بعد ثلاثة أسابيع على عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، أُعلن عن اتصال هاتفي بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واتُّفق خلاله على بدء مفاوضات لإنهاء حرب أوكرانيا. ويعني ذلك أن مشاورات مكثفة أجرتها واشنطن مع كل من موسكو وكييف، وأن المفاوضات التي سيدشنها لقاء قمة يُعقد في السعودية لن تنطلق من فراغ إذ إن الجانبين الأمريكي والروسي توصلا إلى نقاط مبدئية ستكون حاكمة لعملية التفاوض ونتائجها... لمصلحة روسيا. هذا التقدم في وقت قياسي يدل إلى استعداد وتناغم متقدمين لدى الرئيسين. لكنه يشير، أولاً، إلى أن بوتين يريد الاستثمار في العلاقة الخاصة التي تربطه بالرئيس الأمريكي ما دامت الفرصة سانحة. وثانياً، إلى أنه يسعى إلى نهاية لهذه الحرب سواء لأن كلفتها البشرية والمالية فاقت التوقعات الروسية أو لأنه حقق فيها على الأرض معظم أهدافه العسكرية. وثالثاً، إلى أن ترمب يبدو أقرب إلى تمكين روسيا من تحقيق الأهداف الإستراتيجية التي حددتها لهذه الحرب، وهو ما لم يكن ممكناً مع إدارة جو بايدن وحلف الأطلسي. في المقابل، سيكون إنهاء حرب أوكرانيا إنجازاً حاسماً بالنسبة إلى ترمب. فمن جهة يؤكد سلطته العالمية ويعزز ما قاله سابقاً بأن هذه الحرب لم تكن لتقع لو كان رئيساً، كما ينسجم مع توجهه إلى خفض الإنفاق المالي أكان في استراتيجية إضعاف روسيا وتوريطها في حرب طويلة أو بلا نهاية، أو حتى في المساعدات الخارجية التي أصدر أمراً بوقفها وصولاً إلى إغلاق «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية». ومن جهة أخرى فإن إنهاء حرب أوكرانيا على النحو الذي يرضي روسيا ورئيسها يُفترض أن يقوي موقف إدارته في المواجهة التجارية مع الصين، كما في مقاربة إيران وتخييرها بين اتفاق نووي جديد أو ضربة عسكرية إسرائيلية. لا شك أن اختيار ترمب وبوتين للسعودية مكاناً للقائهما الأول بعد الحرب، وعلى طريق إنهائها، يحمل تقديراً للنهج الوسطي- التعاوني الذي بلورته الرياض لنفسها بمعزل عن الاستقطابات الدولية، كما يشكل اعترافاً بدور السعودية ومكانتها الإقليمية. يُذكر أن القمة الأولى بين الرئيسين جمعتهما في العاصمة الفنلندية عام 2018، غير أن هلسنكي أصبحت «أطلسية» منذ 2023، جنباً إلى جنب مع السويد، جراء تقديرات بأن روسيا التي أقدمت على غزو أوكرانيا باتت تهديداً لأمنهما وحيادهما السابق. بالنسبة إلى الدوائر الديبلوماسية الأوروبية لم يعد هناك غموض، فالرئيس الأمريكي اقترب من عقد صفقة مع نظيره الروسي، ومن أهم المؤشرات إليها أن كييف لم تعد تشعر بأنها في كنف تحالف دولي داعم بقيادة الولاياتالمتحدة كما أن أطروحات إدارة ترمب ومبعوثيها لا تثير لديها سوى القلق، وفي الوقت نفسه لم تُحَطْ العواصم الأوروبية علماً بفحوى الاتصالات بين واشنطنوموسكو. لا يخفي الرئيس فولوديمير زيلنسكي إحباطه، يسأل عن الضمانات الأمنية في أي اتفاق مزمع لوقف إطلاق النار، ويصرح بأن «أوروبا لا تستطيع حماية أوكرانيا من دون دعم من ترمب»، وكان هاجسه خلال مؤتمر ميونيخ للأمن أن يتعرف إلى استعدادات الأوروبيين في حال عُرض «اتفاق سيئ» لا تستطيع كييف قبوله. وفيما يؤيد الأوروبيون إنهاء الحرب ويتوقعون في أسوأ الأحوال تشاوراً معمقاً بين الحلفاء الغربيين وواشنطن، إلا أنهم يخشون الآن اتفاق أمر واقعاً يصعب رفضه أو قبوله. لا يبدو تهميش أوروبا صدفة أو من ضرورات التفاوض لإنهاء الحرب، بل غدا كأنه من الشروط التي توافق عليها ترمب وبوتين، كلٌّ لأسبابه ودوافعه. فمنذ ولايته الأولى طرح ترمب قاعدة «ادفعوا مقابل الحماية الأمريكية» وطالب الأوروبيين بزيادة مساهماتهم في ميزانية حلف الأطلسي وقد فعلوا، لكنه يطالب برفع النسبة من 3 إلى 5 %، وهو ما يلامس التعجيز، فيما يلوّح برفع الرسوم الجمركية على الصادرات الأوروبية إلى أمريكا. أدرك الأوروبيون أن ترمب يرمي إلى تحجيم «الناتو»، ومن ثم إلى تغيير قواعد الأمن الأوروبي التي وُضعت غداة الحرب العالمية الثانية ثم كُرست بعد الحرب الباردة. هذا «التحجيم» هدف روسي بامتياز، وكان سعي «الناتو» إلى ضم أوكرانيا سبباً مباشراً للحرب الحالية. وفي هذا السياق باتت واشنطن تهدد بأن وجودها العسكري في أوروبا لن «يدوم إلى الأبد»، لذلك تتعالى الدعوات إلى إيجاد «بدائل»، ك«الجيش الأوروبي» الذي سبق للرئيس الفرنسي أن اقترحه استباقاً ل«موت أوروبا»، وقد يعاود طرحه في قمة أوروبية طارئة دعا اليها. لكن الأوروبيين منقسمون حالياً، ولترمب دور في انقسامهم. المقلق في المقاربة الترمبية لإنهاء الحرب أنها مبنية على أساس أن أوكرانيا «لن تستعيد الأراضي التي فقدتها» (بحسب وزير الدفاع بيت هيغسيث)، ولن تحظى بحماية أمريكية أو أطلسية. إذا نجحت هذه المقاربة، والمرجح أن تنجح، فلا شيء يمنع ترمب من تعميمها لتشمل قطاع غزة. * ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»