فجّرت انتفاضة الاقصى تناقضات عميقة في الجسم السياسي العربي وطرحت اسئلة واشكاليات تتعلق بقضايا الحرب والسلام في الشرق الاوسط. اذ عبّرت اصوات متعددة في العالم العربي عن سخطها وغضبها لسقوط اعداد كبيرة من القتلى والجرحى الفلسطينيين، بالدعوة الى التخلي عن عملية السلام واعتماد خيارات اخرى اكثر فاعلية، مثل الكفاح المسلح والجهاد والحرب، ضد الدولة العبرية. وانطلقت هذه الاصوات من اطروحة رئيسية مفادها ان القيادة الاسرائيلية لم ولن تقدم تنازلات استراتيجية للفلسطينيين، تكفل لهم حقوقهم المشروعة في ما يتعلق بالسيادة على القدسالشرقية وحق اللاجئين بالعودة الى ديارهم، طالما بقي ميزان القوى العسكري لصالح اسرائيل. الشق الثاني من هذه الاطروحة يضيف ان الحرب يمكن ان تساهم في اعادة خلط الاوراق والتوزانات وموازين القوى واجبار اسرائيل على تنفيذ قرارات الاممالمتحدة ومجلس الامن ومن ثم الانسحاب من الاراضي العربية المحتلة. والملفت ان بعض الزعماء العرب لم يتورع عن المزايدة في هذا الاطار واستغلال المشاعر الشعبية الملتهبة ليحقق مكاسب مرحلية آنية بغض النظر عن النتائج الخطيرة المترتبة على السقوط مجدداً في مصيدة الاسرائيليين الجهنمية. الشق الاول من الاطروحة صحيح: تعاني عملية السلام من وهن وتخبّط وعدم القدرة او وجود رغبة حقيقية في استنباط حلول وسط تأخذ في الاعتبار قرارات الشرعية الدولية. ويفترض ألا نُفاجأ او نُصدم ازاء الوضع المتفجّر في الاراضي الفلسطينيةالمحتلة. فمفاوضات السلام بلغت مرحلة حساسة تفرض على الطرفين، الفلسطيني والاسرائيلي، شروطاً صعبة وتكاليف باهظة لا يمكن الهروب من تسديد فواتيرها لتحقيق اختراق. بالطبع، تحاول اسرائيل، الطرف الاقوى الذي يملك معظم القدرات والمبادرات، فرض وجهة نظرها على المحاور الفلسطيني الضعيف لحمله ودفعه الى التسليم بالامر الواقع وقبول اقتراحاتها بشأن حل نهائي للصراع. ويزداد الوضع تعقيداً عندما تلجأ الولاياتالمتحدة، القوة الدولية العظمى، الى تبني وجهة النظر الاسرائيلية وتسويقها وتعليبها دولياً واقليمياً. على رغم التنازلات الضخمة التي قدمتها السلطة الفلسطينية الى اسرائيل منذ توقيع اتفاق المبادئ في اوسلو في 1993، وصل عرفات اخيراً الى قناعة مفادها ان اي تفريط آخر بحقوق شعبه المشروعة سيؤدي الى عواقب وخيمة ليس فقط على مستقبل السلام بل ايضاً على طبيعة العلاقة بين الفلسطينيين انفسهم. هنا يكمن جوهر الازمة الحالية: فالاسرائيليون غير مستعدين للاعتراف بالفلسطينيين او تحمّل اي مسؤولية في تحويلهم الى ضحايا نتيجة سياستهم التوسعية ويصرّون على اعتبار موازين القوى المحدد الجوهري لماهية وفحوى مشاريع التسوية. وبعكس الفلسطينيين، الذين يشددون على اهمية العامل الانساني والبعد الاخلاقي والمسؤولية التاريخية للدولة العبرية في تشريد عدد كبير من الفلسطينيين واحتلال اراضيهم، يتهرّب الاسرائيليون من مناقشة الابعاد التاريخية والقانونية للصراع العربي - الاسرائيلي، معتبرين ان فكّ الاشتباك وحل النزاع يتطلبان نسيان الماضي والاخذ في الاعتبار القوانين الطبيعية للسياسة الدولية، خصوصاً متطلبات الامن والاستقرار وسياسات القوة. ثمة هوة عميقة تفصل بين تصورات وتطلعات الفلسطينيين والاسرائيليين في ما يتعلق بطبيعة وجوهر عملية السلام ومستقبل علاقتهما. عجزت المفاوضات الماراثونية بين الطرفين عن ردم هذه الهوة حتى الآن ومنع الصدام المسلح بينهما. ويبدو ان قدرة الفريقين على ممارسة ضبط النفس تقلصت الى حد كبير عندما طُرحت القضايا الجوهرية - السيادة على القدس وحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة الى ديارهم - على مائدة المفاوضات، خصوصاً من جانب الفلسطينيين الذين يرزحون تحت الاحتلال ويعانون اوضاعاً اقتصادية - سياسية متردية. وما لجوء السلطة الفلسطينية الى خيار المواجهة العشوائية الا تعبير طبيعي عن عجزها عن ادارة استراتيجية المفاوضات وفشلها في استيعاب متطلبات الحرب والسلم. لنكن صريحين، يتحمّل عرفات مسؤولية رئيسية عما آلت اليه الاوضاع المأسوية في فلسطين والموقف الوطني التفاوضي الضعيف. غالباً ما ينتقد العرب السياسات الاميركية والاسرائيلية لمحاولتها الدؤوبة القفز فوق قرارات الشرعية الدولية وارغام الفلسطينيين على القبول بالامر الواقع. هذا صحيح! لكن الحقائق تشير الى ان الزعيم الفلسطيني كان اول من قفز فوق مظلة مؤتمر مدريد للسلام ووقع معاهدة اوسلو السرية غير عابئ بتداعيات قراره على المسار الفلسطيني والمسارات الاخرى. وهناك تناقض صارخ بين بنود اتفاق المبادئ في اوسلو وقرارات الاممالمتحدة ومجلس الامن في ما يتعلق بتسوية النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني. ذهب عرفات ابعد من ذلك منذ 1993 وقدم التنازل تلو الآخر الى الاسرائيليين مرة لارضاء ادارة الرئيس الاميركي بيل كلينتون وكسب ودّها وصداقتها ومرّة لاسباب تكتيكية عابرة. كيف نتوقع ونطالب الاميركيين والاسرائيليين ان يلتزموا بقرارات الشرعية الدولية ونغضّ النظر عن التآكل التدريجي والتراجع المنظّم في الموقف الفلسطيني؟ كيف نطالب الاميركيين والاسرائيليين بأن يأخذوا السلطة الفلسطينية مأخذ الجد في الوقت الذي سعت الى تهميش دور المؤسسات في الحياة السياسية وتقزيم المجتمع المدني واغتيال الحريات الخاصة والعامة وحرمة القانون؟ كيف نتوقع من الاميركيين والاسرائيليين ان يقدموا للفلسطينيين حقوقهم المشروعة الكاملة على طبق في غياب رؤية فلسطينية استراتيجية لادارة عملية التفاوض والاطار العام للسلام؟ كان باستطاعة الزعيم الفسطيني وسلطته الحدّ من الخسائر المترتبة على توقيع اتفاق وتفاهم سري لا ينزع السقف الادنى من الحقوق الوطنية المشروعة لو انهما صاغا استراتيجية ذكية تتبنى وتصرّ على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية في فلسطين وتعيد بناء المجتمع والمؤسسات في الداخل على ارضية ديموقراطية ومشاركة فعلية في اتخاذ وتنفيذ القرار السياسي - الاقتصادي. ادت الطريقة البدائية والسلطوية التي اديرت بها عملية التفاوض وبناء الدولة الى تبديد القدرات الوطنية الضئيلة وتشتيتها والى اتساع الهوّة بين الفعل والقول. لم يستطع الزعيم الفلسطيني ان يحقق المطالب المشروعة لشعبه ولم يهيئه لممارسة حقه في الدفاع عن حريته اذا فشلت مفاوضات السلام. لا يستطيع المراقب للساحة الفلسطينية الا ان يطرح اسئلة مؤلمة عن الفشل الذريع للطريقة التي تدير بها السلطة الفلسطينية انتفاضة الاقصى. فعلى رغم ثقافة المقاومة المتجذّرة في خلايا المجتمع الفلسطيني، لا يبدو الاخير قادراً حتى الآن عن الدفاع عن نفسه ان لم نقل على ارغام الجيش الاسرائيلي على الانسحاب من الاراضي المحتلة. انه لمرعب سقوط هذا العدد الضخم من الضحايا المدنيين الفلسطينيين، في حين ان عدد القتلى من الاسرائيليين لا يتجاوز اصابع اليد الواحدة. ثم ان ظهور السلاح في ايدي شباب حركة "فتح" بطريقة عشوائية يكاد يضرّ بأهداف الانتفاضة الشعبية اكثر مما يفيدها. هل أعاق ظهور السلاح بهذه الكثافة حركة الانتفاضة في مختلف جوانب الحياة الفلسطينية؟ هل يمكن ظهر السلاح لعرضه اكثر من استخدامه؟ هل تُدار المواجهة العسكرية بالعقلية البدائية نفسها التي ميّزت ادارة السلطة الفلسطينية لعملية المفاوضات؟ وهل استعمال السلاح ضروري في هذه المرحلة الدقيقة من مسيرة المحادثات، التي تتطلب اقناع الجمهور الاسرائيلي بفوائد الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة؟ وهل هناك خطر حقيقي من ان تؤدي الاساليب والآليات التي تُدار بها المواجهة الحالية الى نتائج عكسية لا تخدم مصالح الشعب الفلسطيني على المدى القريب؟ تقود هذه الاسئلة النقدية الى التشكيك بمقولة الحرب كآلية للخروج من المأزق الذي يعترض عملية السلام في الوقت الراهن. وتجدر الاشارة الى نقاط عدة في هذا السياق. اولاً: استقراء التاريخ يشير الى ان الحرب من الصعب ان تحسم الصراع العربي - الاسرائيلي، فمثلاً، استطاعت اسرائيل ان توجه ضربات عسكرية قاسية لبلدان المواجهة ما بين 1948 و1982 ولكنها لم تستطع ان تفرض ارادتها على الشعوب والمجتمعات العربية. باختصار، فشلت اسرائيل في ان تترجم انتصاراتها العسكرية الى غنائم سياسية، على رغم الانجازات المهمة التي حققتها منذ بدء النزاع، ثانياً، ادى خروج مصر، الدولة المركزية في النظام الاقليمي العربي، من دائرة الصراع العسكري منذ منتصف السبعينات، الى شلّ القدرة الحربية للمنظومة العربية واصبحت الحرب النظامية مستبعدة وانتحارية للعرب في غياب مصر وعزلها عن دائرة الصراع. ثالثاً، الحديث عن خيار الحرب يخدم اهداف القيادة الاسرائيلية التي تعيش حال ارباك ومنافسة خطيرة يمكن ان تؤدي الى مزايدة وحملة هجومية. وميزان القوى العسكري ليس فقط في مصلحة اسرائيل بل ان الديبلوماسية الدولية متمثلة في الولاياتالمتحدة هي الى جانبها ايضاً. تملك اسرائيل، وليس البلدان العربية، الخيارات الاستراتيجية التي تسمح لها بالهجوم. ومن هنا فإن الثرثرة العربية عن خيار الحرب تخدم المصلحة الاستراتيجية الاسرائيلية، علماً بأن اسرائيل تدرك جيداً ان الهروب الى الامام لن يساعدها في تحقيق مآربها على المدى الطويل في المنطقة العربية. رابعاً، على رغم بعض التطورات المهمة في المجتمعات العربية، فإنها ليست مهيئة اقتصادياً واجتماعياً وتكنولوجياً لتحمّل تبعة وتكاليف مواجهة عسكرية نظامية مع الدولة العبرية. لا تزال البنية السياسية والسوسيولوجية هشّة، ولا تزال المجتمعات العربية اسيرة التناقضات والممارسات السلطوية للنخب والنظم الحاكمة وغير قادرة على التحليق عالياً في فضاء الحرية والابداع. اخيراً، على رغم الخطاب السياسي الفضفاض، لم يرتق العمل العربي المشترك الى درجة تسمح له بادارة مواجهة شاملة مع الدولة العبرية. تُقيّد المصلحة القطرية اي رغبة في تعاون وتنسيق عربي يتعدى الأطر الضيّقة. أظهرت نتائج القمة العربية الطارئة في القاهرة الحدود والسقف المعيّن التي لا يمكن القفز فوقها. القيادات والنخب العربية قالتها بوضوح وصراحة متناهية: الحرب ليست خياراً للعرب! والاهم ان الشعوب العربية، على رغم تعاطفها وتأييدها للانتفاضة الفلسطينية، لا تبدو مستعدة للتضحية بمكاسبها وانجازاتها المتواضعة من اجل الدخول في اي مواجهة عسكرية غير محمودة العواقب. السؤال النقدي المهم هو: في غياب خيار الحرب الاستراتيجي، كيف يمكن توظيف قدرات العرب المادية والديبلوماسية المهمة لإدارة الأزمة بطرق واساليب اكثر عقلانية وفعالية؟ كيف يمكن توظيف خيارات العصيان المدني والانتفاضة الشعبية العارمة والديبلوماسية المؤثرة لتحقيق مطالب الشعب الفلسطيني؟ * استاذ في العلاقات الدولية والديبلوماسية في جامعة سارة لورنس في نيويورك