} الكتب الصادرة عن أفغانستان في اللغة العربية ليست قليلة. الكاتب المصري يوسف القعيد يعرض هنا لحفنة من هذه الكتب مركزاً على مسألة "الشخصية الأفغانية وعزلتها": لا يكتبون عنه سوى أنه أكثر شعوب الأرض فقراً. أما الشخصية الأفغانية وعلاقتها بالمكان الأفغاني والزمان الأفغاني. فلم يتوقف أحد طويلاً أمامها بالاستقراء والتحليل والدراسة. من أجل الوصول إلى بعض هذه الملامح. تقول عفاف السيد زيدان الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر، وقد عاشت فترة من عمرها في أفغانستان. ودرست في جامعة كابول وحصلت على الدكتوراه منها، تقول في كتابها عن شاعر أفغانستان المعاصر خليل الله خليلي 1981 عن مناخ أفغانستان وانعكاسه على الشخصية الأفغانية: فإذا كانت الطبيعة الأفغانية بكل مكوناتها لا تعرف الاعتدال وإنما تجنح إلى التطرف وعدم التوسط فإن الإنسان الإفغاني صورة من صور طبيعة بلاده. لا يعرف التوسط أو الاعتدال. فهو إما مقلد جامد يرسف في أغلال العادات والتقاليد القديمة، وإما حر منطلق ينزع نحو الابتكار والتجديد، وهو صديق وفي يضحي بكل شيء في سبيل نصرة صديقه وعونه. واما عدو يقتنص كل فرصة وكل سبب حتى يروي ظمأ غضبه ويطفئ نار ثأره. وقد انعكست طبيعة البيئة الجغرافية أيضاً على طبيعة السكان ونشاطهم. فالقاطنون للجبال مثلاً يختلفون عن سكان ضفاف الأنهار، وأهل البدو يختلفون عن أهل الحضر وسكان المناطق القاحلة لا تؤهلهم ظروفهم لحياة التحضر والتمدن. بينما يملك سكان المناطق الغنية كل عوامل الرقي وأسباب التقدم. وقد أثرت وعورة المسالك والطبيعة الجبلية على وسائل الاتصال وبين الناس. حتى كان، أن ينعدم هذا الاتصال مما جعل الشعب الأفغاني ينقسم إلى عشائر وقبائل، كل عشيرة تحتفظ بعاداتها وتقاليدها، ولغتها وثقافتها. أما محمد أماني صافي وهو أفغاني فيكتب في كتابه "أفغانستان والأدب العربي عبر العصور" 1988: الأمة الأفغانية تعشق الحرية الفردية وتقدس حرية الوطن وفي سبيل الحرية يضحي الأفغاني بكل غال ونفيس. ويشتهر الأفغاني بجانب الشجاعة، والبسالة، والفداء والتضحية بتمسكه الشديد بدينه الحنيف وخير مثال لتقديس الأفغان لمعاني الحرية والاستقلال، تراه في تلك الرسالة السامية التي حملها السيد جمال الدين الأفغاني إلى العالم. حين انطلق حاملاً راية الحرية يجاهد في سبيل يقظة الشعوب الشرقية والإسلامية، وينفخ فيها من روح الجهاد والنضال، ويحرضها على طلب الحرية، والتفاني في سبيل الحصول علىها، وقد رأى العالم كله كيف باءت بالفشل المحاولات التي بذلها المستعمر لطي بلاد الأفغان تحت نفوذه وسيطرته، ففنيت له جيوش بأكملها في غزواته المتكررة في بلاد الأفغان. محمد السعيد عبدالمؤمن، الأستاذ في جامعة الأزهر والمعار حالياً إلى المملكة العربية السعودية، خصص فصلاً عن الشخصية الأفغانية في كتابه: "أفغانستان التاريخ. الجغرافيا. الإنسان. الشعر" 1997 يكتب فيه: أن طبيعة الأرض الأفغانية وطبيعة السكان الذين عاشوا علىها آلاف السنين قد مكنتهم من امتصاص العوامل التي تؤدي إلى قيام ظواهر حضارية في مختلف مظاهر النشاط البشري. وقد بقيت هذه الظواهر قائمة بعد انتشار الإسلام، وكان فضل الإسلام عظيماً على هذه البلاد. فقد ساعدهم على بلورة هذه الظواهر وتهذيبها وتأطير الشخصية الأفغانية التي وجدت نفسها من خلال هذا الدين العظيم، حقيقة أن الناس لم ينسوا أبطالهم القدامى ولا ما تناقلوه جيلاً بعد جيل من تراث شعبي وحضاري واعتبروا كل ذلك دليل مجد قديم، إلا أن نور الإسلام قد جعلهم ينظرون إلى ذلك الماضي كتجارب يمكن الاستفادة منها في تحقيق مجد حديث، ولعل سر تمسك الأفغان بذكريات الماضي وقصص الأبطال القدامى يكمن في اعتقاد الأفغان بأن ذلك يؤثر تأثير إيجابياً في وحدة هذا الشعب وتماسكه وتشبثه بأرضه ووطنه وصموده في وجه رياح الأحداث وتقلبات الزمان. ان ارتباط الأفغاني بماضيه العريق ليس محصوراً بذلك الماضي السحيق أو عصر ما قبل الإسلام بل أنه يعتبر أصالته الحقيقية تبدأ منذ دخوله الإسلام، يؤكد مانيارداون أن الشعب الأفغاني لا يعنيه أن ينظر الأجنبي الغريب إلى أجمل ما فيه وهو لا يخفي أقبح ما فيه، ولا يهمه أن يطلق الأجنبي لسانه بما يراه صالحاً للنقد. ذلك لأن صورة الشعب تمثل في أكمل وضع طابع الرجل الواثق بنفسه المطمئن إلى قوته، ولا يعني الشعب الأفغاني أن يرقب الزائر الأجنبي البيوت المشيدة من الطين ولا الطرقات المتربة ولا الأزقة الضيقة لأنه يعرف أن هذه هي صورة الماضي المجيد، وهو ينظر إلى هذه الحقائق على أنها الدعامة التي تمكن من الوثوب للمستقبل. ويبدو أن هذه الثقة بالنفس التي يلمسها الأجنبي لدى الأفغاني ترجع إلى قدرة الأفغاني على الصمود والتحمل والعناد والإصرار الذي يغذيه الإباء والشمم. وقد عبر الشعراء الأفغان عن هذه الخاصية في الشخصية الأفغانية أصدق تعبير ونادراً ما نرى شاعراً أفغانياً لم يلمس هذا الجانب من الشخصية الأفغانية في شعره إذ أنها من الميزات التي تميزهم عن غيرهم من الشعوب. ويستطيع الدارس أن يدرك آثار هذه الخاصية في الشعب الأفغاني على أفكاره ومعتقداته وسلوكه، وقد تنبه عبدالحميد عبدالغني إلى ذلك الأمر، فقال في كتابه: رأيت في أفغانستان إن الأفغاني يعتقد في قرارة نفسه أنه من أرقى الشعوب ومن أقواها جسماً وأصفاها طبعاً وأذكاها فؤاداً. ويرى أن تأخره عن ركب الحضارة لا يرجع إلى نقص في طبعه بل إلى الوضع الجغرافي لبلاده مما عزلها عن العالم وراء جبالها الشماء وتعرضها للكثير من الغزوات الأجنبية. أن إدراك مؤثرات البيئة الجغرافية في عادات الأفغاني وتقاليده في شخصيته وملابسه وحتى في طريقة تفكيره أمر مهم، إذا أن الطبيعة الجبلية للبلاد والبقاع الصعبة فيها تمثل مشكلة حقيقية في بناء الطرق وتوفر وسائل المواصلات، وهذا النقص في وسائل الاتصال والنقل جعل الانتقال والتجول والتلاقي وتبادل الأفكار والعادات أمراً صعباً مما ساعد على بقاء الأفغاني داخل قبيلة أو عشيرة تعيش كل منها غالباً حياة منعزلة، محتفظة بعاداتها وتقاليدها وتراثها وثقافتها، ولقد كان من فضل الإسلام على سكان هذه البلاد أن اختلاف الأجناس أو صعوبة الاتصال لم تفصل بينهم بشكل حاد حيث وحدهم الدين الإسلامي وأصبح مصدر عاداتهم. وقد حاول الأستاذ محمد عبدالفتاح إبراهيم في كتابه "الطوابع الثقافية الشعبية في أفغانستان" أن يلخص العناصر الإسلامية التي تحتويها الشخصية الأفغانية، فقال: الأفغاني يعنى بالجوهر لا بالمظهر، وهذا الاهتمام بالجوهر قد انفلت من الجماد إلى البشر. فالأفغاني نفسه جوهره غير مظهره، فهو قد يبدو رجلاً جافاً يتوجس خيفة من كل أجنبي على حين أنه لا يزال على فطرته الأولى لم تفسده الحضارة، مضيافاً كريماً وفياً شجاعاً مؤمناً. لا تخيفه الأحداث ولا يتردد لحظة عن مواجهة الأخطار في سبيل عقيدته أو في الدفاع عن أرضه، وفي الأفغاني أنفة وشمم. ومن النادر أن يقابل الزائر لأفغانستان حتى في المناطق الجرداء القليلة الانتشار متسولاً. والأفغاني يموت جوعاً ولا يرضى أن يمد يده للناس يسألهم عطاء، والأفغاني متسامح عند الشدة، وشديد الإيمان والتدين، وفي الناس تقوى، والحجاب في الطابع الشرعي الأصيل من تقاليد المرأة بالإضافة إلى ما يتوافر لها من خفر وحياء. ويؤكد أبو الحسن علي الندوي في كتابه "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية" هذه النقطة عندما يقول: "أن العلماء خلعوا الملك أمان الله خان عن عرشه لأنه سمح لعقيلته أن تخرج سافرة" صلاح الدين حافظ له كتاب: "أفغانستان الإسلام والثورة" 1987. عندما يتوقف أمام الشخصية الأفغانية يكتب: ومن خلال نظرة واسعة الزوايا للتاريخ الأفغاني، يمكن رصد ملاحظات مميزة عدة مثل: أولاً: كانت بلاد الأفغان وما زالت، تقع في منطقة مفصلية بالتعبير الاستراتيجي، الأمر الذي فرض علىها أن تكون ممراً يربط شعوباً وحضارات وإمبراطوريات متناقضة متصارعة، ولذلك تعرضت لغزوات وحروب وقلاقل شديدة، صبغت تاريخها بسيول من الدماء. ثانياً: على رغم الغزوات الأجنبية الكثيرة التي تعرض لها الشعب الأفغاني، عبر العصور القديمة والحديثة على السواء، ظل محتفظاً بخصائصه العرقية ومميزاته البشرية والثقافية والحضارية... لم يذب في الآخرين، كما أنه ظل يلفظ الآخرين. ثالثاً: فرضت الطبيعة الجبلية الوعرة، على الأفغان استمرار حياة القبيلة، بكل ما يصاحبها من استقلالية الإدارة والإرادة معاً. فظل - حتى الآن تقريباً - دولة من القبائل، أكثر مما هو شعب متناسق منسجم. رابعاً: في ظل كل هذه الظروف الطبيعية والبشرية والضغوط الداخلية والخارجية، يمكن القول أن الاستقرار التاريخي بمعناه المنتظم وشكله المستمر، كان نادر الحدوث في أفغانستان، بل على العكس، يعتبر التاريخ الأفغاني سلسلة من الثورات والفورات، أو من القلاقل والاضطراب، فلا دولة استمرت، ولا نظم حكم طال به الاستقرار ولا حاكم عمّر. ولو تعمقنا قليلاً في البحث عن الأصول العرقية لهذه اللوحة البشرية، لاكتشفنا حقائق عدة منها على سبيل المثال لا الحصر: أن سكان أفغانستان، ليسوا شعباً متكاملاً منسجماً من حيث أصوله العرقية، بل هو على الأرجح مجموعة أصول عرقية مختلفة تعايشت على هذه الأرض وفرضت علىها الظروف الطبيعية والتاريخية، حتمية تنسيق مصالحها، اما دفاعاً عن مصالحها الذاتية، وإما لمواجهة مخاطر الغزو الخارجي المتكرر. لذلك يميل كثير من المحللين، إلى اعتبار الدولة الأفغانية، بمثابة تجمع قبلي، أكثر منه شعباً انصهرت أصوله في بوتقة واحدة.