كان لا بد للكاتب والمخرج المسرحي اللبناني – الكندي وجدي معوض من أن يختار مسرحية «أنتيغون» من ثلاثيته «نساء» التي كان قدمها في مهرجان أفينيون العالمي، ليلتقي بها وعبرها جمهوره اللبناني الذي شاهد العام الماضي مسرحيته «حرائق» في مهرجان سمير قصير. اختار «أنتيغون» من الثلاثية التي ضمت ثلاث مسرحيات «نسائية» للكاتب سوفوكليس، أبي التراجيديا الإغريقية، ومن ضمنها «ألكترا» و «نساء تراخيس»، بل كان عليه أن يختار هذه المسرحية التي تطابق المأساة التي طالما شهدها لبنان منذ اندلاع الحرب الأهلية، والتي دفعته ودفعت كثيرين مثله إلى هجر وطن الأرز وسلوك طريق المنفى. عطفاً على مطابقة هذه المسرحية أيضاً الأحوال المأسوية التي تعيشها بلدان عربية اختارت أن تعلن ربيعها العربي انتفاضاً على الظلم والطغيان، وفي مقدمها غزة الفلسطينية وسورية والعراق. في كل بلد من هذه البلدان نسوة لا يحصين يحملن اسم أنتيغون ويجررن وراءهن جثث أمواتهن، وفيها أيضاً إخوة يتقاتلون حتى الموت، وجميعهم يدعون «بولينيس» و «إيتيوكليس»، وفيها كذلك طغاة قساة ومتعنتون يدعون «كليون». إنها مأساة سوفوكليس الشهيرة التي قدمت على مسارح العالم في شتى اللغات، جعل منها وجدي معوض مرآة لمآسي العصر الراهن ومرآة لمأساته الشخصية التي يتمثل وجه منها في هجره بلاده باكراً في ما تعني البلاد من ذات وانتماء أو هوية. يتحدث وجدي معوض دوماً بحماسة وشغف عن الأثر الذي تركته فيه مآسي سوفوكليس التي سيقدمها كلها ضمن مشروع مسرحي ينتهي العام المقبل، ويحمل رؤيته الإخراجية إليها ومقاربته التأويلية والجمالية لأحداثها ووقائعها ورموزها. وكان سوفوكليس أحد الكتاب المأسويين الذين قرأهم باكراً، وتماهى بهم، هذا المخرج والكاتب الشاب الذي أصبح عالمياً وهو لم يتجاوز السادسة والأربعين من عمره (مواليد 1968). وهو يقول في هذا الصدد: «كان من حظي أن أكتشف هذه النصوص في الوقت الملائم. لم أعش المأسوي في كل ما تعني هذه الكلمة، لكنني لامسته من غير أن أدري». ويرى في ما يشبه السؤال، أنه لو بقي في لبنان ولم يهاجر، لكان التحق ربما، بإحدى الميليشيات التي ارتكبت المجازر. ويصف المأسوي وصفاً هو أشبه بالبرق الخارق قائلاً: «المأسوي هو ضوء مؤلم يكشف للناس العماء الذين هم فيه». لعل قراءة العرض المسرحي «أنتيغون» كما قدمه إخراجياً وجدي معوض تفترض مثل هذا المدخل، فأعمال سوفوكليس وفق هذا المخرج، ليست مجرد أعمال تقدم، ثم تعبر وتُنسى مثل أعمال كثيرة، بل هي تملك صفة الحدث الفني والثقافي وتمثل موقفاً وجودياً في سياق بحث المخرج عن أجوبة لأسئلة يطرحها دوماً على نفسه. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يؤدي معوض كممثل شخصية «هيمون»، الضائع بين حبه القوي ل «أنتيغون» والخوف من سلطة والده الطاغية «كريون» الذي كان يكرهه ضمناً. وانتهى به ضياعه إلى الانتحار بالسيف وفاء لحبيبته «أنتيغون». وحال هذا الضياع لا يخلو من بعد فلسفي وصراع داخل الذات وفي اللاوعي، فالأب وإن كان طاغية يظل هو الأب والحبيبة لا يمكن إلا الاستسلام لقدرها. خشبة وممثلون شاء وجدي معوض المسرح شبه خال من التفاصيل الكثيرة ليتيح كعادته للممثلين أن يملأوا الخشبة بأنفسهم، بحركاتهم وأجسادهم وحواراتهم الذاتية والمتبادلة، مؤدين أدوارهم أو شخصياتهم ومجسدين العلاقات التي تجمع أو تفصل بينهم، عائشين لحظات المأساة وتفاصيلها بأرواحهم كما بالجسد والعصب. سينوغرافيا شبه «فقيرة»، ولكن شديدة التعبيرية تقدم فكرة المكان التراجيدي: خلفية هي أشبه بالجدار الذي يتبدل مع تبدل المشاهد، أدوات قليلة، تراب وماء يميلان إلى الحمرة التي هي حمرة الدم، وتفاصيل أخرى تحضر حضور الإشارات. وعلى هذه الخشبة أطل الممثلون وكأنهم معاصرون لنا من دون أن يتخلوا لحظة عن ماضيهم التراجيدي الإغريقي، ومن غير أن يقعوا في لعبة «التغريب» التي قد تشير إليها فرقة «الكورس» أو ما تبقى منها والتي اختصرها المخرج في حضور العازفين والمغني الذين كانوا يمثلون في آن واحد. وقد عزف أحد الممثلين – الموسيقيين الثلاثة على الغيتار (برنار فاليز) وآخر على «الباص» (باسكال هومبير) وآخر على «البركيشين» (غيوم بيرون) ومعهم المغني الرائع برتران كانتا، مؤدين جميعهم دور الكورس. وقد يبدو اختيار وجدي معوض موسيقى الروك في صيغتها الفرنسية ضرباً من ضروب الاختبار المسرحي، والهدف عصرنة نص سوفوكل وفتح أبوابه أمام الذائقة الجديدة، إلا أن أداء هذا الكورس الموسيقي والغنائي غدا فعلاً عنصراً من العناصر الدرامية الباهرة في العرض، بخاصة أن المغني برتران كانتا حلق في غنائه كلام الكورس السوفوكلي. ومعروف أن هذا المغني الشهير الذي كان أسس فرقة الروك الفرنسية القديرة «الرغبة السوداء» كان عاش مأساة «إغريقية» بعدما أقدم مرة على ضرب حبيبته الممثلة الفرنسية ماري ترينتينيان، ما أدى إلى وفاتها لاحقاً ودخوله السجن متّهماً بقتلها وهو لم يتعمده طبعاً لكن القدر أوقع به في الفخ. وعندما اختاره معوض ليشارك في ثلاثيته عند تقديمها في مهرجان أفينيون وسواه قامت ضده حملة عنيفة فاضطر إلى اعتماد صوته من دون حضوره شخصياً على الخشبة. غير أن كونتا بدا كأنه يؤدي دوراً عاشه بروحه وقلبه، فكلام الكورس الذي يغنيه، والذي ساهم في تلحينه مع آخرين ينطلق من عمق الجرح التراجيدي الذي هو أساساً جرح البطلة «أنتيغون» وقد استحال جرحاً نازفاً في جسده. مغن رائع، ساحر بصوته وموسيقاه، وبإطلالته الحية على خشبة حالاً من الصراع الفردي والجماعي، وأحوالاً من الضغائن والثورة والحب والتمرد. بطلة سوفوكليس إنها أنتيغون إذاً، أنتيغون سوفوكليس كما صاغها وجدي معوض، وليست أنتيغون جان أنوي ولا جان كوكتو ولا برتولت بريشت... أنتيغون التي شاءها المخرج تخفي في ثنايا روحها بعض ملامح الأنتيغونات اللبنانيات والعربيات والفلسطينيات خصوصاً. لكنه لم يعمد طبعاً إلى «إسقاط» مأساتها على الواقع اللبناني والعربي، بل هو تركها كما ارتأى صورتها الإخراجية في أفينيون جاعلاً منها مرآة يرى فيها الجمهور اللبناني هواجسه ومآسيه. هو العرض نفسه مع بضعة اختصارات تلائم مسرح بيت الدين وليله وهواءه الطلق. إنها أنتيغون (شارلوت فارسيه) التي تطل بملابسها الداخلية في أحيان كثيرة، أنتيغون التي عراها القدر وجعلها تواجه سلطة الطاغية كريون (باتريك لوموف) الذي تحدى آلهة مملكة «طيبة» وكسر مبادئ الديانة الإغريقية بعدما استولى على السلطة. كانت أنتيغون تصر على دفن جثمان شقيقها بولينيس الذي مات في المعركة التي خاضها مع شقيقه (شقيقها) إيتيوكليس الذي مات أيضاً في هذه المعركة التي كانت بمثابة تحقيق للعنة التي أطلقها والدهما أوديب عليهما عندما اكتشف أنه قتل أباه وتزوج أمه وأنجب منها هذه العائلة المؤلفة من أنتيغون وشقيقتها إيسمن والشقيقين اللذين تقاتلا ومات كلاهما. تطل أنتيغون ومن حولها عدوها الملك كريون الذي رفض أن يدفن جثمان بولينيس ورماه خارج أسوار المملكة لتلتهمه العقبان على خلاف ما فعل بشقيقها إيتيوكليس الذي كان حليفه في المعركة، والذي أقام له مأتماً مهيباً. لكن معركة أنتيغون التي جرت وراء جثمان شقيقها ستنتهي بها أسيرة في مغارة عقاباً لها على عصيان أمر الطاغية، وهناك تقدم على شنق نفسها... ومن حول أنتيغون على الخشبة يطل أيضاً الحارس (أوليفييه كونستان) وشقيقتها إيسمن (سارة للوركا) والعراف الأعمى الحكيم تريزياس (فيرونيك نورداي) الذي يحذر كريون من غضب الآلهة ومن الخراب الذي ينتظر أسرته... نجح وجدي معوض في ترسيخ البعد الغنائي ذي المنحى الوجودي الذي تضمره أصلاً مأساة «أنتيغون» وفي الجمع بين موسيقى الروك الحديثة والمناخ التراجيدي الإغريقي الذي عصرنه من دون أن يمس جوهره، وبدا عرضه شبه الاحتفالي عرضاً كلياً مفتوحاً على الجماليات المشهدية، سينوغرافيا وإضاءة وأبعاداً هي بين المتخيل والطبيعي. إنها «أنتيغون» وجدي معوض، هذا المسرحي الدائم التجدد، القلق، الشغوف، والمصاب ببرق القدر المسرحي.