مرّ أسبوع على الاستفتاء الذي أجري في البحرين على الميثاق الوطني الذي حظي - كما توقع كثيرون - بالموافقة الشعبية الكاسحة على بنوده كلها، وهو ما يمثل الخطوة الأولى على الطريق إلى إصلاح سياسي موازٍ، يقفز بالبحرين إلى آفاق جديدة غير مسبوقة. ولم يكن هذا الاستفتاء مجرد حدث سهل مرّ من دون مخاض، بل سبقته عقبات بدأها البعض بنظرة يسودها التربص، ثم النقد، وبلغت حد التشكيك في القدرة على تجاوز الماضي والانطلاق إلى آمال سياسية جديدة. إلا أن أمير البحرين الشيخ حمد بن عيسى تجاوز كل المحظورات السياسية، ومد يده إلى أبعد ما يمكن أن تصل إليه يد قائد يريد تحقيق الخير لبلاده، ما سيجعل اسمه، بعد هذه الخطوات السياسية الجريئة، مرادفاً لأسماء المصلحين الكبار. ليست البحرين الحديثة - وكذلك شعبها - بعيدة عن الطموحات الكبيرة، فقد صدرت فيها ومنها أول جريدة يومية في الأربعينات من القرن المنصرم، وعرفت المدارس في العقدين الأولين من القرن نفسه، وازدهرت كمحطة تجارية للؤلؤ، ثم بعد ذلك للتجارة العابرة. وشهدت مدارسها دفعات من الدارسين من كل مناطق الخليج، واستقبلت العديد من المصلحين العرب، وشهدت أول إصلاحات إدارية في منطقة الخليج منذ العشرينات من القرن الماضي، واشتهر شعبها بالتسامح والانفتاح على الآخرين. كما شهدت أيضاً حركة سياسية نشيطة، وإن فشل بعضها في تحقيق إصلاحات مطلوبة، إما بسبب التسرع وإما لعدم فهم المرحلة على حقيقتها، وإما بسبب ضغوط خارجية ومزايدات داخلية. أسقطت البحرين في حركتها السياسية الديناميكية الحالية الكثير من الأوهام التي طالما ترددت في أوساط مختلفة على أنها حقائق، ومنها أن هناك ضغوطاً اقليمية تجبر الدولة في الخليج على عدم انتهاج سياسة داخلية للمشاركة بأدوات حديثة، وهو أمر لم يعد مقبولاً كحجة سياسية، خصوصاً في العقد الأخير من القرن الماضي، حين توجهت دول الخليج لتبنّي انفتاح سياسي خفض من الأسوار بين الحاكم والمحكوم. كما أسقطت الخطوات السياسية في البحرين حجة أخرى كانت تقول إن الأفضل هو بقاء الحال كما هي عليه، لأن الولوج في تجربة جديدة قد تعرف بدايته، وربما لا يعرف منتهاه، وذلك تحوّط لم يعد مقنعاً للقيادات السياسية. ثم أن الحجة المضادة الأكبر التي تقول إن الأنظمة في الخليج غير قادرة على التغيير أو غير قابلة به، هي أكبر الأوهام التي أسقطتها الخطوات السياسية للشيخ حمد بن عيسى في البحرين، فإن كان هناك مشروع سياسي متكامل الأوجه فليس أدل على ذلك من أن الشعب بكل فئاته يرضى عن هذا المشروع ويوافق عليه، وهو ما حدث في الاستفتاء الأخير. إلا أن ما تم ليس نهاية المطاف، بل هو بداية قابلة للتطوير، وأيضاً قابلة للعبث والتخريب، إن هي فُهمت على غير ما أريد لها، أو استخدمت للقفز على ما أريد لها أن تحققه. فالبعض استدعى التاريخ ليدلل على أن هذا التاريخ لم يكن قد سار سيراً منصفاً للجماهير الغفيرة، أو سار دائماً على عكس ما تريد وترغب. والارتكان إلى التاريخ من أجل الوصول إلى نتائج تُسقَط على الحاضر هو أخطر ما يمكن أن تقع فيه دعوة سياسية أو تحليل يعوّل عليه. فالرجال غير الرجال والزمن غير الزمن والمتطلبات مختلفة، والمعطيات على الأرض قد تغيرت. وينظر البعض إلى الرخاء الاقتصادي بمعنى الوفرة، وكأنه مرادف تلقائياً للإصلاح السياسي أو نتيجة مباشرة له من دون جهد جديد، وهي مقولة ليست دقيقة ولا علمية، فالبحرين لا تملك من الموارد الاقتصادية ما يمتلكه جيرانها الأقرب، ولا شك في أنه بالإصلاح السياسي يمكن أن توظف هذه الموارد - القليلة - توظيفاً أنجح وأكثر فاعلية، لكن الإصلاح السياسي - وحده - لا يمكن أن يزيد حجم هذه الموارد، وكل ما يمكن فعله هو استخدام الإصلاح السياسي من أجل تعظيم الموارد والاستفادة من الوضع الاقليمي لجعل البحرين مكاناً جاذباً للاستثمار من جهات مختلفة، وأيضاً جاذباً لكثير من النشاطات التي تفتقدها المنطقة، ومنها السياحة الحديثة والمنظمة، ومنها أيضاً الصناعات التقنية التي تعتمد على رأس مال بشري مدرب موجود منه مخزون لا بأس به في البحرين. كما أن النمو الاقتصادي يتطلب قوانين مستقرة، بعيدة عن المزايدات السياسية والاجتماعية، ويتطلب خطوات مدروسة تنظر إلى مصلحة المجتمع ككل لا الى مجرد شريحة ضيقة منه، ثم أنه يحتاج إلى العرق والجهد والمثابرة أكثر بكثير مما يحتاج إلى الشعارات الرافضة. المخاطرة ان تستخدم أدوات الإصلاح السياسي ومفاهيمه من جانب البعض كي تكون غاية في حد ذاتها، لا وسيلة للتنمية المشتركة، وان تغلب مصالح شرائح ضيقة سياسياً واجتماعياً للتضييق على حريات عامة تسد في النهاية طرق الانفراج الاقتصادي، فتتحول الوسيلة إلى غاية في حد ذاتها، أو تستخدم الوسيلة لوجاهة اجتماعية تُفقد الجمهور الثقة بالوسيلة والهدف، وهي مواقع خطأ وقعت فيها بعض التجارب العربية، ولا يزال تأثيرها سلبياً في مناطق أخرى من عالمنا العربي، حيث قلبت المفاهيم وعطلت المسيرة. المخاطرة الأخرى هي أن يحاول البعض أن يركض قبل أن يتعلم المشي، فيبالغ في المطالب من دون منهاج أو هدف، ومن دون النظر إلى موارد المجتمع ومصالحه المرسلة، وأيضاً من دون الأخذ بمطالب شرعية وقانونية لشرائح أخرى في المجتمع، ولا فرق هنا بين إقصاء الآخر وبين مصادرة حقه في القول أو العمل من قِبَلِ سلطة قهرية، أو من جماعة تعتقد أن لديها الحقيقة السياسية والاجتماعية المطلقة التي لا تقبل نقاشاً. فالإقصاء والتهميش - مهما كانت الشريحة الاجتماعية صغيرة - يبذران الخلاف ويسببان الفرقة، وهذه معادلة استعصت على الحل في العديد من التجارب العربية في مجال الممارسة الديموقراطية، وإن كانت بعض الممارسات قد تجاوزت مرحلة عنق الزجاجة هذه، وكمثال على ذلك التجاوز النسبي نذكر عدم لجوء حزب الله في لبنان إلى خلط عمله السياسي بمعتقداته الاجتماعية، ولو فعل ذلك لعطل مصالح مرسلة لكل اللبنانيين. وهو مثال يختلف عن التجربة التي مورست في السودان مثلاً، حينما اختلطت الأفكار الاجتماعية بالسياسية فخلفت وبالاً على المجتمع والدولة. قد لا تكون مثل هذه الفروق موجودة في مجتمع البحرين الذي وجدنا غالبيته تخرج إلى الشارع مستبشرة بالإصلاحات السياسية الجديدة، وبطرح الموضوعات المختلفة للمناقشة العلنية. لكن يبقى التخوف من عدم وجود أولويات وطنية متفق عليها بين القيادات الشعبية، مما يجعل البعض يخلط بين التاريخ والجغرافيا، وبين الاقتصاد والاجتماع، إذ قد تتاح الفرصة في هذا الخليط غير المنظم لبعض القوى - عن وعي أو من دون وعي - لخلخلة مسيرة التجربة وإرباك الجمهور وتشويشه. ولقد تحوط المشروع البحريني لبعض تلك الاحتمالات باقتراح المجلسين، وهو تحوط قد يؤدي إلى تقليل احتمالات المزالق. التجارب الديموقراطية تبنى بتؤدة، وتمر بمراحل وتستبعد العوامل المعطلة منها وتستبقي ما يساعد على التنمية، وهي قبل كل ذلك نتاج تجربة فريدة لشعب له مواصفات ديموغرافية واقتصادية وجيوسياسية مختلفة جذرباً أو جزئياً عن نظيرتها في أي مجتمع آخر، وهي تزدهر بالنقاش المنظم والعقلاني المنفتح على الآخر، كما أن الديموقراطية هي وسيلة حضارية لحل الخلاف الطبيعي في أي مجتمع في حدود مرسومة ومتفق عليها لا تضر بمصالح المجتمع الرئيسية، ولا بأهدافه العليا. من المبكر في ظل كل هذا أن يتحدث البعض الآن في البحرين عن طرح شروط مسبقة، أو المسارعة لتشكيل تكتلات لها طابع مخالف لما يتوخاه المجتمع المدني الذي يفهم الاختلاف السياسي في إطاره ومغزاه، ولكنه ينبذ الخلاف الطائفي أو العرقي، الذي يتعرض معه نسيج المجتمع إلى الترهل قبل أن يشتد عوده. الطريق أمام أهلنا في البحرين ليس طريقاً معبداً ولا مختصراً، والقفز قبل تعلم المشي لا يتعب وينهك فقط، وإنما قد يعيق ويدمر أيضاً. ومن هنا فإن العقلاء عليهم ألا يبخلوا بالوقوف أمام المعظمين للعقبات أو المسارعين بالتعجيل من دون رسم أولويات واضحة ومتفق عليها، كما ينبغي ألا يبخلوا بنصح المطالبين بإسقاط الماضي على الحاضر بضرورة التريث، وفي الوقت نفسه نصح المتريثين من دون تبرير بفتح الأشرعة والتأهب للإبحار. الديموقراطية وسيلة لغاية أسمى منها، هي سعادة المجتمع واستقراره وإطلاق طاقاته الكامنة في جو من الحرية المسؤولة، وهي مفاهيم وكلمات أسهل في القول منها في الممارسة، وأسهل أن تقال في القاعدة منها في التنفيذ بين النخبة الشعبية. والجيل الحالي في البحرين محظوظ من جهة ومسؤول من جهة أخرى، فهو محظوظ من حيث قدمت له قيادته - في الوقت المناسب - جل ما يتمناه شعب صغير في بداية قرن مضطرب. وهو مسؤول لأنه وحده عليه أن يبذل قصارى جهده لإيصال السفينة إلى بر الامان، من دون افراط أو تفريط، وهي - بلا شك - مهمة شاقة وجهاد أكبر. * كاتب كويتي.