سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عبد الله أنس رفيق "أسد بانشير" يروي ل"الحياة" فصولاً من تجربته الأفغانية . قافلة المجاهدين العرب الى أحمد شاه مسعود خرج منها مؤسسو تنظيم "القاعدة" "أبو عبيدة البنشيري" أُصيب في المعركة و"أبو حفص" عجز عن عبور جبال الهندوكوش الحلقة الخامسة
يروي عبدالله أنس في الحلقة الخامسة في تجربته الأفغانية قصة التحاق "أبو عبيدة البنشيري" و"أبو حفص المصري" بالقافلة العربية التي قادها الى أحمد شاه مسعود، وكيف أُصيب "البنشيري" في معركة مديرية النهرين، في حين عاد "أبو حفص، القائد العسكري لتنظيم "القاعدة" حالياً، الى مقره في بيشاور بعدما عجز عن إكمال الرحلة مع بقية المجاهدين عبر الجبال الشاهقة لمنطقة الهندوكوش. تركت أحمد شاه مسعود في مديرية فارخار، ولاية تاخار، ونزلت الى بيشاور، وكان ذلك مطلع 1986. نقلت مشاهداتي الى الشيخ عبدالله عزّام، رحمة الله عليه، فارتفعت معنوياته. كان يعرف غلب الدين حكمتيار وقدراته الإدارية والقيادية، وهو فعلاً رجل غير عادي. لكنه لم يكن يعرف الكثير عن أحمد شاه مسعود وقدراته. ويبدو انه اقتنع بالهدف الذي جئت من أجله، وهو العمل على جمع الرجلين. كان الشيخ عبدالله مُحترماً جداً وكلامه لا يُرد عند زعماء المجاهدين، وبينهم حكمتيار، في بيشاور. وكنت أعرف ان مسعود يقدّرني ولن يرد طلبي ان يجتمع مع قائد الحزب الإسلامي. قمت ببعض المحاضرات في بيشاور وفي "مكتب الخدمات"، وكان عدد الشباب العرب قد ارتفع كثيراً. كانت المدينة تعجّ بهم. لكن هدفي الأساس كان العمل على جمع حكمتيار ومسعود. فقال لي الشيخ عبدالله: ما المطلوب مني؟ قلت: ان تركّز على جمعهما. فأكثر الخلافات داخل أفغانستان بينهما، وأكثر الفتوحات الممكنة تتم في حال اتفاقهما. اقتنع الشيخ. كان يعرف حكمتيار، لكن صورة مسعود لم تكن واضحة عنده. كان يعرف انه مجاهد كبقية قادة المجاهدين. لكنني قلت له انه ليس مجرد قائد ميداني، بل هو أبرز القادة ويحظى باحترامهم جميعاً. كان يُقال للشيخ ان مسعود مثل القادة الميدانيين، كاسماعيل خان وجلال الدين حقاني وذبيح الله الشهيد وعبدالصبور فريد رئيس الحكومة الأفغانية، ممثل حكمتيار في حكومة برهان الدين رباني. استوعب الشيخ عبدالله الصورة بسرعة. قال: لا بد من أن تأخذ معك مجموعة من الشباب، على أساس ان يتوزّعوا معك داخل أفغانستان للتقريب بين "الانجنيير بشير" الحزب الإسلامي و"الانجنيير مسعود" الجمعية الإسلامية. اختار الشيخ عبدالله بعض أفراد المجموعة، وقال: انهم من بين خيرة الشباب والدعاة الناضجين والمثقفين الذين نملكهم في بيشاور. اصطحبهم معك الى الشمال وكن أميرهم. إذ كان عيّنني أميراً للعرب في شمال أفغانستان. وأذكر هنا موقفاً مُضحكاً، إذ زارنا مرة صحافي ياباني كان كثير التردد على مسعود ويزور أفغانستان ما لا يقل عن أربع مرات في السنة. كنت جالساً وسط مجموعة صغيرة من العرب وكانوا ينادوني ب"الأمير". فتعجّب الياباني، وسألني: أمير على من؟ فقلت له: أمير على هؤلاء العباد الخمسة الجالسين أمامك. أما الأمير الحقيقي فهو الجالس هناك مسعود. في أي حال، قال الشيخ عبدالله: خذ معك هذه المجموعة وأذهب الى أفغانستان. كانت مهمتها التالي: عبدالله أنس يقضي معظم وقته مع مسعود. وعلى رغم ان ليست لديه خلافات مع الحزب الإسلامي، لكنه في النهاية يبقى محسوباً على مسعود. وبالتالي فإن الرسالة التي يمكن ان ينقلها قد لا تكون مقبولة مئة في المئة لدى الطرف الآخر في الحزب الإسلامي. لا بد من أن تأتي مجموعة من الشباب العرب الأوفياء وتنغرس الى جانب مسؤول هذا الحزب "الانجنيير بشير" وتصير مهمتها الاهتمام به. وعلى هذه المجموعة ان تُبلغه أنها موفدة من الشيخ عبدالله عزام لتقديم أي مساعدة يحتاج إليها. يجب ان تنبني صداقة بينهم وبينه، وهذا أمر لا يحصل في يوم أو يومين. بل يحتاج إلى وقت طويل لتعميق الثقة. الى شمال أفغانستان حضّرنا قافلة جديدة انطلقت من بيشاور الى شمال أفغانستان. أحد أفراد المجموعة، قاري ابراهيم العراقي، حافظ للقرآن ومهندس. أُمّر على مجموعته المفصولة مع الحزب الإسلامي. قلنا له: إذهب بمجموعتك الى المهندس بشير، ووظيفتك الاهتمام به. تكفّل بكل ما يريده، من الاهتمام بأيتام مجموعته الى الجرحى والأرامل والخدمات الصحية والتعليم والتربية. والهدف من هذا كله ان نفرض احترامنا عند بشير لكي نقول كلمتنا في الجمع بين الحزب والجمعية. وهذا لا يمكن ان يُقال من دون رصيد عنده. فأنا أصلاً علاقتي جيدة بمسعود، وكنا نريد رجلاً عربياً في الضفة المقابلة يملك الميزة نفسها. لم نكن نريد القائد الأفغاني ان ينظر الينا كمصدر رزق له ولمجموعته فقط. بل نريد تعميق الصداقة معه، لنستطيع تقريب وجهات النظر بينه وبين قادة الجمعية الإسلامية. ونقل قاري ابراهيم الى المهندس بشير رسالة من غلب الدين حكمتيار يُبلغه فيها ان "مكتب الخدمات" انتخب له مجموعة من خيرة الشباب الموجودين في بيشاور من أصحاب العلم ليكونوا في خدمتك. وكان إرسال قاري ابراهيم الى المهندس بشير في ضوء حادثة سمعتها منه في إحدى المرات في شكاميش، إذ عاتبني على أمر ما. والقصة هي أن الأفغان ينظرون بمذمة الى الرجل إذا تبوّل واقفاً. وهي عادة مذمومة، لكنها في أفغانستان مذمومة جداً. وكان مع المهندس بشير مجاهد جزائري فرنسي، لم يكن للأسف بمستوى الرسالة. فقال لي المهندس بشير: أنت تذهب الى عند مسعود وتُرسلوا إلي الناس الذين يبوّلون واقفين! عندما نقلت هذه الصورة الى الشيخ عبدالله في بيشاور طلب أن أصطحب معي الى أفغانستان أكثر الشباب نضجاً. وكان على رأس هؤلاء قاري ابراهيم العراقي الذي مكث فترة مع المهندس بشير. ولكن للأسف لم تنجح مهمته، ليس نقصاً فيه ولكن لظروف خارجية. إذ ان بشير دخل في معركة إعلامية كبيرة ضد أحد منافسيه من قادة حكمتيار في المنطقة هو السيد جمال. وكل منهما يتبع حكمتيار، ويتمتع بحجم ثقيل في المنطقة. وقد قضى قاري ابراهيم كل وقته في التقريب بينهما من دون جدوى. وأدى انشغاله بإصلاح ذات البين داخل الحزب الإسلامي نفسه، الى عدم تقدم الجهود لجمع الحزب مع الجمعية الإسلامية. "جماعة الجهاد" وعرب مع مسعود المجموعة التي أرسلناها من بيشاور الى المهندس بشير كانت جزءاً من مشروعنا في شمال أفغانستان. إذ ان الجزء الثاني منه كان يتمثّل في إرسال مجموعة ثانية من العرب لتنخرط في صفوف قوات مسعود أيضاً. وهؤلاء يجب ان يكونوا أيضاً من قرّاء القرآن والدعاة الواعين. خلال جمعي أفراد هذه المجموعة في بيشاور، جاءني قاري السعيد 1 وقال: إذا لم تأخذني معك الى الشمال سأترك هذا الجهاد لأنني مللت من بيشاور. وإذا تركت الجهاد فإنك المسؤول أمام الله. فاصطحبته معي بغير اقتناع. فأنا لا أعرفه، ولا أعرف هل هو الرجل المناسب للمهمة أم لا. كنت أخشى ان آخذ الشخص الخطأ فيخرّب ما بنيته هناك. لكنني قلت لنفسي: بما أنني لم أجرّبه، فلا يمكنني الحكم عليه. وبما انه حمّلني هذه المسؤولية أمام الله، فسآخذه. وطلبت منه ان يُحضّر نفسه للإنطلاق الى شمال أفغانستان بعد 15 يوماً. ومن بين الذين جاؤوا أيضاً لمرافقتي في هذه الرحلة "أبو عبيدة البنشيري" 2 و"أبو حفص المصري"، المسؤول عن "القاعدة" الآن، و"أبو دجانة المصري" رحمه الله. قالوا لي: نريد أن نذهب معك أيضاً الى الشمال، ونحن فلان وفلان وفلان من جماعة الجهاد المصرية. فقلت لهم إنني آخذهم معي ولكن بعد ان أحصل على تعهد خاص منهم. قلت لهم: انتم تقولون اننا من "جماعة الجهاد"، وشرطي هو ان أي إنسان يدخل أرض أفغانستان يجب ان يضع نفسه تحت إمرة قائد أفغاني. يجب الا ندخل ببُعدنا التنظيمي. تفضلوا ان كنتم تريدون ان تدخلوا كأفراد تحت إمرة مسعود وتأتمرون بأمره حيث وجّهكم. إما إذا كان لديكم برنامج آخر على أساس أنكم من "جماعة الجهاد" وتريدون ان تدخلوا لتفعلوا شيئاً آخر، فالرجاء ان تقولوا لي هذا منذ البدء قبل دخولكم لئلا يُسبب ذلك لي إحراجاً. فقالوا: نعاهدك اننا ندخل كأفراد تحت إمرة مسعود، ونحن تحت أمره يفعل بنا ما يشاء. جُمعت القافلة وكانت تضم نحو 30 عربياً من بين الأفغان. دخلنا أفغانستان عبر طريق تختلف عن تلك التي سلكتها المجموعة التي ذهبت الى المهندس بشير. سرنا في طريقين مختلفين. القافلة المتوجهة الى الحزب الإسلامي مرّت في مناطق شرق أفغانستان، في حين ان قافلتي الى الجمعية الإسلامية مرّت من شمال البلاد. سرنا عبر شترال لنقطع ثمانية جبال علوّ الواحد منها ثمانية الآف متر، قبل الوصول الى مناطق مسعود. وشاءت الأقدار ان المجموعة التي كانت معي صار بعض أفرادها معروفاً جداً، مثل "أبو حفص" و"أبو عبيدة" الذي لم يكن حتى ذلك الوقت يُعرف ب"البنشيري". وبما ان "أبو حفص" كان يعاني أصلاً من ألم في غضروف ركبته، فإنه لم يستطع صعود الجبال الشاهقة في المنطقة، فلم يُكمل الرحلة ورجع الى بيشاور. وبعث من هناك برسالة تحدث فيها عن مرضه. لكن "أبو عبيدة" و"أبو دجانة" واصلا الرحلة. عرّفت مسعود بالشباب العرب، وكنت أتولى الترجمة. فأكرمهم وكبّر فيهم وأظهر لهم تقديراً فائقاً. وكان مسعود يُحضّر لعملية لفتح مديرية النهرين. كان عليه ان يتحرك من فارخار التي تركته فيها بعدما فتحها، الى مديرية أخرى هي مديرية النهرين في ولاية باغلان الخاضعة للحكم الشيوعي. وصادف قراره بدء الهجوم مع وصولنا. لم يكن مسعود يُحب المناوشات العسكرية وحرب الاستنزاف. فقد يبقى خمسة شهور من دون هجوم واحد. يمضي وقته في التخطيط والتنظيم ودرس مواقع العدو والأسلحة التي يملكها، ثم ينقضّ عليه في هجوم واحد يدوم ساعات ويحسم المعركة لمصلحته. وهذا الأسلوب في القتال لم يكن معروفاً في بقية أفغانستان حيث كانت الحرب أشبه بحرب استنزاف: خط للمجاهدين يقابله خط للعدو، يتبادلان القصف سنوات. وهذا ما كان عليه الحال في جلال آباد وخوست وغارديس ولوغر ووردغ. لكن حرب مسعود كانت تختلف. تخطيط طويل وهجوم مُباغت. انتحى مسعود بي ليلاً وأبلغني انه يستعد لفتح مديرية النهرين. كنّا في غرفته الخاصة. جلس كل منا في فراش النوم الخاص به، وكان معنا الحارس الذي أصفه بأنه "شنطة أفغانستان"، إذ يظل حاملاً خرائط مسعود على ظهره ويرافقه من مكان الى آخر. قال لي: "الأمر سري. سنهاجم مديرية النهرين بعد يومين أو ثلاثة. سننتقل من هنا في تاخار الى النهرين، في مسيرة يومين. فإذا كان إخوانك العرب ينوون أن ينالوا شرف الغزو وارادوا المشاركة في المعركة فلهم ذلك. ذهبت اليهم في اليوم التالي، وأخبرتهم بالعملية وان مسعود يخيّركم إما ان تبقوا هنا في المعسكر وإما تذهبوا معه. فبدأوا بالتكبير، قائلين: كيف نبقى هنا؟ فنحن جئنا من أجل هذا الهدف. معركة النهرين ساروا معنا الى المعركة من دون ان يعرفوا كم تبعد المنطقة التي سيهاجمها مسعود. وعندما اقتربنا منها وصرنا في شعبة من شعب الجبال القريبة من النهرين، على بُعد نحو 700 متر منها، بدأ مسعود يوزّع المجاهدين وكانوا قرابة 300، إضافة الى الإخوة العرب الذين قرروا المشاركة وكان عددهم نحو 15. فبقية العرب لم يكونوا مقاتلين، بل من الأطباء والمعلمين. فبقوا في المنطقة الأولى ولم يُشاركوا في المعركة. قال "أبو عبيدة" و"أبو دجانة" انهما سيشاركان في المعركة، وهي كانت الأولى التي استغرقت من مسعود يوماً وليلة كاملين. فمعاركه السابقة كانت خاطفة لا تستغرق سوى ساعات. لكن المقاومة في مديرية النهرين كان شديدة، واستشهد 18 مجاهداً بينهم أربعة عرب منهم أبو دجانة وعبدالجبّار رحمهما الله، وجُرح "أبو عبيدة". وفي اليوم التالي لبدء المعركة حصل الفتح الكامل ودخل مسعود المديرية آسراً 300 من قوات العدو. بقي العرب فترة دامت قرابة شهر ونصف شهر مع مقاتلي مسعود، قبل ان يقُرروا العودة الى بيشاور. فعاد "أبو عبيدة" الجريح وعدد آخر من العرب الى باكستان لتلقي العلاج. وأُطلق عليه منذ ذلك الوقت لقب "البنشيري" لمشاركته في معركة النهرين. لم أغادر مع القافلة الى باكستان. فوظيفتي الأساسية ان أبقى في المنطقة مع مسعود. وكنت كل يوم أمضيه معه ازداد اقتناعاً بضرورة جمعه مع الحزب الإسلامي... ورجعت بعد تسعة شهور الى بيشاور مع بقية المجموعة العربية التي كانت معي. وهناك ركّزت مع الشيخ عبدالله عزّام على ضرورة حصول لقاء بين مسعود وحكمتيار. ففي الأيام الأخيرة كان ذلك همّي. كنت أرى سهولة تنفيذ عمليات ضد مراكز الروس والشيوعيين، وهو ما كان يقوم به الحزب الإسلامي والجمعية الإسلامية كل في مناطقه. لكن ما كان يستنزف الجهاد هو الخلاف بينهم. فالطريق التي تحتاج الى ساعتين لقطعها تستغرق أحياناً يومين كاملين لأن عبورها يستلزم القيام بعملية التفاف كبيرة لتافدي مناطق وجود الحزب المنافس. كانت نتيجة عدم التفاهم الداخلي استنزاف رهيب لطاقات المجاهدين من كلا الطرفين. وكان الروس والشيوعيون في كابول يغذّون ذلك التنافس. صراع المجاهدين وكاد الخلاف بين المجاهدين أن يتطور في إحدى المرات الى معركة ضخمة جداً. ولو لم يُسخّرنا الله عز وجل لإطفاء النار لكان قُتل فيها الآلاف. كان ذلك بعد انتهاء معركة النهرين ببضعة شهور. فقد كنت أجلس مع مسعود في وادي سلطان شيرا عندما اتصل به القائد إكرام الدين باللاسلكي. طلب منه ان يرسلني الى منطقة شكامش المأهولة التي يتقاسم حكمها هذا القائد، إكرام الدين، والمهندس بشير قائد الحزب الإسلامي. طلب إكرام الدين أن أجيء اليه في أقرب وقت، "فقد حصلت كارثة بيننا وبين الحزب الإسلامي". أرسلني مسعود الى شكامش، وهناك قابلت القائد إكرام الدين الذي أوضح ان من وصفه ب"المجنون" عبدالجبار، أخا القاضي إسلام الدين أحد قادة الجمعية الكبار، قتل "الانجنيير عبدالوهاب" مسؤول شكامش في الحزب الإسلامي. وأضاف ان المهندس بشير، قائد الحزب الإسلامي في الشمال، يريد الانتقام لعبدالوهاب و"أعلن حال الاستنفار في صفوف حزبه. ووصل الى شكامش ما يقرب من ثلاثة الآف منهم. وإذا حصلت معركة بيننا وبينهم فإنها لن تنتهي في شهرين". وأضاف: لا نعرف ما نفعل بهذا المجنون الذي قام بهذا العمل. هل يمكنك ان تتوسط في القضية؟ فقلت له ان المهمة ضخمة، وقبل ان أفعل أي شيء أريد ان أعرف حقيقة ما حصل. فشرح لي ما حصل، وقال ان قادة الجمعية آسفون بالفعل لمقتل عبدالوهاب. فقلت له انني سأذهب الى المهندس بشير. بين المنطقة التي التقيت فيها القائد إكرام الدين والمنطقة التي يقع فيها مركز قيادة المهندس بشير ست ساعات سيراً. وهي منطقة سهلة، وفيها حد فاصل بين قوات الجمعية وقوات الحزب الإسلامي. وكانت الذبابة في ذلك الوقت لا تستطيع قطع الحد بينهما لشدة التوتر بين الطرفين. ولم يكن تحت تصرفي طائرة هليكوبتر أطير بها من عند هذا الطرف الى ذاك. وكان المقاتلون يترصدون من فوق سطوح البيوت والتلال. ومجرد خروجي من منطقة الجمعية الى منطقة الحزب الإسلامي كان يشكّل خطراً. فليس مكتوباً على رأسي أنني عربي يدعى عبدالله أنس لئلا أُقتل ولا دخل لي في الأمر. عندما اقتربت من المنطقة التي يُشرف عليها المهندس بشير، نزعت "الكوفية" البيضاء من على كتفي وبدأت أُلوّح بها كعلامة سلام. تقدم أحد القادة وصاح بي بعنف: اقترب. ففعلت. عندما اقتربت منهم عرفني أحدهم وقال انني آتي من عند مسعود. فشتم وقال: اعرف ماذا يريد. يريد ان يُطفئ المعركة ويذهب دم المهندس عبدالوهاب هدراً وتنتهي المعركة بالصلح. لم تكن الناس مستعدة لأن تسمع كلمة صلح. فالمهندس بشير استدعى ثلاثة آلاف مقاتل من خان اباد وقندز. وكذلك فعلت الجمعية بحشد قواتها خشية أن يشن الحزب الإسلامي هجوماً ويسيطر على منطقتها. كانوا يريدون المقاومة لكنهم ينتظرون ماذا ستسفر عنه مبادرات الصلح. وصلت الى المهندس بشير فوجدت الشرر يتطاير من عينيه، والبطانة التي حوله تغلي. كانوا يُكبّرون "الله أكبر". ويقولون انهم لا بد من ان ينتقموا. المجاهدون بالعشرات ومدججون بالأسلحة. فقلت لنفسي: لو كلّمته في موضوع الصلح الآن لطردني من الغرفة وشتمني. فقررت ان اكتفي بأن أقدّم إليه العزاء فقط وانتقي من الكلمات ما لا يزيد في غضبه. وكان لبقاً، فاحترمني كضيف. وقال: أنظر المصيبة، ماذا فعل قاضي إسلام الدين. فقلت: نرجو الله ان يتقبله في عداد الشهداء، فهو قُتل مظلوماً... وكان المهندس عبدالوهاب فعلاً رجلاً فاضلاً، إذ حصل ان التقيته وكان من خيرة أبناء المنطقة. بقيت مع المهندس بشير الى اليوم الثاني حتى تجرأت أن اكلّمه قليلاً في الموضوع. قلت: قتل المهندس عبدالوهاب، أليس كذلك؟ فأجابني: صحيح. قلت: وقد جهّزت الجيوش وكنا نراها من الغرفة التي نتحدث فيها تقف على رؤوس التلال تنتظر الأمر بالزحف على مناطق الجمعية للهجوم على شكامش. فهل سيعود المهندس عبدالوهاب الى الحياة لو أعطيت الآن أمراً الى المقاتلين لبدء الهجوم على الجمعية؟ قال: لن يعود حياً. قلت: ألن نخسر في أثناء المعركة قتلى من الطرفين؟ رد: سنخسر بالطبع. فقلت: في المجموع خسارة عبدالوهاب وخسارة ما ستتمخض عنه المعركة من الطرفين، هل سيكون هذا في مصلحة الروس أم الجهاد؟ أجاب: لمصلحة الروس. فقلت: هذا هو المُسلّم الأوّل بغض النظر عن أي شيء، فأنا معك. أُقدّر الجرح والغضب. وحتى لو لم تقتنع بكلامي فأنا مستعد لأن أنسحب من المنطقة ودبّر رأسك معهم. فقال لي انه يوافقني على ان ما سيحصل سيكون ضد الجهاد. قلت: أنت الآن تحشد قوات الحزب الإسلامي والقاضي إكرام الدين والمعلّم طارق يحشدان قوات الجمعية. أول ما يجب ان يحصل هو أن تتوقف الحشود، ثم يبدأ الحوار بينكم فوراً. قال: كيف أجلس مع الرذيلين والفسقة؟ قلت: أتيت من عند إكرام الدين ومعلّم طارق، والله انهم يبكون لفراق المهندس عبدالوهاب. فقد درسوا معه في الثانوي وفي المعهد. انهم متأثرون لخسارته مثلما انت متأثر، وهم يقولون إن المجرم عبدالجبار، أخا قاضي إسلام الدين، جاهل. وهم مستعدون لأي شيء تطلبونه لحل المشكلة. فأجاب بعض من كان حوله: لا نتكلم مع المفسدين. الكلاشنيكوف هو الذي سيتكلم معهم. عندما رأيت الأمر يتطور سلباً، خففت كلامي. لم أكن أريد لوساطتي أن تفشل لأنها ستعني بدء الحرب. لزمت الصمت. وجاء وقت العشاء فتعشينا. بعد ذلك، عاودت الكلام وقلت: لا مفر من ان تتكلم معهم قادة الجمعية الإسلامية. ثم طلبت منه جهاز اللاسلكي، واتصلت بإكرام الدين والمعلم طارق. اقنعته بأن يُرسل معي رجلين كدليلين في الطريق. لكن ذلك كان مجرد حجة لتذويب الجليد بين الفريقين. رافقتهما الى الجهة المقابلة. وعندما رآني مقاتلو الجمعية بصحبة إثنين من الحزب الإسلامي، رأوا في ذلك بالتأكيد مؤشراً مطمئناً. وكنت أتمنى ان يساعدني الرجلان في نقل صورة جيدة الى قائدهم عندما يشاهدان بأم أعينهم ان إكرام الدين والمعلم طارق متأثران جداً لقتل المهندس عبدالوهاب. وخلال وجودي عند القائد إكرام الدين اتصلت باللاسلكي بالمهندس بشير وأبلغته "أن الأخوة مستعدون للقائك ولتحمل المسؤولية". فأجاب: سنتكلم عندما تعود اليّ. اصطحبت بدوري إثنين من عند إكرام الدين الى الطرف الآخر. فصار معي إثنان من الحزب وإثنان من الجمعية، وشعرت بأن دائرة تبريد الأجواء تتوسع. واقتضت عملية الذهاب والإياب بين الطرفين أربعة أيام أو خمسة. وتوصلت الى اتفاق على جمعهم معاً ليحلّوا المشكلة بالصلح. ولهذه الغاية، طلبت قاري سعيد من المنطقة التي كان يتمركز فيها. قلت له ان يأتي الى شكامش مع كل المجموعة العربية. وصل بعد يوم واحد. أبلغتهم انني اتفقت مع قادة الحزب والجمعية على ان يحلّوا المشكلة بينهم في شأن مقتل المهندس عبدالوهاب، لكنني اريد ان آتي بقادة الطرفين الى الاجتماع من دون سلاح. وجود عميل واحد أو منافق وسط المجتمعين قد يؤدي الى مذبحة. فلو أطلق طلقة واحدة وسط النفوس المشحونة لكانت القضية خرجت من أيدينا وحصل حمام دم. قلت لهم إنني اخترت بيتاً معيناً لكي يجلس الأمراء الثلاثة بعضهم إلى بعض ويحلوا خلافهم. المهندس بشير، ومعه بعض قادة الحزب، والمهندس إكرام الدين والمعلم طارق من الجمعية. وسيكون مكان الاجتماع بحماية العرب الذين سيكونون جهة ثالثة محايدة. وطلبت من قاري سعيد ان يصعد الى سطح المنزل مع مجموعته وعددهم 16 عربياً. قلت لهم: صوبوا سلاحكم الى كل الجهات، فلا يقترب أحد الى مكان المجتمعين. وكنت في ذلك الوقت اتقنت الفارسية فقررت ان أجلس في الداخل معهم وأساعدهم على حل خلافاتهم. ولم اكتف بذلك بل اصطحبت ثلاثة علماء من الجمعية وثلاثة من الحزب اقتنعوا معي بأن الحرب خسارة للطرفين. لم يقتنعوا فقط بل كانوا متحمسين إلى تسوية الخلاف بالصلح. وعقد اجتماع القادة وتمخض عن صلح وتم القصاص من القاتل وعادت المياه الى مجاريها من دون ان تراق نقطة دم واحدة. وذهب قادة الجمعية لتقديم العزاء الى ذوي المهندس عبدالوهاب. 1- قاري السعيد جزائري من "الأفغان العرب" ويُعتبر أحد مؤسسي "الجماعة الإسلامية المسلحة". وحصل اللقاء بيننا قبل ان ينفصل عنّي في آخر 1987 ليلتحق ب"القاعدة" ثم في 1991 ب"الجماعة المسلحة". 2- "أبو عبيدة البنشيري" علي أمين الرشيدي أحد مؤسسي تنظيم "القاعدة"، غرق في بحيرة فيكتوريا تنزانيا في ربيع 1996.