يروي عبدالله أنس في الحلقة الثامنة الأخيرة من تجربته الأفغانية قصة سقوط كابول وانهيار حكومة نجيب الله وانفجار الصراع بين المجاهدين على السيطرة على العاصمة الأفغانية. عندما خرج الروس في 1989 بقيت أمام المجاهدين التركة الثانية، تركة الشيوعيين وحكومتهم بقيادة نجيب الله. وهذا لم يكن رئيساً يُستهان به. كانت للرجل منذ أيام الجامعة وأيام الطلبة، هيبته ومكانته، حتى وإن كان شيوعياً. كان خطيباً مفوهاً وعلى جانب من الذكاء لا يستهان به كما يصفوه عارفوه. لم يكن شخصاً عادياً. فهو على رغم خروج الروس وما أحدثه ذلك من انكسار في معنويات الحزبيين الشيوعيين في أفغانستان، استمر في الحكم يقاوم ثلاث سنوات والبلد كله خارج عليه، مما يدل على انه لم يكن هيّناً وسهلاً، على رغم انه شيوعي وعلى باطل. لعب أوراقاً كثيرة: ورقة التفاوض مع باكستان مباشرة، وورقة إعلان وقف إطلاق النار من أجل حقن الدماء. وأعلن بعض المراسيم بينها إعادة الاعتبار إلى الدين الإسلامي والعمامة وتخصيص مساجد في كل المؤسسات الحكومية. لعب أوراقاً عدة سمحت له بالبقاء في الحكم ثلاث سنوات أخرى. لكن سقوطه في النهاية كان حتمياً. وشهدت الأيام والأسابيع التي سبقت هذا السقوط سباقاً بين مسعود ومبعوث الأممالمتحدة الذي كان يحمل طرحاً لحل المشكلة بإقامة حكومة موسعة يشترك فيها نجيب الله من الداخل بنسبة معينة، والقيادات الموجودة في الخارج بمن فيها المجاهدون الأفغان. ولقي هذا الطرح موافقة نحو 80 في المئة من مختلف الأطراف بمن فيهم غلب الدين حكمتيار. وطلب المبعوث الدولي من المجاهدين ان يعيّنوا ممثلين لحضور جلسات لتسهيل ترجمة هذه الفكرة التي كانت، من الناحية المبدئية، مقبولة ووافق عليها برهان الدين رباني ويونس خالص، لكن عبد الرسول سياف اعترض عليها ودخل جلال آباد بغية التحضير لمقاومة هذه الحكومة التي تأتي من الخارج. لكن حكمتيار ومحمد نبي وغيلاني ورباني كانوا موافقين عليها. في ذلك الوقت بالضبط بدأت الأنباء تأتي من داخل أفغانستان عن انهيار النظام في أيدي أحمد شاه مسعود. بدأ الانهيار في 15 كانون الثاني يناير 1992 عندما تمرد الجنرال عبدالمؤمن المسؤول عن المنطقة الحدودية حيرتان - الجسر الرابط بين الاتحاد السوفياتي ومزار الشريف والممر الذي تدخل منه معظم الإمدادات للنظام. كان المسؤول عن المنطقة. وقد أرسل اليه مسعود فوراً رسالة يقول فيها: "أنا فئتك التي تؤوي اليها"، أي اعتبر نفسك بحمايتنا. وبعد شهر سقطت ولاية سامنغان، الولاية الثانية في الشمال الأفغاني. وفي 18 آذار مارس هاجم المجاهدون ولاية مزار الشريف مستغلين الانهيار. وبسبب ذلك سقطت سامنغان وقبلها الجنرال عبدالمؤمن الذي كان يسيطرعلى ممر سالانغ، شريان الحياة الذي تصل منه الإمدادات إلى الحكومة الشيوعية حيرتان. وفي 20 آذار اجتمعت كل الفصائل في ولاية مزار الشريف وأعلنت سقوط الولاية نهائياً في أيدي المجاهدين. واستمرت الأوضاع على هذه الحال الى 11 نيسان ابريل، يوم تلقى نظام نجيب الله ضربة لا تقل خطورة عن تمرد الجنرال عبدالمؤمن. إذ سقط ممر سالانغ في يد مسعود. وهذا الممر كان شريان الحياة الثاني للنظام.، بعد حيرتان. بعد ذلك بثلاثة أيام سقطت قاعدة باغرام الجوية، أكبر قاعدة عسكرية في البلاد بيد مسعود أيضاً... وهكذا بات المجاهدون على بعد 70 كلم عن كابول. واكب هذه الأحداث كلها صراع رهيب في إسلام آباد على الحل السياسي بقيادة الأممالمتحدة وموفدها بينان سيفان. حتى أطلقت الصحافة الباكستانية آنذاك شعار من يسبق حصان بينان سيفان أم حصان أحمد شاه مسعود. وكان موفد الأممالمتحدة يسعى في تلك الفترة الى التوصل الى حل يقوم على الحصول على قائمة من خمسة أشخاص من داخل كابول، ومجموعة أخرى من الذين يعيشون في الغرب، ومجموعة من المهاجرين الذين يعيشون في باكستان. وكان الهدف من ذلك تشكيل مجلس يُشرف على المرحلة الانتقالية والغاية: 1- إعادة الأمن والسلم، 2- إعادة المهاجرين، و3- وضع مسودة لدستور أفغاني. وبدأ زعماء الجهاد في بيشاور حكمتيار، رباني، خاص، ومحمد نبي وغيرهم في الاتفاق على القائمة التي لم يعارضها سوى عبد رب الرسول سياف. "قررنا تسليمكم السلطة" بعد ذلك بيومين جاء عبد الوكيل، وزير خارجية حكومة الدكتور نجيب الله، في طائرة هليكوبتر واجتمع بمسعود وقال له: "قررنا تسليمكم السلطة. لكن لنا شرطاً واحداً، وهو أن تعتمدوا أحزابنا الشيوعية في ظل حكومتكم". فأجابه مسعود: نحن نجاهد 25 سنة من أجل ان نعترف بأحزاب شيوعية؟ نحن على أبواب كابول: إما ان تسلّموا السلطة وإما ان ندخل بالقوة. فقال عبد الوكيل: "أعطني فرصة يومين لأعود الى كابول وأناقش الأمر مع "الرفاق". وعاد بالفعل الى العاصمة في 16 نيسان، أي في يوم مجيئه نفسه. بعد المغرب جمع نجيب الله أعضاء حكومته وأبلغهم انه سيذهب الى مقر الأممالمتحدة في كابول ويلجأ اليه، معلناً تخليه عن الحكم في 16 نيسان. كنت أُتابع كل تلك التطورات من بيشاور باللاسلكي مع مسعود. لم يكن أحد يُصدّق ان الانهيار في كابول قد وقع. كنت أذهب الى الأصدقاء وأقوله لهم إن مسعود أخبرني بأن النظام سقط وانه على أبواب العاصمة، لكنهم يرفضون التصديق ويتهمونني بالمبالغة. طلب عبدالوكيل من مسعود أن يمهله يومين ليعود بالجواب. لكنه لم ينتظر يومين. ذهب في 16 نيسان وعاد في اليوم التالي مباشرة الى مسعود. وعندما نزل من الهليكوبتر رفع يده والبسمة على شفتيه. وقال لأسد بانشير: النظام الذين تقاتلونه استسلم لكم نهائياً. كنا ننتظر منكم ان تسمحوا لنا بأحزاب، لم نعد نريد ذلك. لم تعد هناك حكومة في كابول. وأخبر مسعود زعماء المجاهدين في بيشاور بأن النظام سقط. لكنهم كانوا يرفضون التصديق. وتحدث إليه باللاسلكي برهان الدين رباني ويونس خالص وصبغة الله مجددي. وقال لهم ان النظام "خلاص سقط" ولا داعي لكي تتابعوا جهودكم عبر الموفد الدولي. النظام في كابول يسلّم إليكم السلطة. لكن التنافس كان دائماً بين مسعود وحكمتيار، وهما الوحيدان اللذان كانا يملكان اتصالات داخل النظام. وعندما سمع زعيم الحزب الاسلامي بالخبر طار مباشرة الى لوغر، وهي ولاية حدودية مجاورة لكابول، على رغم أنه كان موافقاً في بيشاور على مناقشة مشروع تشكيل حكومة موسعة، ولم يكن يعرف ان النظام في كابول انهار. لذلك فوجئ وتوجه فوراً الى لوغر حيث كان هناك جنرال يرتبط به هو الجنرال رفيع. وسأله عن الوضع فأجابه "ان جماعة مسعود كانوا أول الداخلين الى كابول وقد سقط النظام في أيديهم ولا يمكننا أن نفعل شيئاً الآن". في تلك الفترة وصلت مجموعة من العلماء والدعاة من العالم الإسلامي، لأن الأمر عظيم وبالتالي قد يحدث اقتتال وفتن كبرى. جاءت المجموعة للمشاركة في تخفيف المفاسد التي يمكن ان تحصل. وقام اتفاق على تعيين صبغة الله مجددي رئيس حزب الانقاذ الوطني رئيساً موقتاً لمدة 60 يوماً، ويخلفه برهان الدين رباني لأربعة شهور. على أن يكون وزير الدفاع أحمد شاه مسعود، وحكتيار رئيساً للوزراء، والشيخ سياف وزارة الداخلية برئاسة أحمد شاه أحمد زي، ووزارة الخارجية لغيلاني. لكن حكمتيار لم يرض بالتشكيلة. وتوجه الى لوغر لعله يستطيع ان يُحرز نصراً بمفرده في داخل كابول. وعندما وصل الى العاصمة كانت الخطة التي اتفق عليها المجاهدون اهتزت، لأنها كانت تقضي بأن يدخل المجاهدون يداً واحدة الى كابول وتكون الوزارات السيادية قُسّمت بين الأحزاب الرئيسية. عندما وصل حكتيار الى لوغر كان وفد المصالحة يضم مجموعة من مشايخ العالم الإسلامي قد فشل في اقناعه. من 19 نيسان الى 23 منه أقام مسعود على مشارف كابول لا يريد دخولها فيكون ذلك سبب مفسدة بين المجاهدين. كانت ساقطة أصلاً ونجيب الله مقيم منذ عشرة أيام في مبنى الأممالمتحدة، والدولة بلا رأس ومستسلمة ترفع الأعلام البيض. وكان مسعود يحاول في تلك الفترة اقناع قادة المجاهدين بتشكيل حكومتهم. ظلوا 15 يوماً حتى صدّقوا أن العاصمة سقطت وشكّلوا حكومتهم. ودخل أول وفد كابول برئاسة صبغة الله مجددي في 27 نيسان. من 16 نيسان إلى 27 منه وكابول مثل العروسة تنتظر مسعود لكنه رفض دخولها لئلا ينفرد بالنصر لوحده. أراد ان يعطيه للمجاهدين في ساحة بيشاور وان يدخلوا كلهم متفقين يداً واحدة لئلا تسيل الدماء بينهم. فلو استفرد واحد منهم بها لأوغر صدور الآخرين وأثار فيهم الحسد. كان شرفاً يتوق إليه كل واحد منهم، لكن هذا الشرف قد يتحوّل مفسدة وتسيل بسببه الدماء. في 23 نيسان استدعى حكمتيار إلى لوغر الجنرال رفيع أحد نواب نجيب الله، رئيس الجمهورية آنذاك، وسأله عن حقيقة ما يجري من انهيار داخل كابول. فأكد له ان الانهيار وقع فعلاً. وعندما فشل وفد العلماء في اقناع حكمتيار بالعودة الى بيشاور ليدخل مع زعماء المجاهدين الى كابول، اقتُرحت فكرة مفادها ان تُنظم مكالمة لاسلكية من بيشاور بين الرجلين اللذين كان أحدهما في لوغر والثاني في باروان. وجرت المكالمة الآتية بينهما وكنت استمع اليها في مركز اللاسلكي التابع لمسعود في بيشاور. وكان ممن دُعي ليكون شاهداً تاريخياً على هذه المكالمة القاضي حسين أحمد أمير "الجماعة الإسلامية" الباكستانية أنظر نص المكالمة في مكان آخر في الصفحة. وفد المجاهدين عندما دخل صبغة الله مجددي كابول دخل وحده ولم يرافقه حكمتيار. دخلها بوفد مشترك من جميع المجاهدين. بدأ مسيرته نحو العاصمة في 27 نيسان. بات ليلته خارجها ثم دخلها في اليوم التالي وتسلّم الحكم في 28 عندما أُجريت مراسيم نقل السلطة الىه في مبنى وزارة الخارجية. في الثاني من أيار مايو تشكّلت حكومة المجاهدين الجديدة. في الخامس من الشهر نفسه، دخل وفد زعماء الجهاد بفصائلهم المختلفة وعلى رأسهم البروفسور رباني ومولوي محمدي والبروفسور سياف وآية الله محسني، بعدما كانوا أعلنوا حكومتهم في بيشاور. لم يدخل حكمتيار كابول إلا بعد 3 سنوات. وهذه عبرة للمسلمين. وكما قال النبي صلعم: السعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه. ونقول على المسلمين ان يتعظوا بهذه التجربة. بعد مقاومة شرسة، شريفة ونضال طويل دام كل هذه السنين أخرجوا من بلدهم بأيديهم الاتحاد السوفياتي، أقوى قوى الأرض. لكن هذه المقاومة الشريفة عندما واجهت اختبار البناء... شاهدت كيف تتبخر كل الأماني التي علّقها الناس عليها. أظن أن أكبر درس يُستفاد من هذه المصيبة، درس تعلمته أنا شخصياً: ان فترة المقاومة تختلف كلياً عن فترة الاستقرار والبناء. فمرحلة المقاومة يمكن ان ينضم اليها كل من هب ودب. لكن مرحلة الاستقرار والبناء تحتاج الى النزهاء والعقلاء. فالاستقرار السياسي أكثر ضماناً من الحسم العسكري لأن الخريطة الحربية موقتة والخريطة السياسية المستقرة دائمة. فالانتصار الحربي متغيّر، أما الاسقرار السياسي فثابت. وعلى الأمة وأحزابها على اختلاف مشاربها ان تعمل من أجل ضمان الاستقرار السياسي الذي لا يمكن أن يأتي إلا إذا تعلّمت الطبقة السياسية سياسة التوافق: ان من أرادها كلها حُرم منها كلها... ماذا حل بالمجاهدين؟ بعدما دخلوا كابول فاتحين صاروا واحداً لاجئاً في إيران والآخر نازحاً بين طاجيكستان واوزبكستان. الجميع انتهى بهم الأمر مشردين مشتتين. هذا أكبر درس وعبرة وعلى المسلمين ان يتعلموا. الدخول الى كابول عندما دخلت كابول، كنت من أوائل العرب حتى أنني سبقت وفد المجاهدين إليها، لأنني كنت على اتصال مع مسعود باللاسلكي. دخلت مع مسلم، أحد قادته. دخلنا بسيارة. بعد ذلك بدأت اتهيأ نفسياً لمغادرة افغانستان نهائياً لأنني لم أعد ارى مبرراً لوجودي في هذه المنطقة. كان العلماء يقولون إنه فرض علينا ان نقف مع اخواننا في افغانستان، فوقفنا معهم. وها إن الروس قد خرجوا، والنظام الشيوعي قد سقط. لذلك بدأت انظر الى جدوى وجدوي هناك، لم أعد مقتنعاً بالبقاء. خصوصاً انني كنت نزلت سنة 1990 الى الجزائر وسجنت هناك اربعة أيام على رغم ان الجبهة الإسلامية للانقاذ كانت في أشد عنفوانها وكانت تحرك الشارع. ومع ذلك لم يشفع لي ذلك أمام المخابرات الجزائرية التي أخذتني من الطائرة بعد ان عصبوا عينيّ فسجنت أربعة ايام وحجز جواز سفري لمدة شهر. وكان الشيخ عباسي مدني قال لي في إحدى الجلسات بيننا: يبدو ان دورك في افغانستان قد انتهى ويجب ان تبدأ رحلة العودة الى الجزائر. كانت الفكرة تطرق ذهني منذ 1990. وعندما دخل المجاهدون كابول في 1992 صارت قضية مغادرتي افغانستان قناعة راسخة، على رغم انه لم يكن ينقصني شيء لو بقيت هناك. كان مسعود الرجل القوي في الحكم الجديد الذي ورث نظام نجيب الله. لم تكن تنقصني سيارة أو بيت. وأذكر انني قصدت مسعود يوماً وكان يسكن في منزل في العاصمة، وأسريت إليه أنني افكّر في نقل الأولاد من بيشاور الى كابول، فلم يتردد لحظة وقال: هذا البيت بيتك سأخليه لك لتقيم فيه. وتابع ممازحاً: ولكن لا بد لك من أن تأخذ حذرك. فحكمتيار يستهدف هذا البيت بصواريخه لأنه قريب من قصر الجمهورية. لم يكن ينقصني شيء لو بقيت في أفغانستان. ومع ذلك قررت مغادرتها. كنت أعايش مشكلة بعدما انقطعت بي السبيل: لم تعد لي علاقة بأفغانستان لأنني لم أعد مقتنعاً بالقضية فيها ولا مبرر لوجودي. ولم أكن مقتنعاً أيضاً بباكستان، لأن بيشاور تحولت بين 1992 و1993 ساحة موبؤة تعج بالغرائب العجائب، فبعدما كان الشاب فيها متعلقاً بالله وبالقضية تحوّلت مكاناً لم أر مثله... حتى أن هناك أردنياً أو فلسطينياً أعلن انه "خليفة المسلمين" وفتح مضافة وقال: "من لم يبايعني فهو آثم". ...وتأسست "القاعدة" واصبح لها نشاطها الخاص المستقل بها، وتفرق بعض المجاهدين، وكثرت المضافات، حتى بدأت تلمس وجود أجهزة الاستخبارات العربية وتغلغها في وسط الساحة الإسلامية في بيشاور. وبينما كنت يوماً جالساً جاءني مسؤول المضافة القيّم على خدمة الشباب العرب في بيشاور وقال لي: من بين الجوازات الموجودة عندنا هناك جواز لضابط. إذ كان الشباب العرب عندما يأتون يتركون جوازاتهم في إدارة المضافة. رأيت بعيني جواز رائد استخرج قبل اقل من عام. وفي الواقع تحولت بيشاور في الأيام الأخيرة ساحة موبؤة تُصدّر التعكير، باتت لا تُطاق، وتبخر الهدف الأسمى الذي من أجله التقينا. وجاءني يوماً أحد الأخوة، وائل جليدان أمين رابطة العالم الإسلامي، وناداني: يا أخ عبدالله، قررت الرحيل الى إسلام آباد، صارت هذه بيشاور ساحة موبوءة ولم يعد فيها ما يُفرح. أنا انصحك بأن تغادرها وترافقني. استحسنت الفكرة وانتقلت الى إسلام آباد حيث مكثت عاماً منقطعاً عن كل شيء. ثم قُدّر لي أن أرحل، فأعددت العدة وسافرت الى فرنسا بعدما حصلت على تأشيرة من كابول بوساطة من السفير الفرنسي هناك. ذهبت الى باريس بإقامة قابلة للتجديد كل ثلاثة شهور على اعتبار انه لا يمكنني الرجوع الى الجزائر بسبب الأزمة التي أعقبت الغاء الانتخابات التي فازت فيهغا الجبهة الإسلامية. لكنني، مع الأسف، أقمت في فرنسا ستة شهور أُخرجت منها مكبّل اليدين بالحديد بدعوى انني اشكل خطراً على أمن بلادهم على رغم تبرئة المحكمة لي. أخرجوني منها مكبّلاً الى باكستان. وبعد شهر اتصل بي الشيخ عبدالباقي صحراوي، رحمه الله، وهو عضو مؤسس في الجبهة الاسلامية للإنقاذ، وقال لي انه التقى مسؤولين في السلطات الفرنسية وهم يعتذرون وقد أخطأوا بحقي عندما قالوا انني أشكّل خطراً على أمن اراضيهم. ونقل إلي عنهم انه يمكنني العودة في اي وقت، ويمكنني الحصول على تأشيرة من أي سفارة من سفارات فرنسا. لكن ما حزّ في نفسي انهم أخرجوني مُكبلاً والأصفاد في يدي، لذلك لم استسغ العودة. وها أنا أعيش في بريطانيا اليوم. حكمتيار: أريد دخول كابول بالدبابات مسعود: ترتكب خطأ تاريخياً... وستكون الحرب } في ما يأتي ترجمة المكالمة عبر جهاز الاتصال العسكري بين أحمد شاه مسعود وغلب الدين حكمتيار في 23 نيسان ابريل عام 1992. وتمحور الخلاف بين الرجلين على الحملة العسكرية التي أعدها حكمتيار لدخول كابول. { مسعود: انكم تحضّرون، بحسب معلوماتي، لشن هجوم على كابول، ما هي أهداف هذا الهجوم، ولماذا ستقومون به؟ السوفيات ذهبوا من افغانستان، وحكومة نجيب سقطت. ومن المقرر أن تنتقل السلطة الى قادة المجاهدين. فلتجتمعوا أنتم القادة، ولتتوصلوا الى اتفاق، وعندها تنتفي الضرورة لشن هذا الهجوم الذي تحضرونه ضد كابول. حكمتيار: انني أعد للهجوم على كابول لأن فيها بقايا الشيوعيين وبقايا النظام السابق، وأنا لا استطيع تحمل وجود هؤلاء في العاصمة... { مسعود: الأمر صحيح، ولا يمكن انكاره، وأنت على حق، لكن النظام السابق سقط واستسلم، فلتجتمعوا انتم وسائر القادة، ولتتوصلوا الى اتفاق في شأن الحكومة المقبلة، وليس هناك أي نوع من الشروط لبقاء بقايا من النظام السابق في الحكومة المقبلة. حددوا انتم بالاتفاق مع سائر القادة تركيبة الحكومة الجديدة، ولا ضرورة للحملة على كابول؟ حكمتيار: لا، أنا أريد مع رفع أصوات التكبير الله أكبر ان أرفع الاعلام الخضر فوق كابول وأنشر فيها الدبابات القتالية. { مسعود: رفع صوت التكبير والاعلام الخضر أمر جيد، ولكن ما هي الضرورة للدبابات؟ النظام السابق استسلم، واذا كان هناك حديث عن الدبابات، فقد كان الاجدى ان تأتي بها قبل شهر، لتجبرالنظام على الاستسلام. أما الآن بعدما استسلم النظام السابق، ووصل المجاهدون الى تحقيق النصر ما الحاجة إلى الحرب؟ حكمتيار: سأهاجم كابول. { مسعود: لقد هددتم ببدء شن الحملة العسكرية على كابول يوم الأحد، وانني، كما قلت في السابق، اؤكد بصراحة انني أخشى أن تؤدي حملتكم عليها الى قتال عنيف بين المجاهدين انفسهم، وان يؤدي دخول قوات احدى التنظيمات الى اتاحة الفرصة امام فئات ومجموعات مختلفة للانتشار في العاصمة. عندها ستعم الفوضى في كابول، وستصبح الأوضاع في حال تشنج بشكل سريع يؤدي الى الخراب والدمار، وانني على يقين بأن نزاعاً بين المجاهدين سيقع. وأتمنى عليكم ان تفكروا ملياً في هذا الموضوع، وان تتحدثوا مع بقية القادة، لأنه كما أوضحت لكم ليست هناك أي مؤامرة، والجميع قبل ويقبل بالحكومة الانتقالية، ومن الأفضل الافادة من هذه الفرصة القليلة، لخطو خطوات مؤثرة على طريق منع الحرب، وتأمين الأمن للمجتمع بدل الاهتمام بالقضايا العسكرية. وهذا عمل لا يخلو من الخير. والقلق هو أن يفيد الانتهازيون والاعداء في الداخل والخارج من وقوع الهجوم على كابول لتأزيم الاوضاع فيها، فيزرعوا الحقد في اوساط الشعب ضد المجاهدين مما سيؤدي الى توجيه ضربة الى وحدتنا الوطنية الاسلامية التي تجلت في سنوات الجهاد. فلا ترتكبوا مثل هذا الخطأ التاريخي إذ انه قد يكون خطأ لا يقبل التصحيح، وسيثير الشبهات حول كل تاريخ الجهاد في افغانستان. ان زمام الأمور هو الآن في أيدي المجاهدين والشعب الأفغاني، فلماذا لا نجلس بعضنا إلى بعض ونضع حلولاً للمشاكل القادمة ثم نذهب بعدها لاجراء انتخابات والقيام بإعادة الإعمار؟ من الأفضل ان تعطيني أي حكمتيار تطمينات الآن، إلى أنه لن تكون هناك حملة على كابول يوم الاثنين، وأنا أكدت لك انه لن تكون من جانبنا أي حملة، وسنتابع بقية اعمالنا. حكمتيار: انا عرضت موقفي الحازم الذي أبلغته الى كل الجبهات، وقد بنيت قراري هذا على دراسة دقيقة، وما لم تتغير الظروف حتى يقتنع كل واحد من المجاهدين بعدم ضرورة الحملة العسكرية، فإن من المحتمل انني لا استطيع تعديلها أو تأجيلها الحملة. { مسعود: في الوقت الذي أقول إن القتال لن يحصل، أقول ايضاً الآن إن قتالاً شديداً سيحصل وقد يأخذ شكل الحرب التي تزهق فيها أرواح مئات المسلمين وتسيل دماؤهم، وانني أقول منذ الآن بأن الله لن يؤاخذني حتماً، ولن يؤاخذني الشعب الافغاني المسلم ولا المجاهدون. لم أطلب الحصول على أي شيء لنفسي ولن اطلب ذلك، وليست لدي مطالب في هذا الشأن، اذ ان كل شيء لدينا سلمناه اليكم أيها القادة الكبار...". حكمتيار يقطع كلام مسعود: لقد سمعت كلامك وعرضت لكم موقفي. { مسعود: حسناً، معنى ذلك انكم سشنون الحملة يوم الأحد، وانّ عليّ الاستعداد. حكمتيار: لأي شيء تريد الاستعداد؟ { مسعود: الاستعداد للدفاع عن شعب كابول، عن نسائها ورجالها واطفالها وفتيانها، الاستعداد للدفاع عن هذا الشعب المظلوم الذي يلجأ كل يوم الى الله، ويسأله عن المصير والمستقبل. انني مجبر على الدفاع عن هذا الشعب ضد أي حملة وبكل ما لدي من قوة. لقد تركت كل شيء جانباً، وقلت إنني لا أطلب أي امتياز. والآن المشكلة هي مشكلتكم أيها القادة، فلتجتمعوا في ما بينكم وتتوصلوا الى تفاهم، فعلى رغم اننا لا نريد أي مطالب أو امتيازات، فإنكم أي حكمتيار تقولون إن موعد الحملة العسكرية على كابول سيبقى على حاله يوم الأحد. انني أقول لكم منذ الآن صراحة انني مضطر إلى الابتعاد عن جهاز الاتصال اي يترك التخابر لأقوم بتحضير الترتيبات الدفاعية، وانني مجبر على القيام بمجموعة من التصفيات في بعض الأماكن. وانني أكرر ثانية أنني لست مضطراً امام الله لأن أسأل لماذا أقوم بهذا العمل، وانه لأمر جيد أن قاضي صاحب قاضي حسين أحمد قائد الجماعة الاسلامية الباكستانية وحامي حكمتيار يسمع ما أقول وهو شاهد على ذلك. تولى ترجمة نص المكالمة من الفارسية الزميل محمد نون في طهران. دور الاستخبارات الأميركية والفرنسية مع مسعود؟ عبدالله أنس: الإمدادات التي كانت تصل الى مسعود كانت هي نفسها التي تصل الى جميع الجبهات. لأن مركز الإمداد كان واحداً: مخازن الجهاد في بيشاور حيث القيادة السياسية للأحزاب الأفغانية الحزب الاسلامي والجمعية الإسلامية والاتحاد الإسلامي. مخازن السلاح، الخفيف او الثقيل مثل المدفعية، كلها كانت في بيشاور تحت إشراف ال"آي أس آي" الاستخبارات العليا الباكستانية، التي كانت توزع وتحدد الحصص بين مسعود وحكمتيار وحقاني وصبغة الله واسماعيل خان. كانت تُحدد حصصهم بالتنسيق مع زعماء الجهاد الافغاني في بيشاور. وكان مسعود في عداد هذه التشكيلة ونصيبه من باكستان مثل غيره. لم أعلم، حتى تاريخ خروجي من أفغانستان، بما كان يشاع عن تحرك ل"سي آي إي". إذا كانت هذه مرتبطة بالجهاد من خلال حلقة غامضة ليست معروفة. لست أدري. لكن المعروف والواضح هو أن المخازن الكبرى للجهاد كانت في مخازن الجيش الباكستاني في بيشاور. مسعود والاستخبارت الفرنسية استطاع مسعود، على حد علمي، ان يستقطب بعض الأنصار من أصحاب القرار الفرنسي. استطاع ان يُقنع بعض الجهات داخل الحكومة الفرنسية بتسهيل نشاطه. أما الدعم فلم أره إطلاقاً. لم أر أي دعم له من فرنسا، لا عسكرياً ولا غيره. اللهم إلا اذا كان هناك دعم سري لا أعرفه. لكنني كشاهد عيان ملتصق بالرجل طوال سبع سنوات، 24 ساعة يومياً، لم أرَ أن شيئاً وصله من فرنسا، اللهم إلا زيارات يقوم بها بعض الصحافيين من حين الى آخر خلال كل ثلاثة أو أربعة أشهر، لاجراء مقابلة معه أو تصوير معركة من المعارك. ولم يكن مقتصراً على الفرنسيين فقط، إذ كانت هناك وفود صحافية من بريطانيا وأميركا والمانيا واليابان وسويسرا. رأيت وفوداً كثيراة من الصحافيين والباحثين الأوروبيين تقصده. وكانت له إلى يوم اغتياله صداقات مع بعضهم في أوروبا.