجد كلينتون في عرفات ضيفاً ملائماً وقابلاً ومتشوقاً لسماع الكلام المعسول والوعود الفضفاضة بتقديم المساعدات المالية لشعبه المرهق ولأجهزته المتعددة. ونجح كلينتون في استغلال عقدة الضعف والنقص عند عرفات مستخدماً ديبلوماسية العناق التي يتقنها الزعيم الفلسطيني للتقرّب منه وكسب ودّه وصداقته. المعروف عن كلينتون انه ديبلوماسي من الطراز الاول يوظّف العامل الشخصي والانساني للتقرّب من المحاور الآخر ولبناء صداقة تساعده على تحقيق اهدافه. ادرك الرئيس الاميركي اهمية دور عرفات في تمرير مشروع التسوية وبذل جهداً لا بأس به في تمتين عرى الصداقة الشخصية مع نظيره الفلسطيني. لم يكن كلينتون الوحيد في ادارته الذي حاول استمالة عرفات وكسب وده. حاولت وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت ايضاً الاقتداء بكلينتون وبناء صداقة شخصية مع عرفات، وكل ما يعنيه ذلك من توزيع مجاني للقبلات الديبلوماسية ودعوته الى العشاء، مثلاً، في منزلها العائلي في حي "جورج تاون" الراقي في العاصمة الاميركية. وهكذا يصبح عرفات من اهل البيت يأكل الملح ويكسر رغيف الخبز مع الوزيرة الصديقة، الوزيرة ذاتها التي صرّحت فور تكليفها من قبل الرئيس كلينتون بإدارة الوزارة بأنها تجد صعوبة في مصافحة الرئيس الفلسطيني لكونه ارتكب اعمالاً ارهابية دموية بحق الاسرائيليين والاميركيين سابقاً! سبحان من غيّر! لا تجد الوزيرة الموهوبة الآن اي صعوبة في اغداق القبلات على الفدائي "الارهابي" القديم وتستضيفه في منزلها العائلي ليشاركها الخبز والملح، وعفى الله عما سبق! مهلاً قليلاً يا عزيزي القارئ: ثمة شرط بسيط ومتواضع جداً تطلبه الادارة الاميركية وتصرّ عليه: توقيع عرفات على وثيقة غير مهمة تنهي الصراع الفلسطيني - اليهودي وتريحه من عناء النضال العقيم ضد الدولة العبرية وحليفتها الكبرى الولاياتالمتحدة. ليس المطلوب من عرفات الا التخلي عما يسمى بقرارات الشرعية الدولية السيئة الذكر والاعتماد على جهود الديبلوماسية الاميركية والثقة العمياء بالرئيس كلينتون وادارته لتحقيق طموحات الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره! ولكن حذار من تضييع الوقت والاصرار على قضايا هامشية تزعج الاسرائيليين، خصوصاً موضوع القدسالشرقية/ الغربية وحق العودة للاجئين الفلسطينيين. لم يدرك عرفات التكاليف الباهظة التي تطلبها الادارة الاميركية منه ثمناً لهذه الصداقة الوليدة العهد الا في الشهور الاخيرة من علاقتهما. كان عرفات يظن على طريقة المثل العربي: يَعطونا كلاماً جميلاً ونعطيهم كلاماً معسّلاً، نتبادل القبلات والعناق ونجامل! ماذا نخسر؟ نسي شيخنا عرفات ان الذهنية الاميركية تختلف تماماً عن الاسلوب البسيط والساذج الذي يعتمده ويتبعه. للاستثمار الاميركي شروط محددة وموثقة وموقّعة لا يمكن الهروب من تسديد القرض عندما تستحق مدته! فإما ان تسدد مبلغ القرض بالكامل او تدفع فائدته او تعلن الافلاس. اعلان الافلاس ليس بالشيء السهل في اميركا لأن المفلس يفقد القدرة على الانطلاق من جديد والحصول على قروض جديدة ما لم يسدد المبالغ السابقة او يصل الى تسوية مع اصحاب العلاقة. المهم ان الادارة الاميركية وصلت الى قناعة معينة في الشهور القليلة الماضية بأن الوقت حان لاسترجاع او قبض مردود استثمارها في السلطة الفلسطينية وزعيمها عرفات. وصلت ادارة كلينتون الى قناعة بأن الطريقة المثلى لتحقيق اختراق هي في عزل عرفات عن محيطه واغلاق النوافذ التي يمكن ان تمده ببعض الهواء النقي وعصره بشده ودفعه الى تخطي كل الخطوط الحمر والقفز فوق قرارات الشرعية الدولية. هنا تكمن خلفية الدعوة الاميركية - الاسرائيلية لعقد مؤتمر كامب ديفيد للسلام في شهر تموز يوليو الماضي. فعلى رغم تحفظات القيادة الفلسطينية على عقد مثل هذا اللقاء المهم من دون تحضير المناخ والجدول وردم الفجوات العميقة بين الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني، اصرّت ادارة كلينتون على المضي قدماً في عقد المؤتمر. يبدو ان صبر الرئيس الاميركي وفريق مفاوضيه قد نفد من مماطلة عرفات وتهرّبه من تقديم التنازلات والتضحيات "الضرورية". كما بدأ الوقت يداهم كلينتون وهو يشرف على نهاية ولايته الثانية ويحتاج الى تحقيق اختراق في عملية السلام العربية - الاسرائيلية ليتوّج عهده بإنجاز تاريخي مهم ينقذ سمعته الشخصية التي تأثرت سلباً بالفضائح الجنسية ويحافظ على إرثه السياسي. بالاضافة الى ذلك، كان أحد الاهداف الرئيسية لعقد مؤتمر كامب ديفيد مساعدة رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك على تخطي ازمته الحكومية باقتناص اتفاق سلام من عرفات ينهي الصراع بين الشعبين. تردد عرفات في البداية بقبول الدعوة الى كامب ديفيد وأبدى تشاؤمه وعبّر عن تحفظاته الى وزيرة الخارجية الاميركية، لكنه شعر بالحاجة الى محاكاة الادارة الاميركية وعدم استفزازها والذهاب الى واشنطن ولو على مضض. لا اظن ان الرئيس الفلسطيني كان يعرف ما ينتظره في منتجع كامب ديفيد الرئاسي. اكتفى فريق المفاوضات الاميركي بنقل الاقتراحات الاسرائيلية الى المفاوضين الفلسطينيين ومحاولة تسويقها بقدر الامكان. الافكار والآراء القليلة التي طرحها فريق المفاوضات الاميركي على طاولة البحث صيغت بطريقة مختلفة شكلياً فقط عن الاقتراحات الاسرائيلية. لا يساورني شك في ان ادارة كلينتون كانت تتوقع ان يستسلم عرفات امام الضغوط والوعود الاميركية خصوصاً انه قدّم سلسلة من التنازلات المهمة منذ اواخر 1993. اقنع سجل عرفات التفاوضي الحكومتين الاميركية والاسرائيلية بضعفه وعدم قدرته على المقاومة، رغم حدّة خطابه. وكانت المفاجأة الكبرى للمفاوضين الاميركيين والاسرائيليين في كامب ديفيد، حيث لم يتزحزح عرفات قيد شعرة عن موقفه بشأن السيادة الفلسطينية على القدسالشرقية. وتفيد التقارير الصحافية ان الرئيس الاميركي انفجر غضباً عندما رفض عرفات القبول بالاقتراحات الاسرائيلية، فزمجر وتوعد وهدّد بأوخم العواقب التي تنتظر الفلسطينيين إن لم يتراجع عرفات ويقدّم التنازلات المطلوبة ويقبل بالامر الواقع، الذي يحدده ميزان القوى العسكري، لا الشرعية الدولية. سبحان الله، كيف يتحول الصديق الموعود الى أشبه بعدو لدود! وهكذا اكتشف شيخنا المسكين عرفات ان ثمن صداقة الادارة الاميركية باهظ جداً، حيث يتحتم عليه ان يسدد قيمة كل الزيارات البروتوكولية الى البيت الابيض والقبلات الديبلوماسية. والشيء المحزن والمضحك في الوقت ذاته ان رصيد عرفات السياسي والمادي ضئيل جداً لا يكفي لإرضاء شهية كلينتون او باراك الضخمة. وعندما أصرّ شيخنا المسكين عرفات على اعلان استقلال الدولة الفلسطينية من جانب واحد، انطلقت الديبلوماسية الاميركية في حملة هجومية لتخويف وترهيب عرفات ومساعدة باراك على الحدّ من خسائر اخفاق قمة كامب ديفيد. فلقد حذّر كلينتون شخصياً عرفات من مغبة اعلان الدولة الفلسطينية وهدّد بإنزال أشد العقوبات بالفلسطينيين اذا تجرأوا على اتخاذ مثل هذه الخطوة الخطيرة. وذهب كلينتون الى ابعد من ذلك بقوله انه يفكّر جدياً بنقل السفارة الاميركية من تل ابيب الى القدس قبل حلول السنة الجديدة، اي قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. واشتدت الحملة الاميركية على عرفات والزعماء العرب لكونهم لم يتحركوا كفاية ويوفّروا المناخ والمساعدة المعنوية والسياسية لعرفات لكي يقدّم التنازلات لباراك وينقذه من ورطة ازمة تبدو انها ستطيح به عاجلاً ام آجلاً. نسي او تناسى الاميركيون ان هناك حدوداً حمر لا يستطيع اي زعيم فلسطيني تخطيها، خصوصاً عندما يتعلق الامر بقضية مثل قضية القدس واللاجئين. نسي او تناسى الاميركيون ان تشديد الخناق على عرفات وإهانته ستؤدي الى نتائج عكسية على مسرح وساحة فلسطين. نسي او تناسى الاميركيون ان التنازلات الكبرى التي قدمها عرفات خلال السنوات السبع الماضية اضعفته شخصياً وخلقت جواً مشحوناً ضمن النخب الفلسطينية وزادت من حدة الاحباط والاحتقان داخل المجتمع الفلسطيني. نسي او تناسى الاميركيون ان الشعب الفلسطيني لم يشعر بفوائد السلام او يقطف ثمارها، بل كل ما في الامر ان وضعه الحياتي والمعيشي ازداد سوءاً وتراجعاً بعد توقيع اتفاق اوسلو السري. باختصار، أدت السياسات الاميركية والاسرائيلية الى اضعاف عرفات بطريقة غير مباشرة واعطاء زخم للقوى الشعبية التي تطالب بالتغيير ليس فقط في طبيعة وجوهر عملية السلام بل ايضاً في الممارسة السياسية داخل اراضي السلطة الفلسطينية. عرفات غير مسؤول عن انفجار الانتفاضة الجديدة او حتى تأجيجها. أظهرت الاحداث الاخيرة ان هناك عاملاً اهم من الاعتبارات الشخصية المفضّلة عند واشنطن وتل ابيب: إحياء دور ثقافة المقاومة في المجتمع الفلسطيني. وهذا موضوع للمناقشة لاحقاً. * استاذ العلاقات الدولية والديبلوماسية في جامعة سارة لورنس في نيويورك.