يعرض السيد الصادق المهدي في هذه الحلقة الخطوات التي يجدها ضرورية لإصلاح النظام الاقتصادي في السودان اليوم. ويعتبر ان هذا الاصلاح، بترافقه مع تنمية شاملة، ومع اطلاق للحوار بين المركز والأطراف، هو المدخل الى انقاذ البلاد من الكوارث التي سببها الانقسام والحرب الأهلية. نواصل هنا ما تبقى من اقتراحاتنا للميثاق، فبعد الثمانية التي ذكرنا هناك: تاسعاً: الحكم اللامركزي الفيدرالي الديموقراطية المستدامة لبلد كالسودان توجب درجة من اللامركزية الفيديرالية. ولكن الحكم اللامركزي في السودان أصيب بإخفاقات كثيرة. إنه يفترض بعض المعطيات فإن تخلفت فإنه يصبح مسخاً مشوهاً أو كارثة وطنية. هذه المعطيات هي: 1- ينبغي أن تكون في الولايات جدوى مالية تغطي ضروراتها وتمكنها من ممارسة صلاحياتها. 2- ينبغي ايجاد سلطة تنفيذية مركزية قوية لتوازن القوى الطاردة من المركز الحتمية. 3- ينبغي وجود تكوينات حزبية قوية توفق بين السياسات المركزية والولائية. عاشراً: ثقافة الديموقراطية المستدامة: بعض النخب السياسية تشكك في قيمة الديموقراطية وفي أهلية الشعب السوداني لممارستها. وهي إذ تفعل ذلك تضعف الديموقراطية فكرياً ومعنوياً وتمهد الطريق للإطاحة بها. وبعض النخب السياسية لا تقبل الحديث عن الديموقراطية المستدامة وتطالب بديموقراطية من دون احتياطات لا حرصاً على الديموقراطية ولكن لتظل الممارسة الديموقراطية ضعيفة وقابلة للتآمر ضدها. هؤلاء في الحقيقة يحضرون للانقلاب القادم ويريدون الديموقراطية مكشوفة أمنياً، مكشوفة إعلامياً، ومجردة من أية إمكانات للدفاع عن نفسها لأن نواياهم في الحقيقة مع الفاتك لا مع الراعي: من رعى غنماً في أرض مسبعةٍ ونام عنها تولى رعيها الأسدُ! التنمية المستدامة ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولكن الخبز ضروري لبقائه، ومن دونه تصير كل الأمور القيمة إلى عدم. إن تحدي التنمية في العالم المعاصر هو أخطر تحد يواجه الدولة والمجتمعات. والالتزام بجدية في الظروف المعاصرة تجاه التنمية ضرورة وطنية وضرورة لكرامة الإنسان. وإلى الآن وبالنسبة لكثير من البلاد فإن التحدي التنموي لم يواجه بالتصميم والتعبئة التي يستحقها لرفعها من الفقر والبؤس. وإذا كانت التنمية الاقتصادية تقاس بالزيادة في دخل الفرد فإن التنمية الاقتصادية المستدامة يجب أن تقاس اضافة الى ذلك بأربعة معايير هي: 1- انعكاس الزيادة في الدخل على زيادة الرفاهية الاجتماعية، وهذا يظهر في شكل خدمات أفضل من تعليم وصحة وزيادة في متوسط الأعمار وكل معايير الرفاهية المقبولة. 2- التزام التنمية بالاستغلال المتوازن للموارد الطبيعية. فالتنمية إذا كانت عديمة الوعي تجاه البيئة يمكن أن تهدر الموارد الطبيعية وتهدد مستقبلها. 3- الاهتمام بالبعد الثقافي للتنمية: تعتبر الثقافة وهي مجموع القيم والمعتقدات والمواقف والعادات وأنماط السلوك في مجتمع محدد ركيزة أساسية من ركائز التنمية الاقتصادية الاجتماعية. وإذا فشلت استراتيجيات التنمية في مخاطبة البعد الثقافي فإنها تخلق مناخاً من التبلد والغربة والمماحكة وتحضر الأرض لرد فعل احتجاجي ثقافي كما هو حادث في كثير من الحالات. 4- الاهتمام بالتوازن الإقليمي في خطط التنمية: ولقد غذى الفشل في اتخاذ استراتيجية تنمية متوازنة إقليمياً المرارات الإقليمية مما سبب في النهاية نزاعاً مسلحاً وحرباً أهلية شلت خطط التنمية. 5- إذاً، فالتنمية المستدامة هي تلك التنمية التي تنتج عن استصحاب الزيادة في الدخل الفردي للجوانب المذكورة أعلاه. اقتصاد مستقر قبل مجيء النظم الشمولية السودانية كان الاقتصاد مجدياً بحيث أنه كان ينتج ما يكفي غذاء أهله ويحقق فائضاً يكفي لتمويل تنمية لدرجة معقولة. وكانت قيمة الصادرات تكفي لتمويل الواردات الضرورية وتحقق فائضاً في ميزان المدفوعات، وكانت قيمة العملة الوطنية تساوي 3,3 دولار، وكانت السياسات المتبعة تتسم بالعقلانية وتلتزم بالاعتبارات العملية. صحيح أن الأنظمة الديمقراطية يمكن أن تلام لأنها أغفلت بعض الأمور مثل إعادة هيكلة الاقتصاد بعد خروج المستعمر، وغذت المظالم الفئوية والإقليمية. ولكن في المقابل ارتكبت السياسات الاقتصادية للأنظمة الشمولية خطايا، إذ فرضت تلك الأنظمة حلولاً عسكرية للمشكلات القومية. وتعين عليها إنشاء عدد من الأجهزة الأمنية لمواجهة جبهة الحرب المدنية الداخلية مع مواطنيها. فتضاعفت النفقات العسكرية والأمنية أضعافاً. وإذا قارنا هذا الهدر المالي مع تدني الإنتاج المريع في النظامين الشموليين لبطل عجبنا من العجز المالي الداخلي والخارجي المتواصل والفوضى المالية التي قادت الى النمو السرطاني للدين الحكومي والكتلة النقدية. انعكست الفوضى المالية والنقدية على قيمة العملة الوطنية والتي كفى بها نحولاً أن أصبحت تساوي أربعة أجزاء من مئة جزء من السنت والذي هو جزء من مئة جزء من الدولار. أثقل النظام المايوي ظهر البلاد بالدين الخارجي الذي أصبح نصباً تذكارياً يشهد له بالحماقة والتبعية الأجنبية. وتسبب التعامل العقائدي في تعبيريه اليساري اليميني مع الاقتصاد في أذى بالغ يتحمل النظامان الشموليان مسؤوليته الكاملة. و لعدة حقب ادعت الشيوعية أنها الطريق الأقصر لتحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وقد أثر هذا المفهوم تأثيراً عميقاً في الفكر الاقتصادي في كثيرٍ من دول العالم الثالث ولكن بدا الانهيار الكامل والعجز المشين للاقتصاد المخطط واضحاً إثر انهيار الأنظمة الشيوعية في كثير من دول شرق أوروبا. ومن حينها أشار سهم الفكر الاقتصادي إلى اتجاه أصولية السوق الحر الذي أصبح عقيدة متفشية، قاد لها المنطق التالي: لقد فشلت التنمية بالدولة، فالحل إذاً هو التنمية بغيرها. ومهما يكن فشل الاقتصاد المخطط كبيراً فإن الانقلاب الى الاتجاه الآخر واستبعاد الدولة من العملية الاقتصادية ليس ضماناً للنجاح بل وليس جائزاً. صحيح أن الدولة لا يمكن أن تقوم بدور السوق الحر، ولكن في المقابل لا يمكن للسوق الحر أن يحل محل الدولة في توجيه وقيادة التنمية. هناك تدابير يتعين على الحكومة تأمينها لجعل قيام السوق الحر ممكناً وللمضي بالتنمية قدماً. تلك التدابير هي: - إقامة حكم القانون والمحافظة عليه لتأمين الأساس القانوني للمجتمع. - تأسيس مستوى جيد لسياسات الاقتصاد الكلي في ما يخص النظام المالي والنقدي والتجاري والاستثماري والمحافظة على هذا المستوى. - توجيه سياسات الاقتصاد وخططه التفصيلية لتفضي إلى نشاطات اقتصادية. - ترقية وتطوير البنيات الأساسية المادية في مجالات النقل والاتصالات والطاقة. - السعي لإصلاح الاختلال في التوازن الإقليمي. - حماية شرائح المجتمع الضعيفة. - حماية البيئة. - الوعي بالارتباط الإيجابي بين التنمية والثقافة. والاقتصاد الحر، حال ترقيته وتكملته بهذا الدور الاقتصادي الإيجابي للدولة سيكون الهيكل النظري للتنمية المستدامة. القدرات الاقتصادية للسودان السودان زاخر بالموارد الطبيعية: - ثلث أراضي السودان الشاسعة صالحة للزراعة، تمدها ثلاثة مصادر للمياه: الأنهار، الأمطار الموسمية، والمياه الجوفية. - هناك مساحات شاسعة من الغابات والمراعي الطبيعية وتضم المراعي أعداداً هائلة من الأنعام: الجمال، الأبقار، الضأن والماعز... تصل إلى مئة مليون رأس. - ثروة معدنية: الذهب، الفضة، البوكسايت، الصفيح، النحاس، الزنك، الحديد، المنغنيز، الرصاص، ومعادن أخرى بالإضافة لمعادن البناء: الغرانيت، الرخام، الجبص، ومعادن أخرى. - الطاقة: النفط، قدرات الطاقة الكهرومائية، وإمكانات الطاقة الشمسية. - القدرات الصناعية في البلاد هائلة. ويبلغ المكون المالي للصناعة أكثر من 8 بليون دولار مستويات الإنتاج الحالية أقل بكثير من الطاقة الإنتاجية. - رأس المال السوداني المغرّب: وهو مبلغ ضخم يبلغ في تقديري 70 بليون دولار. - إضافة الى ما سبق فهناك رصيدان قيمان هما: أولا: الموارد البشرية السودانية: السودان غني جداً بالمهنيين والفنيين والفنانين والمعلمين وغيرهم، ولئن اضطرت غالبيته من هؤلاء إلى الاغتراب إلا أن كثيراً منهم يشكل الاغتراب لديهم أمراً موقتاً، يمكن أن يعودوا بعده إلى أرض الوطن في الظروف الملائمة، وهناك أيضاً القطاع التقليدي السوداني وهو رصيد بشري قيم يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في التنمية، وفي الواقع فإن هذين القطاعين المغتربون والقطاع التقليدي في الاقتصاد حفظا الاقتصاد السوداني من الغرق، فبعدهما النسبي من التأثير السالب للحكومة المركزية في الخرطوم حماهما من سياساتها الهدامة. ثانياً: الرصيد الضخم من النيات الحسنة تجاه السودان على الصعيدين الإقليمي والدولي، وهذا الأمر له قيمة مبشرة يمكن استغلالها لمصلحة البلاد. في الديموقراطية الثالثة، وعلى رغم ظروف الحرب الباردة وجدية موقف السودان في عدم الانحياز، وعلى رغم المواقف السالبة لقادة الغرب تجاه الديموقراطية الثالثة فإن أغلب دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي O.E.C.D وبخاصة هولندا واليابان وإيطاليا وألمانيا وكندا وفنلندا وبريطانيا، ودول أخرى ساهمت بسخاء بمساعدات تنموية. بينما كان موقف الولاياتالمتحدةوفرنسا هو الاستثناء. وكانت مساهمة دول الخليج في معونات التنمية أكثر سخاء... وبلغت جملة معونات التنمية للسودان 3,5 بليون دولار. تدابير للعمل الفوري وحالما تسمح الظروف بتغيير جذري للسياسات الاقتصادية في السودان فإن التدابير التالية يجب تنفيذها: 1- تأسيس نظام مالي منضبط يعمل في جانب الصرف على: إيقاف الصرف الأمني والعسكري الذي اقتضته طبيعة النظام الشمولية. ومثل ذلك ينبغي أن يفعل في التوسع الإداري الذي ضخّم الصرف من دون أي معنى. وفي جانب الإيرادات: يعمل على إصلاح النظام الضريبي لجعل التدفق المالي متمشياً مع المستويات المقبولة مع مراعاة العدالة والتخلص من الضريبة المزدوجة والتنسيق بين الضرائب المركزية والإقليمية. 2- تأسيس نظام نقدي منضبط يعمل على استعادة الدور القيادي للبنك المركزي وإصلاح النظام المصرفي لمنع الاستغلال الحزبي وتطبيق تدابير تسعى لتصفية الحجم الضخم للكتلة النقدية مع إصلاحات أخرى تهدف إلى استعادة قيمة العملة الوطنية. 3- إعادة تأهيل الأصول الزراعية والصناعية وأصول المرافق العامة الموجودة وتوفير مدخلات الإنتاج الضرورية. 4- ولأسباب موضوعية عديدة يجب أن نطلب إعفاء الدين الخارجي. 5- إعادة تأهيل المناطق المتأثرة بالحرب وخصوصاً ما يختص بالقدرات الإنتاجية والبنية الأساسية الاجتماعية وإعادة توطين النازحين. بالنسبة الى السياسات الاقتصادية التي يجب مواصلتها فبعض هذه السياسات الحالية لها أساس منطقي ولذلك يجب أن تستمر بعد إصلاحها، وهي: 1- تحرير الأسعار وإلغاء الدعم لتحرير السوق: هذه السياسة طبقت من دون أي محاولة لتخفيف العبء عن المجموعات المستضعفة، وهذا من ما يجب تصحيحه. 2- الخصخصة: هذه سياسة أخرى في اتجاه اقتصاد السوق الحر، ولكن ليست كل مؤسسات القطاع العام عديمة الجدوى الاقتصادية. فقبل مجيء نظام مايو الكارثي كان القطاع العام في الاقتصاد السوداني رابحاً وكان يدفع ما يقارب 50 في المئة من ميزانية الدولة من فوائضه. لقد كانت اشتراكية مايو الغوغائية هي التي وسعت وشوهت القطاع العام وأغرقته في الديون. بعض وجوه الأداء الاقتصادي يجب أن يستمر كمؤسسات عامة، ولكن الجزء الأكبر من النشاط الزراعي والصناعي والتجاري والخدمي يجب تخصيصه. أما ما تم بموجب قانون 1992م فلا يمكن تسميته خصخصة، فأصول المؤسسات التي تمت خصخصتها تم تبخيسها بدرجة كبيرة وتم بيعها بطريقة سرية مريبة ومن دون تسويق مناسب، وعليه يجب مراجعة كل البرنامج. 3 - إنشاء سوق الخرطوم للأوراق المالية خطوة في الاتجاه الصحيح، ولكن سياسات وممارسات النظام نتج منها: عدم استقرار سياسات الاقتصاد الكلي وعدم ضمان حقوق الملكية إضافة إلى سيل من التدابير التحكمية، وهذا قوض الثقة في الاقتصاد الوطني. كما نتج منها القطع التام لعلاقات البلاد الاقتصادية الخارجية، وبالتالي فلم تعد سوق الخرطوم للأوراق المالية إلا بورصة وهمية. ثمة دروس اقتصادية يمكن الاستفادة منها: يوجد الآن رصيد ضخم من تجارب التنمية والتي يمكن الرجوع إليها بنجاح، وهي: 1- سياسات زراعية ناجحة رفعت الإنتاجية الزراعية بصورة ضخمة مثلما حدث في الهند ومصر. 2- التركيز على النشاطات التي تزيد الدخل للمواطنين في المناطق الريفية، وذلك من خلال تنمية القطاع التقليدي وترقية التعاونيات ومشاريع المجتمعات الريفية مثلما حدث في الهند وبنغلادش. 3- سياسات صناعية ناجحة وكان لها تأثير إيجابي على الإنتاج الصناعي مثلما حدث في أقطار شرق آسيا. 4- ترقية الأداء الاقتصادي في قطاع الصادر مثل ضبط الجودة، التسويق، التمويل التجاري... مثلما حدث في مصر وتونس. السلام العادل السودان ليس البلد الوحيد في إفريقيا الذي عاش حرباً أهلية طويلة وقاسية. ففي منطقة البحيرات العظمى لا سيما رواندا وبورندي والكونغو حروب أهلية أشبه ما تكون بالتصفية العرقية. كما شهدت منطقة القرن الإفريقي أثيوبيا وإرتيريا وغرب إفريقيا سيراليون حروباً طاحنة. ولكن حرب السودان الأهلية تتميز بأمرين هما: الأول: أنها كانت متوقعة أكثر من غيرها More predictable. الثاني: أن وضوح أسبابها يجعلها ممكنة الحل أكثر من غيرها More Resolvable. بين الشمال والجنوب تباين ثقافي، وديني واضح جداً. هذا التباين غذته عوامل تاريخية في العلاقات بينهما ورسخته السياسة الاستعمارية عن طريق: السياسة الجنوبية 1819-1947م العازلة للجنوب ومناطق أخرى كمناطق مقفولة، وتركيز التنمية الحديثة على مناطق معينة وتهميش أخرى على رأسها الجنوب. ثقافة المركز في السودان استمدت هويتها من أصول إسلامية عربية وصاغت نظرتها للجنوب على أساس أن الواجب الوطني يقتضي نقض ما صنع الاستعمار. هذا التصميم هو ما عبرت عنه مذكرة مؤتمر الخريجين للحاكم العام 1942م. هذا التصميم لون سياسات الحكومات الوطنية السودانية التي حكمت السودان منذ الاستقلال الديكتاتورية منها والديموقراطية مع فارق واحد: سياسات الحكومات الديموقراطية أكثر نعومة ومصحوبة بحوار مع أصحاب الشأن -الجنوبيين- عبر قنوات أتاحتها الديموقراطية. بينما سياسات الحكومات الديكتاتورية كانت خشنة وفوقية ومانعة للحوار، وعندما شذت مرة واحدة في حالة حكومة نميري وحاورت وأبرمت اتفاقية 1972م فإنها تخلت عن الاتفاقية وهيأت لاقتتال أسوأ من ذلك الذي أنهته الاتفاقية. لذلك اندلعت مقاومة جنوبية لثقافة المركز هذه. وساهم استمرار الحرب الأهلية في تخريب ما كان من بنية تحتية في الجنوب وما كان من تعمير فزادت الفجوة التنموية. الطبيعة الثقافية للمواجهة أدت إلى أن يقف العالم العربي والإسلامي غالباً مع ثقافة المركز في السودان. وأن تقف الكنائس، والصهيونية، وتيارات غربية معتبرة، وكثير من دول أفريقيا جنوب الصحراء غالباً مع المقاومة الجنوبية. هكذا ترسخت المواجهة بعوامل ذاتية، وعوامل استعمارية، وعوامل محلية، وعوامل خارجية. هذه الصورة للمواجهة كانت متوقعة قرأها في الغيب كثيرون. والآن بعد الخسائر البشرية الهائلة والتدمير الذي لحق بالجنوب، والخسائر الهائلة والتعطيل الذي لحق بالشمال والتعويق الذي أصاب السودان كله، بل بعد مخزون المرارة الذي تراكم بين أطراف النزاع فأودى بالثقة تماماً وشحن النفوس بنزعات الخصام والانتقام، لا يوجد سبيل لحل عادي لهذه الحرب اللعينة. إن افتراض أن العلاقة بين شمال السودان وجنوبه حسمت في مؤتمر جوبا 1947 افتراض هش لأن التمثيل الجنوبي في مؤتمر جوبا كان ناقصاً. كذلك الافتراض أن قرار الاستقلال قد حسمها 1956م لأن قرار الاستقلال كان مشروطاً. الخيار الوحيد المعقول والإنساني هو أن نبدأ من الأول وأن نعترف بالحقائق وأن نحدد كافة أسباب الغبن والتظلم، وأن نعترف بعدم جدوى التثاقف القهري، وأن نضع بالتفاوض مع أصحاب الشأن تعاقداً جديداً لبناء السودان الموحد ثم إعطاء أهل الجنوب حق اختيار قبول هذا التعاقد الجديد لبناء الوطن الموحد، وإعطاء شرعية ديموقراطية لهذا التعاقد تدعم الوحدة الطوعية عبر ممارسة أهل الجنوب حق تقرير المصير وتقفل الباب أمام التحدي لها مستقبلاً. والتعاقد الجديد يقوم على أسس هي: الدين والدولة، الهوية الثقافية، توزيع الثروة، العلاقات الخارجية، الوحدة الطوعية. الدين والدولة الدين يدخل في الحياة، والسياسة جزء من الحياة. والمؤمن بدين لا يستطيع أن يستمر مؤمناً ويطرد دينه من حياته. المبدأ الذي ينبغي إقراره في هذا الصدد أن المؤمن مهما استهدى بدينه ينبغي ألا يحاول إخضاع الآخرين له وأن يحترم التعددية الدينية. والدولة لا تستطيع أن تعمل كأن الدين غير موجود. فالقسم الذي توجبه محاكمها يقوم على الاعتقاد الديني. وتنظيم الأحكام الخاصة بالمجموعات الدينية يوجب تشريعات من مصادر دينية. لا يمكن إلغاء الوجود الحركي للدين في المجتمع، ولا إلغاء السلوك القيادي لرجال الدين في الحياة، ولا إبعاد الدين عن كل ما له صلة بالعلاقة بين المواطن والدولة. فما العمل؟ إن الفكر العلماني في الغرب ألح على شعار فصل الدين عن الدولة وفصل الدين عن السياسة. ولكن في الواقع التجريبي حدث تعايش بين الدين والدولة والدين والسياسة في الغرب. لنضرب مثلا بثلاث أهم دول غربية من حيث تأثيرها على عالم الجنوب أو "العالم الثالث". فرنسا كانت منذ الثورة الفرنسية أكثر البلدان تطرفاً في طرد الدين من السياسة وطرده من شؤون الدولة. ولكن بعد أن هدأت الثورة عقدت الدولة كنكردات عهد مع الكنيسة الكاثوليكية أعاد دور الدين في الحياة العامة. في بريطانيا العلم القومي يظهر الصليب. ومجلس اللوردات - وهو جزء من المؤسسة التشريعية والقضائية في الدولة - فيه 26 أسقفاً تنتخبهم الكنيسة الأنجليكانية. والقانون يوجب أن يكون ملك بريطانيا وزوجه من البروتستانت. والشرعية السياسية مرتبطة بالشرعية الدينية في رأس الدولة. والمذهب الديني في بريطانيا وحد ثلاث قوميات هي: الإنكليز، والويلش، والاُسكتس. بينما نفر الآيريش بسبب المذهب الديني. وفي الولاياتالمتحدة الأميركية كان تأسيس الاستيطان الأول في المناطق المختلفة على أساس ديني لا سيما في فرجينيا، وبنسلفانيا، وميرلاند، وغيرها. بل كان المستوطنون الأوائل يقارنون بين عبورهم الأطلنطي وعبور الإسرائيليين البحر الأحمر الى أرض الميعاد. وكان جورج واشنطن يشبه بموسى عليه السلام، وهو الذي قال في خطاب الوداع: "كيف يكون هناك ضمان للممتلكات والسمعة وحتى الحياة إذا لم يمنع الالتزام الديني الناس الحنث باليمين الذي هو أداة التحري في محاكم العدالة؟" وذكر الله ورد في إعلان الاستقلال. وفي النشيد الوطني. وفي الدولار، النص هو: توكلنا على الله. ومعلوم بصورة واضحة دور اللوبي الديني في السياسة الأميركية، وهناك ارتباط بين الحزب الجمهوري والثقل الديني البروتستانتي، وبين الحزب الديموقراطي والثقل الديني للكاثوليك، والارتباط بين الحزب الديموقراطي واللوبي اليهودي. كل مجتمع سوف يصل لمعادلة... بالنسبة إلينا فالمعادلة الصحيحة هي: - أن تكون المواطنة أساساً للحقوق والواجبات الدستورية. - ألا يكون هناك تمييز بسبب الدين أو الثقافة أو الإثنية لأية جماعة وطنية. - ألا يسمح بقيام حزب سياسي يسعى للسلطة السياسية باستبعاد الآخرين على أسس دينية أو ثقافية أو جهوية. - أن تكون التشريعات العامة التطبيق في البلاد من مصادر متفق عليها ولا تفرق بين المواطنين على أساس ديني. الهوية القومية: الهوية التعددية المتعايشة مثلما ينص على ذلك الميثاق الثقافي المذكور أعلاه. عدالة توزيع الثروة: هنالك سببان يجعلان بعض مناطق السودان محتاجة لمجهود تنموي خاص هما: الأول: أنها أصلاً تعاني من تخلف تنموي ونقص في البنية الأساسية وفي الخدمات الاجتماعية وفي مشروعات الاستثمار. الثاني: أنها عانت من العمليات الحربية فزاد الطين بلة. الأولوية لهذه المناطق هي: إزالة آثار الحرب، إعادة استقرار النازحين، تأهيل مشروعات البنية التحتية، تأهيل مؤسسات الخدمات الاجتماعية، تأهيل المشروعات الاستثمارية، تمويل المشروعات التنموية الجديدة وتمكين القطاع الخاص من القيام بدور تنموي. هذه الأهداف يمكن تمويلها من مصدرين: مصدر ذاتي ومصدر خارجي. أما المصدر الذاتي فينبغي اتخاذ قرار بتخصيص 50 في المئة من كل الثروات المستخرجة من باطن الأرض للمناطق المعنية. وتخصيص نصف ما كان ينفق على الحرب للغرض نفسه. والدعوة الى اجتماع مائدة مستديرة من دول عربية وغربية وآسيوية مانحة للمساهمة في تمويل هذه الأولويات. وينبغي أن يكون تحقيق التوازن التنموي أحد أهداف التنمية المستدامة. اللامركزية في قرارات اسمرا للقضايا المصيرية اتفق على توزيع للصلاحيات بين المركز والولايات. ينبغي الالتزام بذلك التوزيع أساساً للسلطات اللامركزية كجزء من اتفاقية السلام إلى حين حسم العلاقة الأساسية عن طريق الاستفتاء. إعادة هيكلة مؤسسات الدولة مؤسسات الدولة في السودان لم تكن سليمة التكوين في الماضي ثم زاد تشويهها في عهد "الإنقاذ" الذي حَزَّبها. على ضوء اللامركزية، والميثاق الثقافي، تعاد هيكلة مؤسسات الدولة لكي تتسق مع التوجه الجديد. العلاقات الإقليمية والدولية الجامعة العربية ومؤتمر الدول الإسلامية منظمتان فضفاضتان تضمان دولاً أعقد درجة في التنوع الثقافي والعرقي والديني من السودان. السودانيون الشماليون غالباً ما يعتبرون أن عضوية هاتين المنظمتين من المسلمات. أما الجنوبيون فإنهم يتساءلون عن معنى عضويتهم فيهما. هذا الموضوع ينبغي بحثه للتراضي حوله. كما ينبغي ترفيع الاهتمام بالانتماء الأفريقي والمنظمات الإفريقية الإقليمية في القرن الإفريقي وفي حوض النيل على نحو ما فصلنا في كتاب "مياه النيل: الوعد والوعيد". المهم بالنسبة الى اتفاقية السلام والعلاقات الخارجية أمران: الأول: التوصل مع الجنوبيين الى تسوية حول العضوية في المنظمات المختلف عليها، والثاني: ترفيع الاهتمام بالعلاقات الإفريقية. وفي هذا الصدد فإن حزب الأمة يزمع تنظيم ورشة عمل لبحث قضية السياسة الإقليمية والدولية على ضوء المستجدات ومصالح السودان الأمنية والتنموية. صار تقرير المصير مطلباً جنوبياً عاماً وهو مطلب وافقت عليه القوى السياسية الأخرى في البلاد بحيث صار أمراً مجمعاً عليه. 1- تقرير المصير في ظل الحكم الحالي وأطروحاته معناه الانفصال لقيام دولة عدائية في الجنوب ومواصلة الحرب تحت رايات جديدة. لذلك فإننا نرفض هذا السيناريو لتقرير المصير. 2- تقرير المصير بحسب قرارات أسمرا 1995م يقتضي تكوين حكومة تشترك فيها أطراف النزاع في السودان، وأن تلتزم هذه الحكومة ببرنامج إصلاحي يخاطب ونأمل أن يحل كل تظلمات الماضي بصورة مدروسة. ثم يأتي تقرير المصير بعد ذلك... هذا النهج يعطي الوحدة أفضل فرصة ممكنة. بعد غد الاثنين الحلقة ما قبل الاخيرة من كتاب الصادق المهدي