دور أمانات المناطق في تحسين تجربة المواطن والمقيم    لبنان.. فرصة التغيير والتعاطف مع المقاومة !    لبنان ينتصر ببناء الدولة    رأي «جون ميرشايمر» في أحداث غزة.. !    كيف سيرد حزب الله بعد مقتل قائده؟    الهلال يعزّز صدارته بتغلبه على الخلود برباعية في دوري روشن للمحترفين    "الخليج" يواجه ماغديبورغ الألماني في بطولة العالم للأندية لكرة اليد    رقم قياسي للهلال بعد الفوز على الخلود    من دمَّر الأهلي ؟    ما أجمل رباعيات الهلال والأخدود    بغلف وباربيع يحتفلان بعقد قران أصيل    الزواج التقليدي أو عن حب.. أيهما يدوم ؟    «التعاون الخليجي» يتطلع لعلاقات استراتيجية وثيقة مع العالم أجمع    نائب أمير جازان يستعرض مراحل الإنجاز في مطار الملك عبدالله    يوم مجيد توحدت فيه القلوب    وكيل إمارة الرياض يحضر حفل السفارة الصينية    المملكة وجهة سياحية عالمية    محمد بن عبدالرحمن يثمن إطلاق "مؤسسة الرياض غير الربحية"    وزير الخارجية والمبعوث الأممي لسورية يبحثان التعاون بشأن الملف السوري    سلمان الخير    خرائط تفاعلية بمعرض الرياض الدولي للكتاب تعزز تجربة الزوار    المركز الوطني للتعليم الإلكتروني يطلق مبادرة البرامج الجامعية القصيرة "MicroX"    "الرياض تقرأ" شعار يطلقه المعرض الدولي في موسم 2024    وزير الخارجية يعلن إطلاق "التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين"    الرّفق أرفع أخلاق نبينا الأمين    التخصصات الصحية تعقد لقاء المجالس المهنية    ضبط مواطن في عسير لترويجه (9) كجم "حشيش"    ترحيل 11894 مخالفا للأنظمة خلال أسبوع    مذكرة مع طاجيكستان للإعفاء من التأشيرة    مزاد تمور العلا حضور كبير ووفرة إنتاج    «التجارة»: ضبط عمالة تغش في منتجات الإنارة ومصادرة 2.5 مليون منتج غير مطابق للمواصفات    "موسم الرياض" يطرح تذاكر أهم بطولة لأساطير التنس في العالم اليوم    الأخدود يحول تأخره بهدفين لفوز برباعية على الفتح    أول مزرعة عمودية للفراولة في العالم    تكريم الكاتبة السعودية أبرار آل عثمان في القاهرة    جمعية إجلال لكبار السن بمركز الحكامية تحتفل باليوم الوطني السعودي ال٩٤ بالراشد مول بجازان    بلديتا محافظة أحد رفيدة والواديين تعتذران عن فعالية الألعاب النارية    Dupixent يعالج التهاب الشعب الهوائية    علماء يكتشفون إيقافا مؤقتا للخصوبة    «الصحة» : لا تعارض بين لقاح "الحزام الناري" ولقاح "الإنفلونزا الموسمية"    حصاد المتعلمين وحصاد مشاهير المنصات    وطني.. مجد ونماء    ايجابيات اليوم الوطني    مروّجو الأوهام عبر منصات التواصل الاجتماعي    الزهد هو المجد في الدنيا والمجد في الآخرة    تحقيق التوازن : الحلول الفعالة لإستيعاب القبول الجامعي    كلية التقنية للبنات بجازان تحتفل باليوم الوطني ال94    برعاية وزير الثقافة.. «لندن» المحطة الرابعة ل«روائع الأوركسترا السعودية»    جونسون يعترف: خططت لغزو هولندا لانتزاع لقاح كورونا    إدارة المساجد والدعوة والإرشاد في الريث تشارك ضمن فعاليات اليوم الوطني السعودي ال94    "الغذاء والدواء" تحذر من شراء مستحضرات التجميل من المواقع غير الموثوقة    الفصيلي يدشن ويوقع كتابه التطور التاريخي لأنظمة الترقيات في المملكة    مكتب تعليم العوالي يحتفل باليوم الوطني 94    رابطة العالم الإسلامي ترحب بإعلان المملكة إطلاق «التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين»    بحضور 3000 شخص.. أحد رفيدة تحتفل باليوم الوطني    محافظ هروب يرعى حفلَ الأهالي بمناسبة اليوم الوطني ال 94    رصد المذنب "A3" فجر أمس في سماء مدينة عرعر بالحدود الشمالية    نخيل القصيم أمسية في المسرح الروماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الله أنس رفيق "أسد بانشير" يروي ل"الحياة" فصولاً من تجربته الأفغانية . ضرب الروس "أسد بانشير" في سلطان شيرا فرد عليهم بفتح مديرية فرخار : 14 يوماً وطائرات السوخوي تدك معاقلنا ... لكن المعركة لم تكن بدأت فالكوماندوس قادمون الحلقة الرابعة
نشر في الحياة يوم 02 - 11 - 2001

} يتحدث عبدالله أنس في هذه الحلقة من تجربته الأفغانية قصة تعمّق صداقته مع أحمد شاه مسعود. ويروي تفاصيل حياته مع "أسد بانشير" في سلطان شيرا في سلسلة جبال الهندوكوش، وقصة الهجوم الروسي جواً وبراً على معقله هناك، وكيف اضطّر الى الانسحاب ليلاً، وكيف رد الصاع صاعين للروس بفتح مديرية فارخار.
تطورت علاقتي بأحمد شاه مسعود مع مر الشهور. رأيت فيه قائداً فذاً يملك مشروعاً لكل أفغانستان. رأيت فيه الخير، وكنت اعتقد جازماً ان في استطاعته، بالتعاون مع قادة الجهاد الآخرين، هزيمة الروس وتحقيق مستقبل مشرق لبلده.
لاحظت منذ اللحظة الأولى للقائي معه أنني أتحدث مع شخص غير عادي. قبل ذهابي اليه في سلطان شيرا، كنت التقيت قائد قوات "الجمعية الإسلامية" مولوي محمد علم في مزار الشريف. لم استطع سوى ان أُجري مقارنة بينهما. وجدت ان مولوي أمير مهم ويحظى باحترام في منطقته، لكن نشاطه محدود وكذلك برنامجه، خصوصاً إذا قورن ببرنامج مسعود ونشاطه.
أخذت أُفكّر في الأمر. كنت أبيت، في طريقي من مزار الشريف الى سلطان شيرا للقاء مسعود، في بيوت قادة المجاهدين، سواء من الجمعية او الحزب الإسلامي. وكان العربي في ذلك الوقت محبوباً لدى الجميع. من خلال مروري على هؤلاء القادة كنت أُلاحظ ان الواحد لا يختلف عن الثاني. ما يشغل كل منهم هو منطقته التي هي محور مسؤوليته في إطار الجهاد في سبيل الله. كان نشاط هؤلاء القادة محصوراً بمناطقهم، سواء كانت قرية أو مديرية أو ولاية. ولكن عندما التقيت مسعود وجدت أنني اتعامل مع شخص يُصدر التعليمات الى كل القادة الذين مررت عليهم، وكان على هؤلاء ان يُقدّموا اليه تقريراً، مرة في الأسبوع على أقل تقدير، عن الأوضاع في مناطقهم. وجدت نفسي مع شخص لا يُتعامل معه على أنه فقط "أمير بانشير"، بل مع شخص يملك مشروعاً لأفغانستان كلها.
لا اعتقد بأن النظرة التي كوّنتها عن أفغانستان كانت ستُتاح لي لو لم التقِ مسعود وبقيت مع القادة المحليين الآخرين. صار لا يتغدى إلا في حضوري. فاتحني في شؤون عدة. حدّثني كيف بدأ الجهاد. أعطاني لمحة عن كل قائد، عن علاقته بحكمتيار في بيشاور وقبل ذلك في كابول. حدثني عن "المهندس حبيب الرحمن - وكنت اسمع باسمه للمرة الأولى - وقال لي ان هذا الرجل لو بقي حياً لكان الحاكم لأفغانستان.
لا يمكن ان اتكلم على صفات مسعود ومناقبه وشخصيته. فهذا الأمر يتطلب مجلدات ولا يمكنني أن أفيه حقه. كان عظيماً. ولا أزال حتى اليوم أجهل لماذا أصرّ على ألا أفارقه طوال السنوات التي أمضيتها معه.
في اليوم الثالث لوجودي معه في مغارته الجبلية، جاءتني جماعة من قواته. قالوا لي: هناك عربي ثان موجود هنا أيضاً، ولكن في جبهة أخرى من جبهات مسعود. هو معنا منذ فترة طويلة ولم يرَ عربياً واحداً. لا شك في أنه سيفرح كثيراً برؤياك. فقلت لهم "إنني فرح أكثر منه، فخذوني الآن اليه". ذهبنا سيراً في الثلوج قرابة ساعتين، ودخلنا مغارة فوجدته فيها مع أربعين مجاهداً يدرّبهم على قراءة القرآن. كان يعطيهم كل يوم صباحاً ساعة تجويد في القرآن. سلّمت عليه وتعارفنا. هو كردي عراقي يدعى محمد أبو عاصم، ويتحدث الفارسية بطلاقة. وقد لقي الشهادة بعد شهرين من هذا اللقاء.
بقيت معه حتى العاشرة ليلاً، عندما سمعت الباب يدق. دخل شخص يدعى تاج الدين، وكان عمره آنذاك 54 سنة ويعمل حارساً شخصياً لمسعود الذي تزوّج لاحقاً بابنته. وكان بدأ الجهاد مع مسعود من الطلقة الأولى في 1979. وأذكر أنني أخبرت الشيخ عبدالله عزام لاحقاً أن مسعود تزوّج من ابنة حارسه، فعلّق قائلاً: مسعود الذي تتمناه أي فتاة من أفانستان يتزوج ابنة حارسه! إن دل هذا على شيء فإنه يدل على تواضع الرجل.
أخبرني تاج الدين ان "الأمير ينتظرك". فقلت له: "الثلج أمتار في الخارج ونحن في عتمة الليل. لم يبق سوى ساعات قليلة على طلوع الفجر، فلننتظر قبل ان نتحرك". لكنه أصر على الانطلاق فوراً ف"أمير صيب" يطلبني.
وكان مسعود في مغارة تبعد عن مغارتنا قرابة ساعتين سيراً في هذه المنطقة الوعرة من جبال الهندوكوش. كانت له مغاور عدة يوزّع عليها مجموعاته التي تضم الواحدة منها نحو 20 مجاهداً. ولكن كانت هناك مغارة أساسية تُعرف ب"مغارة الإمارة" أو مركز القيادة، وكانت تضم خرائط وأجهزة اتصال لاسلكية. وكان يتنقل دوماً من مغارة الى أخرى مع مجموعة خاصة من المقاتلين تلازمه 24 ساعة في اليوم وتحمل معها العدة والعتاد. وكانت المجموعات الأخرى ثابتة في مراكزها ومغاورها. لكنه كان كثير الترداد على مغارته الأساسية، "مغارة الإمارة"، إذ يزورها ما لا يقل عن ثلاث مرات في الأسبوع.
وصلت مع تاج الدين الى مسعود، فطلب مني ان أعطيه نصف ساعة في التجويد كل صباح. كان يقرأ القرآن وأنا أُصحح مخارج الحروف. وهكذا استمر برنامج الدروس كل يوم، وكان يأتي مولوي قاري بعد ذلك ويعطيه الدرس الديني لمدة ساعة. وبعد ذلك تأتي المجموعات اللاسلكية وتُقدم إليه التقارير التي يتلقونها من الجبهات والمعلومات عن تحركات الروس في ممر سالانغ، وعن المواجهات مع الروس والشيوعيين. كان لديه ارتباط حتى بأشخاص داخل الحكومة الأفغانية يمدونه بمعلومات. وفي كثير من الأحيان كان يستيطع بالمال ان يشتري من جنرالات روس خطة تحرك قواتهم قبل أن تبدأ. حتى انه كان يشتري الرشاشات من الجنود الروس أنفسهم بثمن زهيد.
الشهور الثلاثة الأولى التي أمضيتها مع مسعود كانت رائعة. كنت أرى القادة العسكريين يتوافدون عليه من كل المناطق لتلقي التعليمات. وسمح لي وجودي الى جانبه بالتعرف إلى معظم قادة الجهاد الأفغاني وربطتني بكثيرين منهم صداقة لا أزال أقدّرها حتى اليوم. وبما انه كان يُنظر اليّ على أنني "العربي المفضّل عند الأمير"، فقد كان ذلك يعني ان كثيرين ظّنوا انني "مفتاح لقب" أحمد شاه مسعود.
صراعات المجاهدين
لكن وجودي مع مسعود في تلك الفترة أكّد لي أمراً كنت أشعر به منذ فترة. إذ لاحظت ان معظم زوار "أسد بانشير" هم قادة حزبه، الجمعية الإسلامية، وبعض قادة الاتحاد الإسلامي عبد الرسول سياف والحركة الإسلامية بقيادة محمد نبي. لم يكن بينهم قادة من الحزب الإسلامي التابع لغلب الدين حكمتيار. فلفت ذلك انتباهي. ادركت ان حكمتيار ومسعود هما الشخصيتان الأساسيتان اللتان يمكن أن تنتصر بهما أفغانستان أو تنكسر. ومن خلال السرد الذي تلاه عليّ مسعود في شأن صلته بحكمتيار منذ أيام كابول، قبل أن يهاجرا، ثم بعد هجرتهما الى بيشاور إثر انكسار الجهاد أيام داود، وجدت ان للرجلين دوراً بارزاً في كل حلقة من حلقات الأزمة الأفغانية.
قلت لنفسي ان علي زيارة قادة حكمتيار في الشمال. إذ لا استيطع ان أعود الى بيشاور وأقدّم تقريراً إلى الشيخ عبدالله عزام وأقول فيه ما حصل خلال الشهور التي أمضيتها مع مسعود ولا أذكر شيئاً عن الحزب الإسلامي وقادته. كنت أعرف ان الشيخ سيسألني: من التقيت من قادة حكمتيار؟ ومعنى عدم لقائي إياهم أنني لم أكن محايداً.
ذهبت الى قائد الحزب الإسلامي "الانجنيير بشير"، وهو شُعلة إيمان وحيوية. جلست معه في منطقته في مديرية شكامش في ولاية تخار، وكان أول ما قاله لي: تأتي الى أفغانستان لتعيش مع "الغوركا" في جبال الهندوكوش؟ إنزل الى هنا لترى الأسواق والناس. هل يأتي أحد الى أفغانستان للعيش مع الذئاب بين الثلوج وفي مغاور الجبال مع مسعود؟ تعال الى هنا. وكان يقصد أن آتي الى هذه المناطق التي تعجّ بالحياة والواقعة تحت نفوذ الحزب الإسلامي، في حين تركز نفوذ مسعود وقواته في الجبال النائية فقط. كان يتحدث مازحاً، لكنه كان يقصد كل كلمة. كان يريد القول ان المناطق التي تحت سيطرته مهمة، بينما مناطق مسعود ليست مأهولة.
تعرّفت إليه. وبالفعل وجدته ثاقب الشخصية. لا أقارنه بشخصية مسعود، لكنه كان إنساناً ذكياً وكله توقّد وحيوية. وكان أصغر من مسعود في السن.
عدت الى مسعود بعدما كوّنت صورة عن الوضع من الحزب الإسلامي. فقال لي: "ها. شفت الانجنيير بشير، أليس كذلك؟" قلت له: نعم. وقدّمت إليه الانطباعات التي تكوّنت علدي. وقلت له: انه رجل كله حيوية، فلماذا لا تتصالح معه؟ فأجاب: أرغب في ذلك، فأقنعه إذا كنت تستطيع.
لم يكن بامكاني الانحياز الى طرف دون آخر، لأنني في الأصل مبعوث من "مكتب الخدمات" ولست رجل مسعود. وظيفتي سفير "مكتب الخدمات" في شمال أفغانستان، وبالتالي كان عليّ ان أحافظ على حيادي. ف"مكتب الخدمات" مهمته في الأصل منع العرب من الدخول طرفاً في خلافات الأفغان. وعلى رغم صداقتي الكبيرة مع مسعود ومحبتي له، إلا انه لم يكن بامكاني الانحياز اليه. وكان بالفعل رجلاً عظيماً، إذ لم يحاول ان يستغل علاقتي به للتأثير في موقفي.
هجوم روسي
عرفت أن التقريب بين الجمعية الإسلامية والحزب الإسلامي أكبر مني، ويتطلب تحضيراً جيداً إذا أُريد له النجاح. ولكن قبل ان أبدأ تحركي في هذا الشأن، طرأ أمر آخر أكثر الحاحاً: كان الوقت صبحاً، وبدأنا كعادتنا بدرس التجويد. ولكن لم تمر لحظات حتى راحت الصواريخ تنهال علينا من كل حدب وصوب. تركّز القصف على مساحة عشرة كيلومترات مربعة تنتشر فيها مغاور مسعود في سلسلة جبال الهندوكوش في سلطان شيرا. فاتصل مسعود باللاسكلي ليعرف ماذا يحصل، فقيل له ان الروس يشنون عملية مباغتة.
توقفت الصواريخ فجأة. ولكن بعد عشر دقائق وصل سرب جديد من طائرات "السوخوي 25" وبدأت تدك المنطقة دكّاً. بعد نصف ساعة، وصل سرب ثالث، وأفرغت طائراته ما في بطنها من قنابل. لم يكن في استطاعتنا ان نجمع شهداءنا وجرحانا. كانت الطائرات تصل فوق سماء المنطقة بأسراب يضم الواحد منها ما لا يقل عن 25 طائرة تتولى الإغارة على مواقعنا بكثافة رهيبة. فأيقن مسعود بأن الروس يُحضّرون لحملة شرسة بعد انتهاء القصف الجوي. بدأ يتصل باللاسكلي من داخل مغارته. أمر المجاهدين بأن يتسلقوا فوراً قمم الجبال التي لم يكن يقل علوّها عن ستة الآف الى سبعة الآف متر. كان يريدهم ان يصعدوا الى القمم لمنع حصول أي إنزال روسي محتمل. كان يريدهم ان يُفاجئوا الروس قبل ان يفاجئونا. فالهليكوبتر يمكنها ان تنزل في ساحة لا تتجاوز 20 الى 30 متراً، ولو استطاع المجاهدون المسلحون بقاذفات ال "آر بي جي" الوصول الى القمم قبل الروس فإنههم سيتمكنون من تعطيل أي عملية إنزال جوي.
صعد المجاهدون فعلاً الى قمم الجبال. لكن الحملة الجوية استمرت على حدتها. كان يفصل بين السرب الأول والثاني ساعة أو نصف ساعة. وظلت طائرات "السوخوي" تدك المنطقة 14 يوماً، مما أحدث ارتباكاً شديداً في صفوف قوات مسعود، حتى انه لم يعد بمستطاعنا الخروج للوضوء. كان يفصل باب المغارة عن النهر 50 الى 60 متراً، وهي في بطن الجبل، ولم يكن بامكاننا الهبوط منها الى أسفل الوادي للوصول الى النهر. كانت شظايا الصواريخ تسقط في الوادي وتتطاير عند سفوح الجبال الصخرية لكنها تتوقف عند مدخل المغارة. كنا محميين في داخلها. لكن لون الجبال المحيطة بنا صار ناصع البياض. كانت صخوره كالثلج، بعدما "نظّفتها" شظايا القنابل. ظللنا في هذا الجحيم 14 يوماً، من صلاة الصبح الى صلاة المغرب. أُنهكت قوات مسعود. لكن المشكلة الكبرى واجهت القوات التي صعدت الى قمم الجبال. ففي الأيام الأولى كان يمكن المجازفة بإرسال الطعام اليهم. لكن ذلك لم يعد ممكناً بعد اليوم الرابع. إذ لم يعد أحد قادراً على التحرك من مكانه.
وكان الروس يُركّزون قصفهم على النقطة التي يتمركز فيها مسعود. فانقطع الاتصال بالشباب فوق رؤوس الجبال. كانوا أربع كتائب تضم كل واحدة منها ما بين 15 الى 20 رجلاً. أذكر بينها كتيبة سيّد يحيى، رحمه الله الذي استشهد سنة 1990 في فتح خوجهاغار، على حدود طاجيكستان، على يد مدفعية جماعة مدفعية عبدالرشيد دوستم، وكتيبة الكوموندان مسلم، وكتيبة باناه، رحمه الله. انقطع الطعام عنهم تسعة أيام أمضوها يأكلون العشب وينتظرون وصول الروس. كانوا يعرفون ان كل هذا القصف انما هو للتمهيد للإنزال.
لم تكن هذه المجموعات من المجاهدين هي كل قوات مسعود. إذ ان مركز قوته الأساسي في وادي بانشير حيث تتبعه قوة تضم الآفاً عدة من المقاتلين. وقد خرج من بانشير لتخفيف الوطأة عن المنطقة بعدما أعلن الروس "عمليتهم الشرسة" لتصفية المقاومة فيها. أخرج معه نحو 150 مقاتلاً من النخبة، ولجأ الى مغاور سلطان شيرا. ويبدو ان الروس علموا، بعد ثلاثة أشهر من الدعايات والإشاعات عن اختفائه، انه مختبئ في سلطان شيرا فقرروا هجوماً مباغتاً على معقله في 1985.
...وبدأ الإنزال
كان اعتمادنا على القوات المتمركزة فوق قمم الجبال، وهمنا ضمان عدم أسر مسعود. فلو استطاع الروس إنزال قواتهم على قمم الجبال فكان ذلك سيعني أننا صرنا محاصرين. ظللنا على هذا الوضع 14 يوماً. في اليوم ال15 توقف القصف الجوي. ثم بدأنا نسمع هدير المروحيات. كانت تقترب منا. نظرنا من مغارتنا فرأينا الروس ينزلون على قمة الجبل المقابل والذي لا يبعد عنا أكثر من كيلومترين. كانت مهمة مجموعة السيد يحيى التصدي لهم. وصل الكوماندوس تحمله مروحيات عسكرية. كانوا يعتقدون بأنهم سيحتلون الوادي كله من دون خسارة بعد القصف الجوي طوال الأيام ال14 الماضية. لكنهم لم يكونوا يتوقعون ان يصبر الشاب فوق رؤوس الجبال كل هذه الفترة. لا بد من انهم تساءلوا: كيف يُعقل انهم ما زالوا أحياء بعد كل هذه الأطنان من القنابل التي رميناها عليهم؟ لكن المجاهدين كانوا سالمين على رؤوس الجبال، فالروس دكّوا بقنابلهم بطن الوادي فقط.
اقتربت قوة الكوماندوس من الجبل تُقلّها ثلاث طائرات. وما أن بدأت بإنزال العسكريين حتى اندلعت المواجهة مع المجاهدين الذين استطاعوا إسقاطها كلها في الدقائق العشر الأولى من المعركة. ضربوها بصاروخ "آر. بي. جي". فظن الروس عندها أن قمم الجبال كلها المحيطة بمكان الإنزال تعج بالمجاهدين. فانسحبوا الى الجبال الواقعة خلفنا وأنزلوا الكوماندوس هناك. وتحولت المعركة من الطائرات الى المدفعية.
كان الروس مهّدوا لمعركة سلطان شيرا بدخول مديرية شكاميش القريبة. نصبوا فيها مدفعيتهم وأطلقوا لها العنان في اتجاه منطقة مسعود التي تبعد أقل من 50 كلم. أطلقوا وابلاً رهيباً من الصواريخ، لكنهم لم يستطيعوا التقدم. واصلوا القصف أربعة أيام أخرى. عندها تيقّن مسعود انه مُستهدف. فقرر الإنسحاب الى منطقة أخرى. باشرنا الانسحاب ليلاً في اتجاه منطقة فارخار. وبما انه أصرّ على عدم ترك أثر يسمح للروس بتعقّبنا، لم يكن أمامنا سوى السير في وسط النهر الذي يفصل ما بين الجبال الشاهقة. حملنا كل شيء معنا، ولم تبق وراءنا سوى قوات خفيفة تؤخر تقدم الروس.
وكان علينا أن ننقل معنا ليس أمتعتنا وأسلحتنا والذخائر فقط، بل أيضاً الأسرى الروس والشيوعيين الذين كان مسعود يحتجزهم. إذ انه كان أحضرهم معه الى سلطان شيرا عندما اشتد عليه ضغط الروس في بانشير. لم يكن انهى محاكمتهم عندما بدأ الهجوم الجديد على سلطان شيرا، فأمر بجلب الأسرى معنا خلال عملية الانسحاب، وأفرد لهم ما لا يقل عن 20 مقاتلاً لحراستهم وتأمين حمايتهم خشية استغلالهم الارتباك الذي تُحدثه العملية الروسية فيفرون. كلّف بهم القائد محمد سيد خان وقال له: يجب ان يبقى هؤلاء آمنين في أي ظرف. لم ينته التحقيق معهم ولم نحصل بعد على المعلومات منهم، ولذلك أُكلّفك ضمان أمنهم وسلامتهم. عليك أن توصلهم الى فرخار، وتجد مكاناً آمناً لهم. فرد: هذه وظيفتي ولا تهتم بها. إذهب ودبّر رأسك وأخرج من المنطقة قبل وصول الروس.
انطلق مسعود مع قواته التي كانت أصلاً معه في "مغارة الإمارة". كنا نمشي في وسط النهر، والماء تصل الى ما فوق الركبة. لم يكن بوسعنا السير سوى في وسط النهر وفي الليل فقط. مشينا في واحدة من هذه الليالي طوال سبع ساعات حتى وصلنا الى منطقة مع طلوع الفجر. فتح مسعود عندذاك خيمته، وقرر النوم في ذلك الموقع. كنا نحو مئة، وبيننا جرحى ومرضى. كُنّا في حال يرثى لها، ومنهكين بعدما حملنا أمتعتنا وسرنا كل هذه المسافة. بعضالشباب أصرّ على حمل كل العتاد الذي كنا نملكه فلا يترك للروس. حمل هؤلاء الصواريخ على ظهورهم. كثيرون منهم حملوا فوق طاقتهم. لذلك، ما ان توقفت القافلة وفتح مسعود خيمته للمبيت حتى ارتمى المقاتلون في مكانهم. وضعوا رؤوسهم فوق أي صخرة وجدوها وحاولوا النوم.
كانت المنطقة صخرية. أشبه بحفرة في الأرض تُحيط بها الجبال من كل مكان. لذلك، اعتقدنا بأن المكان محمي جيداً، لأن الصواريخ ستصطدم بالجبال الأعلى منا ولن تصل الينا في حفرتنا في أسفل الوادي.
المطاردة والشهداء
ما نمنا ساعة، وكنت إلى جانب مسعود في خيمته، وهي لنفرين فقط، حتى بدأ وابل من الصواريخ ينزل علينا كالمطر في عمق الحفرة. وفي أقل من خمس دقائق سقط لنا أكثر من 20 شهيداً. تناثرت أشلاء جثثهم على الصخور التي تخضبّت بالدماء. كان منظراً لا يُمكن تخيّله. ويبدو ان قوات الكوماندوس التي كانت تلاحقنا من قمم الجبال الخلفية حددت مكاننا بدقة. لم تستطع قطع الطريق الأمامية علينا لأن قوات مسعود كانت متمركزة على القمم. فتوجهت الى سلسلة الجبال المقابلة وكانت تعطي التعليمات عن تحركنا من بعيد.
أصابتنا الصواريخ في وسطنا. احترنا أين ندفن الشهداء. فالمنطقة ليست ترابية لنحفر الأرض وندفنهم. المنطقة كلها صخور. جمعنا القتلى في مكان واحد ووضعنا فوقهم الصخور، وواصلنا الانسحاب في اتجاه فارخار وهي مديرية تابعة لولاية تاخار.
وصلنا اليها منهكين بعد سبعة أيام من السير. لكننا وجدنا أنفسنا أمام مشكلة جديدة. فالممر عبر الجبل الأخير الذي يفصلنا عن فارخار يقع في يد الحزب الإسلامي المختلف مع مسعود. لكن موقف المسؤولين عن الحزب كان رجولياً. فعلى رغم كل الخلافات بينهم، عرفوا أن مسعود تلقى ضربة من الروس وانه منهك مع قواته بعد اسبوع من الفرار، فوافق قائد الحزب الإسلامي على السماح له بعبور منطقته مع مجموعاته. عبر فارخار ونزل عند أحد القادة التابعين للجمعية الإسلامية.
بعد انسحاب مسعود من سلطان شيرا دخلها الروس واحتلوها. لكن عمليتهم كانت سياسية أكثر منها عسكرية. فالمنطقة لم تكن تعني شيئاً أصلاً لمسعود، وهو لم يلجأ اليها سوى لتخفيف الضغط عن معقله في بانشير. احتل الروس المنطقة لبضعة أيام. تجوّلوا في شعابها التي كانت مخابئ لقوات مسعود، وتعّرفوا إلى طريقة ترتيبه مغاوره. ثم غادروا.
بعد الانسحاب من سلطان شيراً، وجد مسعود نفسه محاصراً. فالروس يضربون بانشير بقوة في عمليتهم الضخمة لإنهاء المقاومة. وسلطان شيرا، نقطته الخلفية التي لجأ اليها طوال أربعة أشهر، فقدها أيضاً. وهو لا يستطيع الانسحاب في اتجاه باكستان، لأنها بعيدة جداً. وفي فارخار، كان آمناً بين مجاهدي الجمعية الإسلامية، لكن ولاء هؤلاء ليس له. فما يربطه بهم هو انتماؤهم جميعاً الى الجمعية الإسلامية بقيادة برهان الدين رباني. لكنهم ليسوا بانشيريين، ولا يستطيع بالتالي أن يأمر وينهى فيهم، مثلما يفعل بين أبناء منطقته في بانشير. فرأى ان لا بد له من استعادة الاعتبار وكسب المنطقة الى صفه. فقرر مع إثنين من أعيان المنطقة هما عبدالله كازستان وسيد هاشمي، وهما من الأصول العربية في أفغانستان، مهاجمة مديرية فرخار وفتحها.
وفي خلال أربعة أيام، جمع مسعود القادة وقرر شن هجوم مباغت على مركز المديرية. وكان يريد استغلال عامل الوقت، فالقوات الروسية والشيوعية المتحالفة معها مشغولة في سلطان شيرا. هاجم مسعود مركز المدينة، وفي خلال خمس ساعات سقط في يديه 150 أسيراً وفتح المنطقة واستولى على غنائم كبيرة. وحقق له ذلك رصيداً بين سكان المنطقة الذين يفتخرون بهذا الانجاز الذي حققه لهم.
العودة الى بيشاور
بعد نحو أربعة أيام، تركتهم منشغلين بهمومهم وقررت العودة الى بيشاور. فقد رأيت أموراً كثيرة وصرت على علاقة وثيقة بمسعود. فأردت ان أعود الى بيشاور لإبلاغ الشيخ عزام بالتطورات.
أبلغت مسعود قراري فوافق، لكنه رجاني ألا أطيل البقاء هناك لأكثر من شهر. رجعت الى بيشاور، لكنني كنت أعرف ان ما سأنقله الى الشيخ عزّام سيكون مختلفاً عما نقلته في المرات السابقة. كنت أريد شرح بعض الأمور المتعلقة بمسعود والتي لا يعرفها العرب. كنت أريد التحدث عن الحساسية الكبيرة بين الحزب الاسلامي والجمعية الإسلامية، وانه لو تم إصلاح ذات البين بين الحزبين ستنتهي المشاكل في أفغانستان. كان حكمتيار يدير من بيشاور كل صغيرة وكبيرة في أفغانستان، وله صلة مباشرة بقادته في الداخل، وسلطة مطلقة على شؤون حزبه. وكان لمسعود الأمر ذاته... وقدرته العسكرية والإدارية ورحابة صدره وقدرته على جمع الناس من حواليه، كل هذه الصورة عنه كانت غائبة في بيشاور. لذلك، أردت ان أسعى لدى الشيخ عزّام ليجمع الرجلين علّ ذلك يوحّد قوة المجاهدين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.
مواضيع ذات صلة