يقال في ما هو متواتر إسرائيلياً إن الرئيس الاميركي بيل كلينتون أفصح عن بعض أفكاره حين استقبل الوزير الإسرائيلي يوسي بيلين في مطلع كانون الأول ديسمبر الجاري. قال كلينتون مثلاً: لا يزال أمامي خمسون يوماً في السلطة أحتاج منها إلى ثلاثة أيام فقط من أجل الرحلة إلى إيرلندا. أما السبعة والأربعون يوماً الباقية فمستعد لتخصيصها كلها لعملية السلام في الشرق الأوسط. لا أحد يشك في صدق الرئيس الاميركي ولا حتى في وجود رغبة مماثلة - وبدوافع إضافية - لدى أيهود باراك رئيس وزراء إسرائيل. المشكلة كلها هي نوع التسوية التي تريد إسرائيل وهذه الإدارة الأميركية تحديداً، فرضها على الفلسطينيين والعرب، ومدى الخشونة والضغط والتهديد الصريح أحياناً الذي جربته إدارة كلينتون في هذا السبيل. ليس هناك شك من البداية في العلاقة العضوية بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل ولا التزام الإدارات الاميركية المتعاقبة، ابتداء من إدارة هاري ترومان، بحماية إسرائيل ودعمها اقتصادياً وعسكرياً واستراتيجياً. لكن إدارة الرئيس بيل كلينتون تحديداً بفترتيها على امتداد ثماني سنوات تجاوزت كل ارتباطات الإدارات السابقة بما في ذلك سنوات ليندون جونسون ودوره الداعم لإسرائيل في غزوتها الكبرى في حزيران يونيو 1967. في حينها كانت الولاياتالمتحدة تتعلل بحاجتها إلى إحتواء نفوذ الاتحاد السوفياتي، وضرب "الراديكالية" العربية ممثلة في مصر عبدالناصر، ومنع البترول العربي من التمرد على الوصاية الاميركية، أسعاراً وامتدادات. لكن بيل كلينتون دخل البيت الأبيض في كانون الثاني يناير 1993 والزمن غير الزمن. لم يعد هناك اتحاد سوفياتي من أصله ولا أصبحت هناك "راديكالية" عربية من المنظور الاميركي وعبدالناصر في قبره من قبلها بثلاثة وعشرين سنة ومصر ذاتها أصبحت مقيدة بالمعاهدة الإسرائيلية مع السادات. أكثر من ذلك كانت إدارة الرئيس الاميركي جورج بوش من قبلها هندست عملية تفاوضية كاملة عنوانها "صيغة مدريد" ومضمونها الأرض مقابل السلام بما يعني الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة مقابل حصول إسرائيل على السلام من العرب. في حينها بدت الصيغة فضفاضة بأكثر مما يجب، بل تتجاوز حتى قرار مجلس الأمن الرقم 242، وهو القرار نفسه الذي شاركت الولاياتالمتحدة في التصويت لمصلحته واعتبرته من وقتها الأساس الوحيد المقبول منها لأي تسوية عربية إسرائيلية. في حينها أيضاً وافقت الولاياتالمتحدة على طلب إسرائيل الحصول على عشرة بلايين دولار كضمانات قروض لمدة خمس سنوات لتمويل استيعاب المهاجرين إليها أو يجري تهجيرهم إليها من الاتحاد السوفياتي السابق. كان هذا ظلماً جديداً آخر للفلسطينيين والعرب. فاليهود السوفيات كانوا يتطلعون أساساً إلى الهجرة إلى الولاياتالمتحدة، أو بالقليل كندا. لكن الولاياتالمتحدة أوقفت فجأة كل تسهيلات وامتيازات اللجوء السياسي اليها التي كانت تغري بها اليهود السوفيات طوال سنوات الحرب الباردة حتى ترغمهم إرغاماً على التوجه إلى إسرائيل وليس أي مكان آخر. فقط طلبت الولاياتالمتحدة من إسرائيل التعهد مسبقاً بعدم استخدام أي جزء من ضمانات القروض المقترحة خارج نطاق "الخط الأخضر" أي حدود إسرائيل في ما قبل حزيران يونيو 1967، وإذا جرى غير ذلك فمن حق الولاياتالمتحدة خصم أي مبلغ يتجاوز هذا الشرط من قيمة ضمانات القروض. في حينها حاولت الحكومة الإسرائيلية رفض هذا الشرط وعبأت في سبيل ذلك كل أنصارها ومنظماتها الصهيونية بالولاياتالمتحدة سعياً إلى استخدام سوط الكونغرس ضد الرئيس الاميركي. لقد رفض جورج بوش علناً ذلك الابتزاز متمسكاً بالشرط الذي قررته إدارته. بعدها جرى ما جرى وجاءت الى السلطة إدارة جديدة برئاسة بيل كلينتون وأول ما فعلته عملياً بغير إعلان هو التحلل من محاسبة إسرائيل على ما التزمته مسبقاً. وطوال السنوات الثماني التي قضاها كلينتون في البيت الأبيض احتشدت إدارته بالكامل لإزالة كل الخطوط الحمراء التي استقرت عليها سابقة - جمهورية وديموقراطية - في ما يتعلق بالعلاقة مع إسرائيل. لم تتعلق المسألة فقط بكل أولئك اليهود الصهيونيين الذين جرى تعيينهم في معظم المراكز الحساسة المشاركة في صوغ السياسة الاميركية في الشرق الأوسط من مجلس الأمن القومي إلى الاستخبارات إلى وزارتي الخارجية والدفاع إلى - حتى - اختيار يهود صهيونيين للمرة الأولى ليصبحوا سفراء اميركيين لدى الدول العربية المهمة ولدى إسرائيل ذاتها. أحد هؤلاء أعطيت له الجنسية الاميركية قبل 48 ساعة من تعيينه في مجلس الأمن القومي، وهو الآن سفير للولايات المتحدة لدى إسرائيل رغم سحابة اتهامه بتسريب معلومات بالغة السرية عن الاتصالات الاميركية مع عدد من القادة العرب. طوال السنوات الثماني التي قضاها بيل كلينتون في البيت الأبيض كان يتضح يوماً بعد يوم، وبشكل منهجي، أن إدارته في فترتيها معبأة بالكامل لتعظيم قوة إسرائيل في المنطقة وتأكيد سيطرتها الاقليمية المنفردة. وجاء انقلاب اتفاق أوسلو السري في سنة 1993 بين إسرائيل وياسر عرفات لكي يعطي هذا التوجه الاميركي الجديد قوة دفع يحتاج إليها بشدة. فمن ناحية أعطى ذلك الاتفاق حجة فلسطينية للولايات المتحدة لكي تتملص من كل التزاماتها السابقة في قرارات مجلس الأمن التي صوتت هي لمصلحتها من قبل وأولها القرار 242 بحجة أن المفاوضات المباشرة بين إسرائيل وعرفات أصبحت من وقتها فصاعداً هي كل المرجعية المتاحة بينما الولاياتالمتحدة متحررة تماماً - وبريئة - من أية نتائج نهائية. ومن ناحية أخرى استخدمت الولاياتالمتحدة ورقة اتفاق أوسلو وتوابعه لكي تفحم كل تلك الدول التي كانت ترفض من قبل أي اعتراف بإسرائيل أو علاقات معها إلى أن تقر بالحقوق الفلسطينية والعربية. وسواء بدأنا بالصين والهند وأندونيسيا، أو انتهينا إلى موريتانيا، فإن أكثر من ستين دولة اعترفت بإسرائيل للمرة الأولى وأقامت معها العلاقات فقط بإلحاح ومطاردة إدارة بيل كلينتون، بل إن ريتشارد هولبروك سفير الولاياتالمتحدة لدى الأممالمتحدة لم يجد غضاضة في التصريح علناً قبل شهور بأنه سيلاحق كل دول المجموعة الأوروبية داخل الأممالمتحدة على مدار الساعة لكي تضم إسرائيل الى عضويتها فتفتح بذلك أمام إسرائيل للمرة الأولى فرص الحصول على مناصب في الأممالمتحدة ووكالاتها. وهو ما كانت إسرائيل عاجزة عنه طوال 52 سنة سابقة. والآن فإن إسرائيل التي تقرر قرارات سابقة لمجلس الأمن أنها قوة احتلال أصبحت قادرة - نظرياً على الأقل - على الحصول على مقعد غير دائم في مجلس الأمن نفسه المكلف في ميثاق الأممالمتحدة بحفظ السلام والأمن الدوليين. ومع أن "صيغة مدريد" كانت تضمنت قناة تفاوضية موازية باسم "المفاوضات متعددة الأطراف" إلا أن إدارة بيل كلينتون حوّلت تلك القناة من مجرد تصورات افتراضية يتوقف تنفيذها على اكتمال التسوية النهائية بين العرب وإسرائيل إلى واقع والمؤجل إلى مستحق فوري. وزادت على ذلك بالإلحاح على المنطقة بثلاثة مؤتمرات اقتصادية مع إسرائيل تبجحت إسرائيل في أحدها حينما طلبت من الدول العربية قبول قيادتها - أي قيادة إسرائيل - لها وللمنطقة حتى تحقق للمنطقة ازدهاراً بعد الخراب الذي قادتها إليه مصر. وفي تاريخ الجامعة العربية منذ قيامها في سنة 1945 كانت السياسة الاميركية تتظاهر بأنها غير موجودة. فقط اكتشفت وجود الجامعة العربية حينما قررت إدارة بيل كلينتون للمرة الأولى إيفاد أحد وزرائها إلى القاهرة لكي يطلب رسمياً من الأمين العام للجامعة العربية إلغاء المقاطعة الاقتصادية العربية ضد إسرائيل. هنا فقط أصبحت العروبة مطلوبة أميركياً. أما إذا كانت العروبة تعني اجتماعات قمة عربية، أو مجرد اجتماع قمة ثلاثي بين مصر والسعودية وسورية، فإن الاحتجاجات الاميركية تتلاحق ضد العروبة، سابقة كل اجتماع ولاحقة به. وبينما في لحظات الشتاء يتحدث الساسة الاميركيون في إدارة كلينتون عن علاقة خاصة متميزة مع مصر، ورغم 21 سنة بعد معاهدة إسرائيل مع السادات ومناورات عسكرية منتظمة، إلا أن الأردن، وليس مصر، هي التي أقامت معها الولاياتالمتحدة منطقة تجارة حرة، لتصبح بذلك الدولة الثانية بعد إسرائيل التي تحصل على هذا الامتياز. وبلغ تبجح إدارة كلينتون في بعض اللحظات درجة القول ان على مصر أن تحصل على امتيازات التجارة الحرة مع الولاياتالمتحدة إما من باطن الأردن، أو من باطن إسرائيل وعرفات بالتبعية. وبعد كل اتفاق أمني قامت إدارة كلينتون برعايته بين إسرائيل وعرفات كان مسؤولو الإدارة يلحون على الدول العربية بدفع ثمن إضافي إلى إسرائيل من خلال المسارعة بتطبيع العلاقات معها. وبعدما استبعدت إدارة كلينتون كلاً من الأممالمتحدة وروسيا وأوروبا الغربية عن اي مشاركة سياسية في مشاريع التسوية ولم تترك إلا باباً واحداً امام اوروبا هو الدعم المالي لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، وفقط بشرط عدم التدقيق في محاسبة عرفات وجماعته عن مصير الأموال الأوروبية وكذلك عدم الشكوى من استخدام تلك الأموال في الفساد والإفساد وتكوين بطانة من المستفيدين والمنتفعين ترتبط مصالحهم عضوياً بإسرائيل. ورغم أن مصر مستمرة في التقيد بمعاهدة السادات مع إسرائيل، والأردن أصبحت له معاهدته هو الآخر، ولبنان خارج الموضوع، وسورية في الانتظار، إلا أن التدفقات العسكرية الاميركية لإسرائيل بلغت في سنوات كلينتون مستويات غير مسبوقة في ظل احتكار نووي إسرائيلي وتفوق عسكري إسرائيلي على الدول العربية مجتمعة، الدول العربية نفسها التي أعلنت منذ سنوات أن السلام أصبح بالنسبة إليها خياراً استراتيجياً. بل إن مصر حينما سحبت سفيرها أخيراً من إسرائيل احتجاجاً متواضعاً على التوحش الإسرائيلي، أسرعت إسرائيل بالشكوى إلى إدارة كلينتون بحجة أن هذا انتهاك مصري لمعاهدة السادات مع إسرائيل، فخرج وزير الدفاع الاميركي يحث مصر علناً على إعادة سفيرها إلى إسرائيل بسرعة. وآخر "الهدايا" الاميركية لإسرائيل في الاسابيع الأخيرة لبيل كلينتون وإدارته اصبحت المفاوضات السرية في معظمها لرفع سقف الالتزامات الاستراتيجية الاميركية لحساب إسرائيل بما يجعل الأخيرة شريكاً استراتيجياً كاملاً للولايات المتحدة. وحسب ما تسرب أخيراً فإن قيادات معنية وبارزة في الكونغرس الاميركي - هي أصلاً صديقة لإسرائيل - شعرت ب "اللطمة والصدمة والشحوب من الوعود التي اكتشفوا أن كلينتون أعطاها لإسرائيل بغير معرفتهم أو موافقتهم". لقد جمدت إدارة كلينتون مفاوضاتها هذه مع إسرائيل فقط في ضوء حال الغضب العارمة في الرأي العام العربي أخيراً ضد مجمل السياسات الاميركية في المنطقة. ربما من أجل هذا يتعجل بيل كلينتون وأيهود باراك معاً الحصول على أي ورقة فلسطينية يتم تسويقها عربياً على أنها إنجاز جديد في العملية - عملية السلام. بعدها تحصل إسرائيل على الثمن فلسطينياً وعربياً واميركياً. ويصبح السؤال الباقي بعد كلينتون وسنينه وإدارته هو: هل الالتزامات الاستراتيجية الاميركية الجديدة لحساب إسرائيل مقصود بها فقط تعويم أيهود باراك... أو ياسر عرفات... أو تعويم إسرائيل في طبعتها الامبراطورية هذه على المنطقة كلها... أو ما يتبقى منها؟ * نائب رئيس تحرير "أخبار اليوم" القاهرية