ازدهرت في ايران أخيراً ظاهرة "السفور" بعد ان كان النظام الإسلامي ومنذ انتصاره منع الفتيات من الخروج الى الشوارع كاشفات عن رؤوسهن، كما منعهن من العمل سافرات، وحتى من الخروج الى شرفات منازلهن وهن على هذه الحال. ولكن يبدو ان مقاومة "عنيدة" بدأت تظهر، مرتبطة بلا شك بوصول الإصلاحيين الى السلطة على رغم محاولة هؤلاء الأخيرين التنصل من دعم مظاهر مخالفة شروط "الثورة" وقوانينها. وقد أخذت مقاومة فرض الحجاب من قبل شابات وشبان ايرانيين أشكالاً أخرى، كمحاولة التحايل على الحجاب الرسمي باستبداله بقبعة مثلاً، واستبدال الشادور بالجاكيت. وهنا تحقيق من طهران عن هذه الظاهرة. الكلام الذي أطلقه "إمام جمعة" مدينة أصفهان الموقت السيد علي قاضي عسكر منذ نحو اسبوعين حول ما وصلت اليه الأوضاع الاجتماعية واتساع ظاهرة الفساد، يحمل في طياته الكثير من احتمالات وإمكانات الكلام عما بلغته الأمور من تراجع في الالتزام ببعض المظاهر التي كان من المفترض بها أن تشكل ميزة الثورة الاسلامية ونموذجها الاجتماعي. وفي أحد الأيام، وبعد الاعلان عن الانتصار الكبير الذي حققه الاصلاحيون في الانتخابات النيابية، قال نائب أمين عام أحد الأحزاب الاصلاحية واحد النواب السابقين ورئيس احدى الصحف المحظورة تعليقاً على تزايد عدم الالتزام الجدي بالحجاب: "لا بد لنا نحن الاصلاحيين من مراجعة مفردات مشروعنا الاصلاحي بشكل جذري، لأنني بت أخاف مما يحاول الآخرون إلصاقه من تهم بنا، وكأننا نحمل مشروعاً مضاداً للدين ومخالفاً له، وان احدى مظاهر هذا الأمر هو تخلي التشكيلات المكلفة بمكافحة ظاهرة عدم الالتزام بالحجاب عن القيام بواجبها، وفي المقابل الجرأة التي أصبحت عليها النساء والفتيات في أسلوب التحدي والسعي الى اظهار ما أمكنهن من شعورهن والتقليل من حظور الغطاء عليها الى أقصى حد ممكن، وهن لا يتركن فرصة للأعراب عن أمانيهن باليوم الموعود الذي تعلن فيه الدولة عن حرية الالتزام بوضع الحجاب أو عدمه". الباعث على كلام هذا المسؤول هو الخوف من استغلال هذا الأمر من قبل الطرف المنافس والذي سعى الى إظهار الفكر الاصلاحي على انه فكر معاد للدين ويهدف الى ضرب المفاهيم الاسلامية للثورة، ورأى انه لا بد للاصلاحيين من اعادة تعريف أنفسهم، حتى لا تفهم القضايا التي يحملونها او التي يروجونها على انها مضادة للثورة والدين وتدعو الى التفلت والابتعاد عن مفاهيم الاسلام. على المقلب الآخر، في زمن يعود الى الأيام الأولى للثورة تقريباً، يوم كان المجتمع الايراني ما زال يتلذذ بطعم الانتصار الفتي، وتقريباً في بدايات العام 1982، بدأ الناس يشاهدون لأول مرة في شوارع العاصمة طهران دوريات لسيارات تابعة للحرس الثوري من نوع باترول ترابية اللون في داخلها اربعة شبان تتبعهم سيارة ايرانية الصنع من نوع بيكان فيها أربع نساء يلفهن الشادور بشكل متقن ودقيق وجميل، كانت مهمتهم المحافظة على الآداب العامة ورعاية الشأن الاسلامي في لباس وتحرك النساء والشبان في الشوارع والأماكن العامة. هذه الظاهرة لم تقف عند هذا الحد، بل تحولت الى هاجس لدى بعض الشباب المتحمس من أبناء الثورة، الذين شكلوا في ما بينهم جماعات أخذت على عاتقها محاربة مختلف مظاهر الفساد، وأوجدوا لهم تشكيلات خاصة عرفت بمجموعات الدراجات النارية التي كانت تنطلق في مسيرتها من الاحياء الجنوبية لمدينة طهران باتجاه شمالها أي المنطقة المعروفة بأنها تشكل محل اقامة الطبقة البورجوازية الايرانية. حملت هذه الظاهرة في طياتها وجوهاً أخرى للصراع الدائر بين الشمال والجنوب، إذ راحت هذه السيارات تجوب الشوارع رافعة شعارات ثورية واعلاماً دينية الى جانب مقصات كبيرة تشبه المقصات الزراعية وتوحي بأنها ستستعمل في غير مكانها، كما كان في حوزة أفراد هذه الدوريات أوعية من الأصبغة بويا، بحثاً عن طريدة من الذين أوقعهم سوء تقديرهم في فخ ارتداء قمصان ذات اردان قصيرة، او سمحوا لشعرهم أن يطول ويلامس أطراف الرقبة، أو اللواتي خرجن وتركن لشعرهن الحرية في التطاير على الجبين أو على الظهر، وليكون نصيبهم إما الجز العشوائي للشعر الأمر الذي يدفع بالمنكوب برأسه الى الذهاب للمزين ليزيل ما تبقى من اثر متبعثر مما كان يسمى شعراً، أو أن تضطر احداهن الى التخفي وراء حجاب متقن الى حد يوحي ان الإيمان هبط عليها فجأة في حين انها واقعاً تكون مجبرة على مثل ذلك لأنه لم يتبق لها من الشعر ما تظهره أو تتغاوى به. مثل هذه التصرفات دفعت بالمسؤولين الكبار في الدولة آنذاك الى الحديث بشكل صريح عن الآثار السلبية التي تتركها في المجتمع مثل هذه التصرفات. وفي خطاب لرئيس الجمهورية آنذاك السيد علي خامنئي في صلاة الجمعة طالب هؤلاء الشباب الذين يطلقون على أنفسهم لقب أمة حزب الله الى عدم القيام بمثل هذه التصرفات لأنها تضر بالثورة والدولة وتوجد فاصلاً بينها وبين هؤلاء الناس وتجعل من هدايتهم أمراً عسيراً. لاحقاً غابت عن الشوارع هذه الحال لتحل مكانها مؤسسة أوكل اليها القيام بهذه المهمة، وأصبح الالتزام بالحجاب والمظهر المنسجم والبعيد عن خدش الحياء العام مسيطراً، واختفى حذر وخوف الشبان ذوي الشعر الطويل. ومع وصول خاتمي الى رئاسة الجمهورية، وما رافقه من شعور بهزيمة طرف كان مسيطراً طوال الفترة السابقة، وألقى بظلاله على الأجهزة التي كانت تتولى مسؤولية القيام بهذه الأمور، والتي نقلت مجال اهتمامها من المسائل الاخلاقية والاجتماعية الى المجالات السياسية، وتركت الحبل على غاربه، أحست مجموعة من الذين يعتبرون أنفسهم انهم تعرضوا للضغط والاجبار على أشياء لا يرغبون بها، ان الفرصة باتت سانحة للتملص من بعض القيود التي كانت مفروضة عليهم، وانه بات بامكانهم التعبير بحرية عما يعتقدونه في المسائل والتصرفات الاجتماعية. وبدأ العابرون شوارع المدن الايرانية وخصوصاً العاصمة طهران يشاهدون أموراً لم تكن موجودة في السابق، وشرعت الفتيات تتغاوين بالجدائل الملونة لشعورهن الخارجة من تحت أو خلف الأغطية التي ازداد انحسارها بشكل لافت الى حد لا تكاد تستر من رؤوسهن إلا النذر اليسير. ويمكن القول ان ما يضعنه لا يتجاوز مقدار فولار أجبرهن البرد أو الثلج على ارتدائه. ولكي تميز هوية المار ان كان فتاة أم شاباً، عليك أن تدقق كثيراً نظراً للتقارب في أسلوب ارتداء الملابس واطلاق العنان للشعر. إلا أن الظاهرة الأبرز التي بدأت تشكل حالاً تجعل من الصعب تجاوزها بسهولة، وتفرض التوقف عند أسبابها والجرأة التي تكمن وراءها، هي ظاهرة بداية أفول الزي او اللباس الذي ميز المرأة الايرانية من الشادور الى المانتو والتي لم يقتصر اثرها على ايران في بداية الثورة، بل توسع لينتقل الى معظم البلدان والتي انتقلت عدواها الى دول ومجتمعات تأثرت بالثورة الايرانية واتجاهاتها السياسية. يحمل شتاء طهران هذه السنة مقداراً من التحول في المظهر الخارجي لملابس النساء الايرانيات ليس قليلاً، فهو يشهد غياباً لافتاً للزي الذي عرف بالمانتو لتحل مكانه الجاكيت التي لا تكاد تغطي شيئاً مما كان مفروضاً أو متعارفاً على ستره أو تغطيته، وهنا لا بد من الاشارة والتأكيد على ان هذه الظاهرة تختلف بين منطقة وأخرى في طهران، اذ تزداد نسبتها كلما اتجه المراقب من وسط المدينة نحو شمالها وشمالها الشرقي والغربي، أي نحو المناطق الأكثر تأثراً بالنمط الغربي ومثالاته، والتي أصبح من الطبيعي فيها ان ترى البعض فتاة أو شاباً يتجول في احد المراكز التجارية وهو يجر كلباً وراءه، أو أن يرعبك نباح كلب آخر آت من نافذة سيارة ما يقودها شاب لا تستطيع تمييزه إلا بصعوبة، أو فتاة مع صاحباتها عند احدى تقاطعات الطرق، متبوعة بابتسامة تعجب واستهجان لرد فعلك على مصادفتك هذا المخلوق البريء والجميل. من يعيش في طهران لا بد له من أن يلاحظ سرعة تأثر الايرانيين بأساليب ومظاهر حياة وافدة من ذلك المكان الذي طالما رذلته الثورة، أي الغرب. هذا الأمر وضع مؤسسة الاذاعة والتلفزيون الرسمية الخاضعة لسياسات التيار الديني المحافظ، أمام ضرورة تقديم نوع جديد من الحجاب، كنموذج مقترح يحاكي تغير الأذواق وذلك في ظل ضرورات فنية تلفزيونية. انتج التلفزيون مسلسلاً عن حقبة حكم الشاه رضا خان والد الشاه المخلوع، في النصف الأول من القرن العشرين، وهي الفترة التي شهدت حرباً من قبل الشاه على الحجاب بهدف نزعه. وبما ان الحدث الدرامي الذي يقوم عليه الموضوع، تشكل فيه المرأة شريكاً أساسياً في تطوره وبنائه، ليس فقط في المنزل، بل في رسم خيوط الحدث السياسي، وهي بالتالي امرأة بعيدة عن الحجاب، لا بل من الرافضين له، فلم يكن أمام المنتج لهذا المسلسل الاذاعة والتلفزيون سوى اللجوء الى اعتماد القبعة كبديل للسفور المفترض ولحل معضلة تقديم الشخصية المطلوبة والمحافظة على روح وشخصيات المرحلة. ان ظهور هذه القبعة - الحجاب على شاشة التلفزيون الرسمي كانت بمثابة اعلان عن حل يشبه السحر لمشكلة الكثر من الفتيات اللواتي يرغبن في التملص من وطأة الغطاء الذي بات يثقل على رؤوسهن، ويفرض عليهن الالتزام بما لا يرغبن فيه، وفي فترة زمنية لم تتجاوز الشهر، أصبح من الطبيعي أو من غير المستهجن ان تصادف مجموعة فتيات يتغاوين بألوان قبعاتهن وبالشعر الطويل. هذه التغيرات دفعت ببعض رجال الدين الى الاعتراض على هذه الظواهر "الغريبة عن الثورة" والتعاليم الاسلامية، والى التساؤل عن هوية المسؤول عن تعاظم هذه الظاهرة؟ ما الذي يدفع شاباً الى أن يترك شعره ينمو بهذا الشكل؟ أو ان تضع فتاة قبعة على رأسها مكان الحجاب من دون أن يساورها أي خوف أو خجل؟... وأرفقت هذه التساؤلات ببعض التنبيهات والنصائح حول ان هذه القبعات الظاهرية، وان يوماً سيأتي تقوم فيه الفتيات بنزعها وعندها ينزعن عنهن العزة والعفاف. وقد حملت بعض هذه التصريحات تهديدات مبطنة طاولت مجموعة وصفتها بأنها ممن يستغلون الفرص، ويعمدون الى تقديم تصاميم للثياب النسائية لا تناسب المرأة الايرانية المسلمة. وتضيف الأصوات المحتجة: "وفي حين أن من واجب مؤسسة الاذاعة والتلفزيون أن تولي مهمة التوعية والتعريف بمخاطر مثل هذه الأعمال والتصرفات أهمية كبرى نراها قد أصبحت مثال هؤلاء وتقوم بعرض نماذجهم على شاشاتها". تعتبر المناطق الثلجية المحيطة بمدينة طهران من أكثر المناطق جذباً للرواد في فصل الشتاء، وخصوصاً المنطقة التي تقع الى أقصى الشمال الشرقي من المدينة فشم، إذ شهدت اقبالاً متزايداً من قبل فئة تبحث عن المغامرة والابتعاد عن القيود المفروضة عليها داخل المدينة، وقد اغتنم البعض هذه الفرصة لممارسة حرية تصعب ممارستها في مناطق اخرى. وكان من الطبيعي جداً أن يغيب ارتداء المانتو في هذا المكان ليحل مكانه اللباس المخصص لرواد المناطق الثلجية او المتزلجين، وتحول الحجاب الى قبعة تحمي من البرد والريح التي تحمل صقيع الثلج، كما عبرت احداهن، ولولا ذلك فلا حاجة لدي لارتدائها. وعلى مقربة منها، الى جانب الطريق العام المؤدي الى هذه المنطقة الغاصة بزوارها، تصادفك فتيات أعطين لشعرهن المجال للتفلت من عقال الحجاب بشكل كامل ومن دون أي خوف من رقيب أو حسيب، حتى ليكاد العابر يظن أن هؤلاء انما هم شباب من أصحاب الجدائل، إلا أن الواقع يكذب الظن وتفاجئك فتيات بلباسهن الرياضي الضيق وبشعرهن المتهدل على اكتافهن ولا يساورهن أي خوف من مخالفة القانون التي قد تؤدي بمرتكبها الى احتمال تعرضه للجلد اذا ما قرر الحاكم التشدد في العقوبة. وعند سؤال احداهن عن عدم وضعها الحجاب على رأسها أو على الأقل ما يستر شعرها، قالت من دون أي تردد: "أنا حرة بما أقوم به ولا أحد له الحق في منعي". وأمام هذا التحدي تحول السؤال عن احتمال ان يقوم احد افراد التعبئة الشعبية الذين يتواجدون في الغالب في مثل هذه المناطق لمنع حدوث مثل هذه الأمور أو خرق الآداب العامة من قبل البعض، بالتدخل وتوجيه كلام شديد لها واجبارها على معاودة ارتداء الحجاب قالت: "لا أثر لهؤلاء الأشخاص هنا، وعلى افتراض انه موجود وأراد أن يفرض عليّ أمراً من هذا النوع فليس من السهل عليه ذلك ولن يقدر على اجباري على القيام به". واذا كان شتاء طهران المثلج يحمل هذا المقدار من الحرارة، ماذا يمكن أن يحمله أو يخبئه الصيف من ارتفاع في درجاتها، خصوصاً في ظل اقتراب حمى المنافسة والصراع على الانتخابات الرئاسية؟ أمام هذه التطورات تعالت الأصوات المنددة بهذه الظواهر، ولعل أبرزها الكلام الذي يصر قائد الثورة على التأكيد عليه دوماً، من وجود مؤامرة تستهدف ضرب المفاهيم الاسلامية والدينية للثورة الايرانية التي دفع الشعب أثماناً غالية من أجلها وما زال، وان هذه المؤامرة تأخذ أبعاداً ثقافية تهدف الى ايجاد شرخ بين الجيل الشاب في ايران والقيم الاسلامية الثورية، والعمل على اسقاط النظام. وهو الكلام الذي بدأ الرئيس خاتمي أخيراً بالتأكيد عليه، مركزاً على ضرورة الوعي لدى الجيل الشاب لمخاطر الانجراف وراء كلام ووعود معسولة عن حرية تسلب من الانسان عزته وقيمه. وفي هذا الاطار أيضاً، أصدر المجلس الأعلى للثورة الثقافية والحكومة قراراً باستغلال المرأة السيئ في الاعلانات التجارية التي تقلل من قيمتها وتجرح مقامها وسمو قدرها.