ليست عودة الكاتب والمخرج اللبناني - الكندي وجدي معوّض الى لبنان كمثل عودة "بطله" وليفريد الى "الأرض - الأم" التي قد تكون لبنان وسواه. وان حملت ملامح بطل مسرحية "ساحل" بعض الآثار اللبنانية "الاغترابية" فإن عودته الى أرضه الأولى انما تمّت بحثاً عن مقبرة صغيرة تكون بمثابة المستراح الأخير لوالده الذي مات في الوطن الآخر أو "الوطن بالتبني" كندا. انها المرة الأولى التي يقدم فيها وجدي معوّض عرضاً مسرحياً في وطنه الأول لبنان. ونجح في اختيار هذا العرض ساحل الذي يمثل بعضاً من وجوه المأساة اللبنانية: الهجرة والعودة، المنفى والإقامة، الحرب والهروب. فالكاتب والمخرج الشاب الذي تسميه الصحافة الأجنبية "لبنانيكندا" أو لبناني من كندا بات يمثل وطنه الثاني كندا في المهرجانات المسرحية العالمية علاوة على الحضور الذي يتمتع به في مونتريال وسواها، ككاتب ومخرج وصاحب فرقة مسرحية اسمها أوبارلور. غير ان "كندية" وجدي معوّض واطلالته العالمية لم تنسياه "لبنانيته" تماماً حتى وان كان لبنان بحسبه مجموعة ذكريات جميلة وأليمة في آن. أما الواقع اللبناني فهو ليس إلا تلك الأزمات المتفاقمة، وجودياً وانسانياً ولم يستطع الكاتب والمخرج أن يتحاشى آثارهاً. ولعلّ هذا ما تعبّر عنه مسرحيته الجديدة التي فاجأ بها الجمهور اللبناني الفرنكوفوني بعدما قدّمها في كندا وفرنسا. فالمسرحية هي مسرحية البحث عن الهوية سواء أكانت هوية الأب الميت الذي حمل الابن جثته وجاء بها الى الوطن الأول بحثاً عن مدفن أم هوية الابن نفسه الذي بات يشعر انه منقطع تماماً عن جذوره وربما "مقتلع" في منفاه الذي بات وطنه الأول والثاني معاً. لم يكن ويلفريد "البطل" في المعنى السلبي يحتاج الى ان يقتل والده على غرار "أوديب" سوفوكليس. فهو لم يتعرّف الى والده إلا ميتاً في "معرض" الجثث. وعندما بلغته وفاة هذا الأب المجهول كان غارقاً في لحظات الحب الحمراء وإذا الحب ينقلب موتاً وإذا الموت يصبح متاهة، متاهة البحث عن "الذات" الضائعة، عن الماضي الضائع وعن الهوية الضائعة. وعلى عكس هاملت، لم يشعر "البطل" الشاب بأي حاجة للانتقام لوالده. فمِنْ من ينتقم؟ الأم ماتت أصلاً في لحظات وضعه والأقارب مشتتون هنا وهناك. على أنّه قد يكون أقرب الى "أبله" دوستويفسكي ذاك الذي ظل والده سراً من أسرار حياته إذ لم يعرفه يوماً ولم يعرف له وجهاً. قد لا تخلو المسرحية من بعض نواحي السيرة الذاتية أو من بعض علاماتها. لكن "البحث" هنا جعل السيرة الخاصة سيرة شبه عامة. فالابن الذي يبحث عن قبر لوالد لم يعرفه إلا ميتاً يمثل جيلاً بكامله راح يتبدّى عبر أولئك الرفاق أو الأصدقاء أو "الممثلين" الذين وجدوا نفسهم بدورهم يشاركون في "البحث" وكأنهم يبحثون أيضاً عن آبائهم المجهولين. وان ظلّ المنفى منفى في المطلق والوطن الثاني "وطناًَ بالتبني"، فالأرض الأولى ظلّت بدورها أرضاً أولى لبنان المتوسطي أو الأرض - الأم في المطلق حتى وان بدت الحرب المأسوية اللبنانية أشبه بالخلفية التي ارتكزت الأحداث والمرويات إليها الجزء الثاني. وشاء وجدي معوّض أن يستعيد تلك "الحرب" التي لم يفهمها كثيراً ليعيد قراءتها ولينهي معها "حسبة" ما من غير أن يسمّيها أو يضيء الغازها ومتاهاتها. وهو لم يدفع ببطله الى العودة الى الأرض - الأم التي حلّ بها الخراب إلا ليسترجع هذه المأساة العامة من خلال المأساة الخاصة، مأساة المنفى الذي تظل محكومة به جثة الوالد الميت. والحيرة التي انتابت "البطل" حين علم بموت أبيه لم تفارقه حتى الختام: سأل في البداية أين يدفن والده في الأرض الثانية أم في الأرض الأولى الأم؟ وإذ لم يتم الدفن في أرض الغربة فهو لن يتم أيضاً في الأرض الأولى. فالبحر الذي طالما اختطف أهل الأرض سيكون هو المستراح الأخير. فالناس الذين أبقتهم الحرب في "الوطن" رفضوا استقبال "الغريب" ولو ميتاً. مقابرهم التي تغصّ بالجثث لا تتسع للجثة "الغريبة" هذه. و"الوالد" لم يصبح غريباً في نظر "الأحياء" هناك إلا بعدما غادر أو هرب بالأحرى فيما بقوا هم أو صمدوا. يطرح وجدي معوّض قضية شائكة جداً وأليمة وعميقة تتداخل فيها قضايا عدة: المنفى، الهوية، الاقتلاع، الموت، الماضي، الذاكرة، الحنين، الغربة... هذه كلها قضايا يعانيها "البطل" المزدوج الانتماء أو "اللامنتمي" في معنى ما. هذا "البطل" الذي يشعر أنّه من هنا ومن هناك وأنه ليس من هنا ولا من هناك. وكم ذكّر عندما وقف أمام القاضي في مطلع المسرحية ب"غريب" ألبير كامو الذي مثل أمام القاضي ليدافع عن "عبثية" وجوده و"عبثية" موت والدته. لكن ويلفريد، بطل وجدي معوّض، لن يدافع أمام القاضي عن نفسه ولا عن والده بل سيدافع عن الذاكرة التي سرعان ما عادت لدى وفاة الأب المجهول أي لدى سقوط احدى صور الماضي المجهول. وكان لا بد من أن يبدو ويلفريد أشبه ب"اللقيط" الذي لا أب له ولا أم، لكنه "اللقيط" الذي لا يستطيع إلا ان يكون ضحية، ضحية براءته أو "سذاجته" النقية، ضحية هذا القدر الذي جعله في حال من الاقتلاع الدائم. ولم يشأ وجدي معوض أن يبالغ في رسم ملامح هذا البطل السلبي ولا ان يضفي عليه هالة ثقافية بل جعله مجرّد موظف عادي أي مجرد انسان يجد نفسه وجهاً لوجه أمام نفسه وأمام ماضيه والذاكرة. غير ان النص الذي كتبه وجدي معوض غدا نصاً "مثقفاًَ" بامتياز وقائماً على ما يشبه "التناص" إذ وردت فيه جمل وأفكار من كتّاب عالميين يصعب احصاؤهم ومنهم على سبيل المثال: بودلير، دوستويفسكي، شكسبير، سوفوكل، فرناندو بسّوا، نيتشه، هلدرلن، هوميروس... على ان هذا "التناص" لم يثقل النص ولا العرض ذا "النفس" الملحمي أو شبه الملحمي. فالمخرج اعتمد في كتابة النص واخراجه لعبة تشبه كثيراً لعبة التقطيع السينمائي. فإذا الساعات الثلاث والنصف تمضي من غير ملل أو بطء ما عدا بعض المقاطع. وإذا المشاهد تتوالى برهافة مازجة بين الواقعية والتضخيم الغروتسك، بين المأساة والسخرية، بين اللعب والدرامية، بين الحقيقة والتخييل. هكذا حضر الأب الميت مثلاً في لباسه الأبيض وكأنه طيف من أطياف عالم شكسبير. وهكذا حضر القاضي و"فارس" الطفولة بسيفه الملوّن والفريق السينمائي والأقارب والأهل... والشخصيات الأخرى التي راح الممثلون يتبادلونها ويؤدّونها برشاقة وخفة وبراعة متنقلين بين السخرية والدراما والتضخيم والواقعية. نجح وجدي معوّض في الجمع بين مسرح النصّ ومسرح الحركة ومسرح الصورة. وبدت مسرحيته أكثر من مسرحية: الأذن تصغي الى الممثلين والعين تحدّق في حركتهم والمخيلة تلتقط تلك الصور التي تنبثق من أجسادهم، ومن أطيافهم، ومن ذلك الفضاء المسرحي الذي جعله المخرج فضاء أفقياً يلائم هذا "الساحل" وتلك الحركة، حركة البحث عن مقبرة للوالد الميت. فالذاكرة هنا ليست متجوّفة ولا محفورة عميقاً بل هي "منفلشة" أفقياً لأنها ذاكرة المكان الذي يبحث عن ذاكرته.ترى أليس "الساحل" هو ذلك الخط المرسوم بين الأرض والبحر؟ أليس هو المكان الوهمي أو اللامكان؟ لعل ذلك "الساحل" كان هو الخط الحقيقي الخط الفاصل بين الحياة والموت الذي كان لا بدّ من سلوكه للوصول الى النهاية التي لا تختلف عن البداية: مأساة "المقبرة" هي نفسها مأساة الولادة، مأساة العودة هي نفسها مأساة الخروج الى المنفى. "ساحل" عرض مسرحي مفاجئ حقاً في لغته الأدبية الراقية ولغته المشهدية وايقاعه السينمائي والصوري المتواصل والمتقطع. ومثلما نجح الكاتب والمخرج في صوغ ذلك العالم الشاسع والمفتوح على مصادفات الحياة والموت وعلى أسئلة الذات والهوية والآخر، نجح الممثلون في بناء عالم من الحركة والإيقاع وسط سينوغرافيا متقشفة جداً عبارة عن كراسٍ وسواها... ووسط تلك الموسيقى الحية التي تناغمت فيها آلات الشعوب غرباً وشرقاً الغيتار، العود، الطبلة.... وبدا الممثلون كأنهم ينتمون حقاً الى أعراق مختلفة لم تستطع صهرها الا تلك الطريق، طريق "الساحل" التي لم تؤدّ إلا الى مفترق الحلم والواقع، أي الى مفترق المأساة الإنسانية الكبيرة، أو الملهاة الإنسانية الكبيرة. عنوان المسرحية بالفرنسية Littoral وقدّمتها فرقة Oparleur الكندية على مسرح مونو بيروت.