من يشاهد فيلم "الطلاق على الطريقة الايرانية" الذي حققته زيبا مير حسين وكيم لونجونيتّي، لا بد ان ينتبه الى قوة النساء حيال رجالهن، لكنْ أيضاً حيال القاضي الذي يبدو كأنه استسلم لمعطيات ليست في حساب المؤسسة الدينية الحاكمة. ومنعاً لسوء الفهم فانها قوة في التعبير عن المأساة التي ترزح تحتها نسوة كثيرات في العالم، من دون ان يعثرن على اللغة الاحتجاجية المطابقة. فعند انتخاب خاتمي رئيساً للجمهورية، وفي استقبال الفريق الرياضي العائد من مباريات التأهيل لبطولة العالم، لمسنا بعض تعابير هذه القوة التي حاولت هلا هالِه أصفاندياري أن تشرح لنا أسبابها البعيدة. ففي كتابها "حيوات أعيدت هيكلتها" مركز وودرو ويلسون وجامعة جون هوبكنز تُسمعنا الكاتبة المُقابِلة أصوات نساء كثيرات لا يكتمن استياءهن من عالم الاستبداد الرجالي، كما لا يكتمن تمسكهن بمواقع حديثة، مهنية واجتماعية. أما الأسباب فطويلة ومعقّدة: لقد غادرت أصفاندياري ايران في شتاء 1978، قبيل انتصار الثورة. ثم رجعت للمرة الاولى صيف 1992 فوجدت بلداً ومجتمعا بدا لها، للوهلة الاولى، انهما لم يتغيرا كثيراً. لكنها ما لبثت ان اكتشفت حجم التغير العميق الذي حصل خلال الاعوام ال14 من غيابها. فالكثير من الوجوه والاصدقاء والشوارع والمشاهد وايقاعات الحياة في المدن، بدا أميناً لما كان عليه. مع هذا لم تعد ايران أليفة تماماً للعائدة اليها، كما لو ان الفسيفساء اعيد تركيب اقسامها بطريقة اخرى، بحسب ما وصفت. لقد كان للثورة اثر ملحوظ وتحويلي على جوانب الحياة عموماً. الا أن أثرها على النساء كان ملحوظاً بصورة مميزة: قانونياً واجتماعياً، مهنياً وبسيكولوجياً، في البيت وفي المجتمع. وأرادت الجامعية العائدة ان تضع كتاباً عن تجربة تدور حول كون المرأة مرأةً في ظل جمهورية آيات الله. وعلى مدى رحلات تالية عدة الى بلاد منشأها، ما بين 1992 و1996، تحدثت الى كثيرات من النساء اللواتي نقلن اليها تجاربهن وأخبرنها قصصهن. لقد ارادت ان تعرف ما الذي عناه مجيء الثورة الايرانية لهن في ما خص الحياتين الشخصية والمهنية: كيف تكيّفن مع عالم متغير ومع بيئة شديدة العداء للنساء. فسألتهن ان يخبرنها كيف أثّرت الثورة على علاقتهن بأزواجهن واطفالهن وعائلاتهن واصدقائهن، وكذلك بالنساء الأخريات أمهات وصديقات وزميلات عمل، كما سألتهن ان يصفن مواجهاتهن مع السلطات الثورية. فبسبب السياسة الرسمية حيال المرأة، غدا موضوع النساء مثار اهتمام ونقاش واسعين في ايران، ولعدد من الأسباب، كان لا بد من التركيز على المرأتين المهنية والعاملة خصوصاً. فأثر الثورة أكبر ما يكون على المرأة التي هي، في ايران، في وضع انتقالي اصلا: من البيت الى العمل، او من الريف الى المدينة، او من الأمية الى التعلم. ثم ان عدد النساء اللواتي يتولين اعالة انفسهن بالعمل لم يعد صغيراً. فكما كانت الحال قبل الثورة، استقر المطاف بالنظام الجديد الى وضع أمسى معه نصف طلاب الجامعات نساء، وملايين النساء يعملن في المصانع والمكاتب والمستشفيات والمدارس، ولكنْ أيضاً كمحاميات وطبيبات وموظفات ومديرات ونساء مال وأعمال. وأبعد من هذا أن المرأة العاملة والمهنية أضحت موديلاً لجيل كامل من الفتيات الشابات. حتى ان الأمهات التقليديات غدون يتمنين التعليم لبناتهن كما غدون يتمنين لهن الوظيفة والاستقلال الاقتصادي. وكان احد اكتشافات المقابلات التي اجرتها الكاتبة، مدى تغير الحساسيات النسائية على مدى الطيف الاجتماعي كله. الكاتبة اعطت اللواتي قابلتهن اسماء وهمية لأن النساء، على رغم كل شيء، لا تطمئنهن الثورة ونظامها. والحال ان المرأة، كائنة ما كانت طبقتها، شاركت بنشاط في الاحداث التي افضت الى قلب العرش البهلوي في 1979. لقد انضمت الى الحركة الثورية لأسباب لا تُعد: دينية وعلمانية، اقتصادية وسياسية، محافظة ومعتدلة وراديكالية. لكن الاكثرية الساحقة من النساء توقعت ان تؤدي الثورة الى توسع، لا انكماش، في حقوقهن وفرصهن. وفي الاحوال كافة لم تتوقع المرأة أن تتعرض المكاسب التي نالتها في العقود الخمسة السابقة الى التعطيل. لم يتوقعن، مثلاً، ان يستعيد الرجال حق تطليق نسائهن حين يرغبون، او ان تحتاج المرأة الى أذن زوجها كي تعمل. لم يتخيلن ان يجدن انفسهن غير مرغوب بهن في اماكن العمل، وان تظهر قوانين جديدة تفرض على النساء عقوبات خاصة، او ان يفقدن حقهن في اختيار ما يلبسنه. كان من غير المتخيل لحظتذاك افتراض ان مجتمعاً مؤسساً على الفصل بين الجنسين هو قيد الولادة. بيد ان النساء سريعاً ما اكتشفن ان لدى النظام الاسلامي أجندته الخاصة في ما يتعلق بالمرأة، وان هذه الاجندة لا تتفق مطلقا مع الوعود التي اعطيت لهن. فالدولة احتفظت لنفسها بتحديد المهن التي يمكن للنساء شغلها، والمواضيع التي يمكن لهن درسها، وكيف ينبغي عليهن ان يلبسن ويتصرفن في المجال العام، وكيف ينبغي عليهن ان يتعاطين مع الرجال. وفي تصورها ان النساء هن اساساً امهات وزوجات وربات بيوت، حاولت الدولة وضع سياسة للانجاب، فحضت المرأة على ان تكون ولوداً بقدر ما كافحت وسائل منع الحمل، وتدخلت في المخدع الزوجي مشجّعة المرأة على استجابة كل ما يُطلب منها. وبفعل هذه كلها معطوفةً على خفض سن الزواج للفتاة، وتشجيع تعدد الزوجات، وانسداد متع الفراغ والترفيه مع اقتصار الحياة على البيت، ارتفع عدد السكان ما بين 1977 و1987 من 36 مليونا الى 50، وبلغت النسبة الصاروخية للتزايد السكاني 9،3 في المئة، وهو النهج الذي لم يتم الانتباه الى كوارثه الا في 1990. لقد عطّلت الحكومة الخمينية وأبطلت معظم القوانين التي تحفظ للمرأة بعض الحقوق، لا سيما في الحيّزين الشخصي والعائلي. فالنساء لقين التشجيع والحض، لا بل الضغط عليهن، من اجل ترك وظائفهن الحكومية، كما جرت تصفيتهن من المواقع الصانعة القرار. اما العزل بين الجنسين ففُرض في جوانب عدة من الحياة، كما أُبعدن عن عدد من حقول التعليم. ولئن فُرض اللباس الاسلامي، فقد أُخضعت المخالفات لعقوبات بدنية ضارية منها الجلد. وغدا يمكن لعناصر اللجان الثورية او شرطة الاخلاق ان يوقفوا امرأة تُشاهد في مكان عام مع رجل، في سيارة او شارع او مطعم. ويمكنهم ان يسألوها عن برهان ينم عن انه زوج لها او اب او شقيق. فاذا ما اعتُقلت وكانت عزباء، تُركت لمهانات لا تقف عند فحصها للتأكد من عذريتها. ولا يحول الكلام الكثير عن قدسية جسد المرأة دون تكليف غرباء عنها بمهمة الفحص على ما فيها من مغالاة وتلصص. ورجالٌ، بعد كل حساب، هم الذين يقررون ما اذا كانت المرأة مطابقة في زيّها وسلوكها ام لم تكن. فالازعاجات في الشوارع والامكنة العامة لا تُعدّ إذن. لكن النسوة تعاني ايضاً اختراق الدولة لحيّزهن البيتي الحميم. فاعضاء اللجان الثورية لهم الحق كله في ان يدخلوا البيت الذي يريدون دخوله. وامر كهذا يعني ان النساء سيجدن صعباً عليهن التسلّي والترفيه، او الاستماع الى الموسيقى، او مشاهدة فيلم. والمرأة لن يسعها البقاء وحدها في البيت مع رجل ليس زوجها او اخاها او اباها. واذا قُرع باب بيتها فيما شعرها مكشوف، فكّرت وترددت مرات قبل ان تفتح. على ان السياسة الحكومية هذه لم تنجح، كما تقول اصفاندياري. والأسباب متجذّرة، جزئياً، في التغييرات العميقة التي لم يستطع النظام الثوري نفسه ان لا يستدعيها. يندرج في الخانة هذه انخراط النساء الملحوظ في دوائر الحياة الكثيرة وفي قوة العمل، والفرص التعليمية التي انفتحت امام البنات والنساء، والانتشار، ولو بهدوء وتؤدة وتدرج، لأفكار جديدة تخص المكانة والدور والحقوق، وتصل اصداؤها الى بيئات تقليدية، وعمالية، ودينية تميل الى المراجعة. ثم ان الحاجة الاقتصادية امست، بعد الثورة، عنصراً ضاغطاً أحوج الكثيرات الى العمل، فيما الدولة بدت في حاجة الى تطعيم سوق العمل بمهارتهن. وفوق هذا بدا أن رجال الدين الايرانيين ليسوا عديمي الحساسية حيال الرأي العام العالمي، إن لم يكن في موضوع سلمان رشدي ففي موضوع النساء. والتأثير الضخم الآخر حملته السنوات الثماني للحرب مع العراق 1980-1988. فهي املت فتح باب العمالة للمرأة التي احتيجت ممرضةً وطبيبةً وعنصر دعم للمجهود الحربي. لكن الظروف القاسية للقصف الجوي والتعتيم وتقنين المواد قرّبت بين النساء واوجدت بينهن لحمة لم تُعهد في السابق. ولما كلّفت الحرب دماراً وحرماناً رهيبين، وعشرات آلاف الحيوات ورضّاتٍ بسيكولوجية عميقة، لم تبق ايرانيةٌ تقريباً الا أصيبت برضّة الحرب التي صلّبتها وجعلتها أقل قابلية للاذعان. ويكمن بعض مصادر فشل السياسات الحكومية في عمليات التعبئة والتسييس الكثيفة التي استهدفت النساء خلال الثورة، فشملت، بين من شملتهن، بنات التقاليد التقليدية. وفعلاً نجحت الخمينية، منذ 1978، في استنهاض عشرات آلاف النساء ذوات المنابت الاجتماعية الدنيا، فرأيناهن بالحجاب واللون الأسود يتظاهرن ويساهمن في اسقاط الشاه محمد رضا. اما الفتيات اللواتي امسكن عن المساهمة واحتفظن بلباسهن وطريقتهن في الحياة، فأُخضعن لاضطهاد بدأ معنوياً وتجسد في اتهامات اخلاقية واعمال عزل ومقاطعة. حصل هذا كله في بلد تعرض منذ القرن الماضي لرياح الحداثة وأوروبا. فرضا شاه، مثلاً، كان قد ألغى "الشادور" منذ 1936، وفي العام نفسه بلغت نسبة البنات بين التلامذة الابتدائيين ربعهم، وبين الثانويين خُمسهم. هذا الماضي بدا، في أتون اللحظة الثورية، كأنه ماض ميت. وبالفعل استجابت النساء دعوة آية الله الى التصويت في استفتاء وطني تأييداً لانشاء جمهورية اسلامية واعتماد دستور جديد. وفي الاشهر الاولى التي اعقبت سقوط الملكية، راحت عشرات آلافهن يشاركن الرجال في صلوات الجمعة الحاشدة في جامعة طهران، والتي كانت مناسباتٍ سياسية تتوسّل بالمناسبات الدينية. لكن الورطة ما لبثت ان اطلت برأسها. فما دام أن النساء احتللن حصتهن في المشهد السياسي العام، صار من الصعب اقناعهن بالرجوع الى البيت. هكذا انتبه رجال الدين الى انهم، بتعبئتهم النساء لاغراض سياسية، غدوا يواجهون نساء مؤهلاتٍ لاستخدام الأدوات السياسية لأغراضهن هن. وكان لتطورات ما بعد الثورة ان عزّزت هذه العملية. فالنساء شاركن في مظاهرات ومسيرات، وهتفن الاناشيد والشعارات، ومارسن التصويت وتعاظمن في قوة العمل. وخلال الحرب مع العراق وقفت نساء الطبقات الوسطى والعاملة في طوابير طويلة تنتظر الحصص المقننة، وهناك تبادلن الآراء وصُغن التذمر والقلق كما لو كن يؤسسن لغة الاحتجاج. فالمرأة التي كانت، قبل الثورة، غير معنيّةً بالقضايا النسوية، مُسلّمة بالمنافع التي وفّرتها لها التشريعات، اضحت ناشطة في الدفاع عن حقوقها وحقوق جنسها. واذا استمر العمل بالتديّن الذي طلبته الثورة، الا انه كفّ عن اقناع صاحباته بطيّ مطالبهن وحقوقهن. لقد فقدت الاصولية قدرتها على ان تكون افيون النساء، فعملت الثورة، ولو على نحو مفارق، على تحويل سلبيتهن فعلاً ايجابياً. وفي مواجهة الحاح النظام، طورت النساء استراتيجيات للتحايُل والمقاومة، ومن ثم انزال الهزيمة بالخصم، ودائماً لتحييد تأثيرات الأوضاع "الثورية" الجديدة عليهن والبقاء في المواقع والمهن التي شغلنها. وصار للمرأة حضور أكبر في الفنون والأدب. فمنذ 1979 ظهر عدد ملحوظ من النساء الكاتبات والرسامات والنحاتات والسينمائيات والمسرحيات. وهن، في نشاطهن المتنوع، جعلن يتناولن المشكلات والمصاعب التي يلقينها. وقد طوّرت النساء تقنيات في تحدي فصل الجنسين واستبعاد احدهما، فتركت الشابات خصلة شعر "كاكول" بالايرانية تظهر من تحت الشادور، واستعملن احمر الشفاه برغم تحريم شرطة الأخلاق له. وظهرت نسوة من داخل النظام، كفائزة هاشمي رفسنجاني، تقول ان الشادور مفضّل غير أنه ليس اجبارياً. وفي النهاية اضطر النظام الى الاعتراف بأن قدرته على حصر حيّز النساء وغزوه قدرةٌ محدودة جداً، اضطراره الى اعادة النظر. لكن هذه العملية لم تكن سهلة على النساء. فلكثيرات ممن قابلتهن الكاتبة، تطلّب الصراع المديد ضد الثورة تعديلات بسيكولوجية عميقة، وتغييرات في الحياة البيتية وفي فهم ادوارهن في العائلة والعمل والمجتمع. وتروي هلا اصفاندياري ان اللواتي قابلتهن اعلنّ، بلا استثناء تقريبا، ان النظام انزل بهن مهانات. بيد انهن احرزن حساً جديداً بأنفسهن كنساء. وقد تحصّل لهن ذلك عن طريق رفض الاذعان والامتثال، ولكنْ ايضاً عن طريق الصراع اليومي من اجل الحق في العمل، وتعلّمهن كيف يطورن استراتيجيات ملائمة لمقاومة الملبس المرفوض، والقتال في المحاكم دفاعاً عن حقوقهن في الطلاق. وبالنسبة الى نساء كثيرات من عائلات مهنية ومنتسبة الى الطبقة الوسطى، كانت ثمة مشكلة اخرى. فأزواجهن الذين كانوا ناشطين في الحكومة او في القطاع الخاص ابان العهد السابق، خضعوا للعزل او التقاعد، فيما صودرت اعمالهم وحيل بينهم وبين الفرص الجديدة. غير ان الاكتئاب الذي استسلم اليه كثيرون من هؤلاء بدا كمالياً وغير محتمل لنسائهم. ذاك ان الاخيرات مضطرات الى مبارحة البيت للعمل في سبيل تأمين أود العائلة واستمرارها. وهكذا، وفي انقلاب على الادوار التقليدية للجنسين، مكث رجال الطبقات الوسطى والعليا في بيوتهم بينما انتقلت مهمة الاعالة الى شريكاتهم. وهذا الانقلاب هو ما لم تندم عليه اي من النساء التي قابلتها الكاتبة. بل العكس هو الصحيح، اذ احسسن بالتحرر من التبعية للازواج او رجال العائلة، فيما بتن اشد استعدادا للتحدث عن اجسادهن واشد حرية. والنساء لم يلجأن الى التننظيم في ظل الشروط السياسية القائمة والكابحة. مع هذا اكتسبن احساسا ادق بحقوقهن، ما خلق لديهن شعورا جماعيا واحالهن الى ما يشبه مجموعة الضغط. وفي هذه العباءة الفضفاضة انضوت المتحدرات عن اسر تقليدية كن شاركن في المشروع الثوري ثم صعدن الى العمل في الوظيفة وفي دوائر الدولة ومنظماتها. وهؤلاء ايضا يرفضن الدور التقليدي ويبدين حساسية متناقصة حيال ابتزازهن بتهم التغرب او عدوى الأمركة. يبقى ان نساء ايران، كما تقول أصفاندياري، اشد اهتماماً بمضمون النسوية مما برموزها. على ان تحول نسوة تقليديات الى اجندة نسوية، وتنامي قناعتهن بأن لهن حقوقاً، يوحيان بتضاؤل التمييز بين حديثات وتقليديات، وبين نسويات وغير نسويات. وهذا الامحاء في الخطوط الفاصلة يشي بالكثير في ما خص حساسيات النساء، بل هو بعض السبب الذي حدا بالنظام ان يتراجع على العديد من جبهات المسألة النسائية، راغباً في الظهور بمظهر "تقدمي"، ولو مضى في اصراره على صواب سلوكه ونهجه القديمين. والحال ان شرط النساء ووضعهن في ايران الخمينية يبقيان شديدي التعقيد والتناقض، وهما كذلك بما يتعدى ما هو سائد من مادة مُنمّطة عنهن. فهن مضطهَدات. نعم. لكنهن شديدات الحضور في المشهد العام وشديدات التعبير والافصاح. وهن، الى ذلك، جزء عضوي من مجتمع مدني يعاود بناء ذاته على مبعدة من الدولة وعلى ضدية معها. فالنساء يُعتقلن ويُجلدن على ما يلبسن، وهن، في المقابل، يعملن ويصوّتن ويتمثّلن في البرلمان. واذا شجب النظام السياسة الملكية القديمة بحق النساء وقد اعدم الثوار المرأة التي احتلت في النظام القديم اول موقع وزاري، الا انه اضطر الى تبني الكثير من السياسات الاصلاحية حيال النساء التي رعاها النظام الشاهنشاهي. فالأخير، الى أوتوقراطيته، كان عصرياً في ما خص المرأة، محاولاً اكسابها حق التصويت عبر مداورة العواطف الرجعية التي وصلت الى الحكم اواخر السبعينات. وفي الحالات كافة، وفي موازاة "الثورة البيضاء" في 1963 التي اثارت انتفاضة الخميني الاولى ومعه المؤسسة الدينية المتذمرة من الاصلاحات وتقليص ملكياتها الزراعية، اختيرت ست نساء ليكن عضوات في البرلمان، ثم عيّن الشاه اثنتين أخريين في مجلس الشيوخ. وفي 1967 صدر قانون حديث في ما خص الاسرة وتنظيمها. والراهن ان التحولات انعكست على المؤسسة الدينية نفسها، فاذا بقي اكثرها رجعية، كالخميني، متمسكا بحرمان المرأة حقوقها، فان رجال دين كمرتضى مطهّري ومثقفين اسلاميين كعلي شريعتي باتوا مسكونين بالتوفيق بين الاسلام وبين نظرة جديدة الى دور المرأة في المجتمع. واليوم غدا الرئيس خاتمي يستشير "مستشارة لشؤون المرأة"، وهناك مكاتب تُعنى بهذه الشؤون في كل واحدة من المؤسسات الحكومية المهمة. صحيح ان النظام حاول ان يفرض على المجتمع سياسة بيوريتانية متزمّتة، لكن بنات الجيل الشاب، بمن فيهن سليلات الاسر التقليدية، بتن يبدين مواقف اشد تحررا في النطاق الجنسي. اما نساء الطبقات الوسطى والعليا "المتغربات"، فغدت مقاومتهن تضوي اليها نسوة البيوت التقليدية والمحافظة. والقصة، تختار الكاتبة ان ترويها من زاوية التجارب الفردية لصاحباتها، وهي، بتحديد أكبر، تركّز على "اعادة هيكلة" الحيوات من خلال المهن: كيف حافظت النساء على وظائفهن، وكيف بدأن أعمالاً جديدة بعد أن خسرن، لهذا السبب أو ذاك، الأعمال القديمة. أليس عمل المرأة أحد أبرز مقاييس حريتها؟ وحقاً نجحت النساء الايرانيات في ان يُعدن هيكلة حيواتهن رداً على الهيكلة التي عمل النظام على فرضها وفشل. ومن وهدة فشله هذا، بدأ صوت المرأة بالطلوع والارتفاع. × كاتب ومعلّق لبناني.