قد تؤدي محاولات المتخلفين لأن يتقدموا الى انصرام كل شيء كان قائماً في أوطانهم، وذلك عندما لا يفكر من يدعي الاصلاح في اكتساب مؤهلات عصرية، وإنما يلتقط أية عقيدة أو نظرية محتكراً لنفسيه حق فهمها وتفسيرها ومتخذاً منها علماً يرفعه ليجمع من حوله الناس طوعاً او كرهاً ليحولهم الى مطية تحمله الى حيث السلطة المطلقة، وتسهل رحلة المغامر نحو السلطة اذا ما عمد الى رفع شعار العقيدة التي يعتنقها الناس وذلك إذ تصبح مهمته قاصرة على احتكار فهم العقيدة وتفسيرها من دون ان يتحمل عبء اقناع الناس باعتناقها. هكذا فعلت جماعة طالبان في افغانستان وفعلت ذلك من قبلها فئات افغانية اخرى لا تزال تناصبها أشد العداء. واليوم تتحكم "طالبان"، ربما قائدها وحده، في رقاب الغالبية الساحقة من الافغان بأكثر الاساليب تخلفاً في فهم الاسلام وأشد وسائل القهر والبطش والاذلال، وتقدم الطلبان للعالم المسلم نموذجاً غير جدير بالاحتذاء، وتؤكد لعالم الغرب كيف يمكن ان تحيل اعدل تعاليم الدين وأكثرها سماحة جماعة تعتنقها الى طغاة يحترفون القتل والقهر لا يتقبلون شيئاً من حضارة العصر سوى البنادق والمدافع والمتفجرات. لكم هي كئيبة ومحزنة صورة حكم طالبان اليوم في افغانستان، أنها صورة جماعة خفية لا يظهر منها إلا بضعة رؤوس أعادت شعبها الى الوراء قرون عدة لدرجة انها منعت النساء من التعليم، فيما يتدافع الناس تحت سلطتها البالغة القسوة جوعى ومتنازعين، فما الذي حدث وأوصل البلد المسلم الذي كان آمناً حتى في ظل سيطرة الأجانب، الى ما وصل إليه؟ لقد كانت افغانستان على الدوام البلد الجبلي القاسي الطبيعة النادر الموارد لكن شعبها عاش حياة عصره بأقل قدر من المآسي والمعاناة، وواصلت البلاد في تاريخها الحديث الاستفادة من المنافسة، بين روسيا وبريطانيا منذ عقدهما لمعاهدة 1879، التي أبقت البلاد منطقة عازلة بين الامبراطورتين. ونحن، إن عدنا بالتاريخ قليلاً للوراء سنجد أن النزاعات الاهلية المسلحة لم تتوقف منذ أن تأسست الدولة الأفغانية على يد أحمد شاه دراني العام 1747. ولكن وما أن اصدر الملك زاهر شاه العام 1963 دستوراً، وأقام برلماناً منتخباً وذلك في محاولة للتقدم بنظام حكمه حتى عاجله ابن عمه داوود خان بإنقلاب ألغى به الملكية وأعلن نفسه رئيساً للجمهورية، ولما كان انقلاب داوود خان عسكرياً، كما هي انقلابات العرب كان لا بد ان ينقلب عليه من انقلبوا لمصلحته وقد حدث ذلك فعلاً لتنتهي السلطة الى افراد هم آخر من يملك مؤهلات حكم قويم، وهم العساكر الماركسيون. حدث أن عجز اولئك الجنرالات الافغان الماركسيون عن السيطرة على الحكم في البلاد فعبرت جحافل السوفيات الحدود في 27 كانون الثاني يناير 1979، لكن ولأن الشعب الافغاني لم يتعود على قبول الاحتلال، ولعلها ليست ميزة في بعض الاحوال، فقد قاوم الجيش السوفياتي تسع سنوات كاملة حتى دفعه الى الانسحاب الذي تم في 15 شباط فبراير 1989 مخلفاً وراءه ما لا يقل عن مليون افغاني سكان قبور وبضعة ملايين لاجئين في باكستان وايران. لقد اشتعلت حرب أهلية بين جماعات تدعى كل منها انها الممثلة الشرعية للاسلام والمؤهلة للحكم باسمه، فبدا الأمر وكأن العقيدة السماوية لا تسعف المتخلفين فهم قد تناولوها كما يتناول البعض مصحفاً يرفعه ليعلن عن تقوى ليست فيه او عن ايمان لا يرى فيه إلا وسيلة لتحقيق الأغراض، هكذا ظهرت فئات مسلمة نصّب كل منها نفسه وصياً على الدين الحنيف وتقاتلوا واسالوا دماء بعضهم البعض منافسة على السلطة والصولجان. ولم تفلح في إقامة تصالح بينهم محاولات المسلمين ولا المسيحيين. وبعد قتال مرير لم يتوقف نجحت فرقة طالبان في الاستيلاء على أكبر مساحة من البلاد، وذلك بمساعدة من باكستان التي لها أهداف تتعلق بمصالح قبائل البوشتو. ومع سيطرة طالبان على ما سيطرت عليه لا تزال فرق أخرى كامنة في أجزاء من البلاد تواصل القتال في ما بينها وضد طالبان، الأمر الذي لا يشير الى احتمال استقرار سلطة واحدة في افغانستان في أي مستقبل منظور، ولو كانت سلطة قهر وارهاب. والواقع ان طالبان لم تكتف من الغنيمة بالتحكم في رقاب العباد الافغان، ولا بما تواصله من جهاد ضد فئات افغانية أخرى، بل انها استسغت عل ما يبدو القيام بدور جهاد عالمي. إذ شرعت في استضافة كل إسلامي يحارب اميركا بإلقاء القنابل والمتفجرات على مواطنيها من المدنيين وكأن حكومة طالبان انجزت بلداً حراً متقدماً ومتحضراً وفرغت من اعظم مشاريع التنمية والبناء، فإن لها ان تنصرف الى هزيمة الغرب الكافر وعلى رأسه اميركا عدوة الاسلام. إن اللعب بمصائر الشعوب تحت أي شعار ولو كان الدين، يبقى لعباً ولا يستحق غير ذلك من الاوصاف. والسلطة الحاضرة في افغانستان هي سلطة لاعبة بحريات الناس باسم الاسلام ومنصرفة بمغامراتها الى تعريضهم لمخاطر شتى، باسم الدفاع عن الاسلام. وليس أدلّ على لعب طالبان الهازل، من ذلك التحذير الذي وجهه قائدها اخيراً الى الشعب الا ميركي من أن عداءهم طالبان سيعرضهم لغضب الله الذي يسلط عليهم الاعاصير والرياح والكوارث. ولم ينس القائد الافغاني ان يذكّر الرئيس كلينتون وشعب اميركا بما لحق ببلادهم أخيراً من كوارث الأعاصير قائلاً إنه إنذار ستتلحق به كوارث أشد وأنكى. لقد حدث للأفغان ما كان قد حدث لبلاد عربية، بلاد كانت لها نظم سياسية ليست المثل الجيد المطلوب ولكن أجمل ما فيها رغم القبح أنها كانت تسمح بولادة الجديد، كان ملوك ما قبل الجمهوريات العسكرية وما قبل العسكر المسلمين أقل وطأة من الحكام الجدد الفاتحين، إذ كانت ولادة جنين الدولة العصرية الديموقراطية من رحم حاكم ملكي في افغانستان هي أمر غير بعيد الاحتمال. إن جماعة طالبان لم تتناول الاسلام إلا على انه طقوس تؤدى ومآزر ترتدى وقرآن يردد، وهي تبدو كأنها لا تملك فوق شهوة الحكم إلا انجاز نموذج أشد ما يكون تخلفاً للاسلام. وليست الامور تقف عند حدها هذا، بل إن نموذج طالبان يستهوي قسماً من المسلمين ويحرج قسماً آخر. فالقسم الذي يستهويه ذلك النموذج يبذل كل جهد لمعاونته، فيما يواصل القسم المصاب بالحرج مناصرة النموذج على نحو "انصر أخاك ظالماً" واجداً في حكاية علاقة اميركا بالمجاهدين الافغان عند حربهم للسوفيات مبرراً لمعاقبة الاميركان الذين كانوا السبب في اطلاق عقال العنف في افغانستان. والحق انني لو كنتُ لا أخشى الاتهام بالعمالة للامبريالية الاميركية لقلتُ إنه وإن كان هدف الاميركان من اطلاق عنف الافغان هو هزيمة السوفيات وإخراجهم من البلاد، إلا أن انجاز ذلك الخروج يظل حسنة رغم النتائج التي وصلت اليها في ما بينها فئات الافغان. نعم للاميركان اهداف تخصهم في شأن ما قدموه للأفغان، لكن شروع فئاتهم في التقاتل في ما بينها بعد خروج السوفيات هو امر لا يتحمل مسؤوليته إلا الافغان، أما ما تمارسه سلطة طالبان من تطبيق أفكار متخلفة لا يقرها فهم عصري للدين الحنيف وما تتمسك بتنفيذه من العقوبات الاسلامية على شعب جائع مريض موزع بين المقابر وحدود الجيران، فليس سوى ممارسة لقهر متخلف ورؤية بدائية للإسلام. ترى ما الذي يمكن قوله في سلطة تقوم الى جانب ممارسة حكم لا مرجعية إلا فهم القائد ولا سماح فيه بأي حرية لأي نقاش، بزراعة المخدرات والمتاجرة فيها على أوسع نطاق معبرة عن ايمانها بأن غاية البقاء في السلطة تبرر أية وسيلة. على كل حال، ربما كان الشعب الافغاني اكتسب قدراً غير معتاد من الصلابة و لا صرامة من طبيعة بلاده الوعرة ومن تاريخه القديم الحافل بالصراعات، غير انه لا يصح لنا اتخاذ هذا الامر مبرراً لما يجري فيه. وما يجري في داخل البلاد مأساة لأهلها، أما ما ينعكس على الخارج فهو إضرار بالغ بالمسلمين في كل مكان. إن أسلوب الحكم المرتبك وممارسة القسوة على الناس وحرمانهم من ملاحقة حضارة العصر، ولو في أضيق نطاق، وسيطرة أناس غير مؤهلين على مصيرهم، لأمر محزن وكئيب ويجب أن لا يثير فينا غير مشاعر الرثاء. أما عن النشاط الذي تقوم بها طالبان خارج حدودها، من مثل تشجيع جماعات للاعتداء على المدنيين، فإنه نشاط لا يؤدي إلى أية نتائج سوى قتل عدد من الابرياء. فلن يغير وضع القنابل في السفارات ولا إلقاء الصواريخ على المكاتب من سياسات اميركا ولا من سياسات غيرها ولن يجبر إلا مزيداً من اجراءات العداء لأفغانستان ولكل المسلمين وسيكرس لنا، في عالم يقفز الى الامام، خانة المتخلفين. ولعلنا، ونحن نعترف في النهاية بالحق في التكريم لمن يتزعم جهاداً في سبيل تحرير الوطن، نتساءل كيف يحق لمن يحررك او يساهم في تحريرك أن يرثك تركةً يفعل بها ما يشاء. ولذلك فإن استناد حركة مثل طالبان الى فعل التحرير مبرراً لوراثة مصير الشعب، هو أمر شبيه باستناد الانقلابيين عندنا الى فعل الانقلاب مبرراً لوراثة مصيرنا، والله خير الوارثين. * كاتب، رئيس وزراء ليبي سابق.