سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عبد الله أنس رفيق "أسد بانشير" يروي ل"الحياة" فصولاً من تجربته الأفغانية . ذهبت الى مسعود لأخبره بخلافات قادة حزبه ... فوجدته يعرفها بأدق تفاصيلها طلب الشيخ عزام مني الكلام أمام العلماء في مكة ... لكنني لم أقو على الوقوف الحلقة الثالثة
يروي عبدالله أنس في الحلقة الثالثة قصة رحلته الثانية الى أفغانستان ولقائه الأول مع أحمد شاه مسعود، "الأمير المحترم". وكان عاد إلى الشيخ عبد الله عزام في بيشاور من رحلته الأولى إلى مزار الشريف، حاملاً خريطة واضحة لتوزع القوى هناك. طلب الشيخ عبدالله عزّام مني في بيشاور أن أذهب معه الى مكةالمكرمة في موسم الحج 1985، لشرح ما رأيت في شمال أفغانستان للعلماء المسلمين الذين يجتمعون سنوياً في مبنى رابطة العالم الإسلامي. وكان الجهاد الأفغاني في ذلك الوقت مصدر الإهتمام الأساسي للأمة الإسلامية، ولم تكن هناك قضية توازيه اهتماماً. ذهبت معه الى مكة. وكنت قلت له، بناء على الانطباعات التي كوّنتها من خلال رحلتي في داخل أفغانستان عام 1984، انني أُقدّر حجم المساعدة التي يجب أن نطلبها، وهو ان يوفّر لنا العالم الإسلامي مئة داعية قادرين على إصلاح ذات البين يتوزعون على الولايات ال29 في أفغانستان. فليس كل داعية متخرّج من معهد شرعي يصلح للمهمة. يجب ان تدخل فيها القدرة والذكاء والعطاء، ويجب عدم إرسال دعاة يزيدون المشاكل ويُكفّرون الناس، مثلاً، لمجرّد قول كلمة "آمين" جهراً. فالأفغان يُسرّون بكلمة "آمين" بعد أن يقرأ الإمام الفاتحة، في حين يُجاهر بها أتباع المذاهب الآخرى. وصار بعض الناس يقول إن الأفغان مبتدعة وخارجون على السنة. ولذلك، لم نكن نريد دعاة يهتمون بهذا القدر من الأمور الفقهية المنتشرة في أفغانستان. وشعب بهذا القدر من السطحية والإيمان العفوي يحتاج الى نوع خاص من الدعاة المدركين الواسعي الأفق. كان مشروعي إيفاد مئة داعية من العالم الإسلامي نوزّعهم كل إثنين أو ثلاثة على ولاية، ويكونون حلقة وصل بين مشاركة الأمة الإسلامية والجهاد الأفغاني، إغاثياً ودعوياً وإصلاحياً. وما لم تكن في هؤلاء الدعاة سعة الأفق والذكاء، فإنهم سينحازون الى طرف ضد آخر وسيصيرون جزءاً من أي نزاع بين الأفغان. فالأولى أن لا تقف مع هذا الطرف أو ذاك، وأن لا تعادي لا هذا الطرف ولا ذاك. يجب ان نكون في الوسط ونحاول جهدنا ان نكون حلقة خير. وعلى هذه الأساس طلب مني الشيخ عبدالله أن أذهب معه الى مكة، في موسم الحج، لطلب مئة داعية. قلت له: أريد العودة الى مزار الشريف، فماذا يمكن ان أفعل في مكة؟ أنت العالم المعروف والخير فيك. فرد: لا. يجب ان تنزل معي الى مكة لأنك شاهد عيان على ما يحتاج الشعب الأفغاني. ذهبت معه الى مكة. وقف الشيخ عبدالله في مبنى رابطة العالم الإسلامي في عرفات وكان معظم علماء الأمة حاضرين. خطب فيهم، وكان الشيخ وقت ذاك رمز الجهاد الأفغاني، والأمة كلها تنتظر ماذا سيقول. جلست استمع إليه في الصف الثاني. وقف يتكلم، وقال انه جاء بشخص كان في مزار الشريف سينقل إليكم الأهوال التي رآها هناك وسيقول إن الجهاد الأفغاني بحاجة الى مساعدة أكبر مما تتصورون، وانه يطلب منكم ان توفّروا مئة داعية بمواصفات معيّنة "ثم حاسبوه عن الجهاد بعد سنتين من ذلك". وطلب مني أن أقف وأحدّث العلماء بما شاهدت. لكنني لم أقو على الوقوف. كان عمري لا يزال 25 سنة ولا أحد من الأمة يعرفني. فمن أنا حتى أتكلم في العلماء. لم أقو على الموقف ولم أر في نفسي القدرة على التحدث. فجلست وكسرت كلامه. لكنه لم يكن يراني. كنت آراه لأنه واقف على المنصة، أما أنا فكنت بين الحاضرين. وكان أحد الأصدقاء جالساً بقربي، فصار يحضني على الوقوف والتقدّم نحو المنصة. لكنني قلت له: "اتق الله". ظل الشيخ عبدالله يكرر طلبه أربع مرات والناس تنتظر مني أن أقف وأتحدث في المنصة. ويبدو ان الشيخ اقتنع أخيراً بأنني لن أقف فقال: "لا بد أنه استحى"، ولكن هذه هي رسالته لكم وهو يقول لكم إن الجهاد الأفغاني يحتاج الى كذا وكذا. بعد ذلك، وعلى انفراد، قدّمني إلى بعض الدعاة والعلماء وجلس بعضهم معنا وقدّم تبرعات إلى الجهاد الأفغاني. ثم عدت بعد هذه الرحلة مع الشيخ الى بيشاور. مزار الشريف مرة ثانية كنت قررت الذهاب إلى مزار الشريف مرّة ثانية. فبعد 20 يوماً من عودتي من مكة الى بيشاور، قلت للشيخ عبدالله: لا يمكن أن أرجع الى مزار الشريف وأنا لا أحمل شيئاً في يدي. فالناس جياع محرومون ويعلّقون علينا الآمال. فقال: إلامَ تحتاج؟ فكررت له انني بحاجة الى شخصيات يمكن أن تؤدي دوراً ايجابياً وتتمتع بمرونة وحنكة وصبر على الأفغان. وذكرت له أخاً تعرّفت إليه قبل ثلاثة أيام أو أربعة واُعجبت به كثيراً. قلت للشيخ عبدالله: هذا الرجل ربما كان على يده خير كبير في أفغانستان إذا دخل اليها. فقال لي: من؟ قلت له: وائل جليدان "أبو الحسن المدني". فقال: هذا الأخ كان يدرس في الولاياتالمتحدة وجاء لمساعدة الشعب الأفغاني، لكنني اعتقد بأن دوره في بيشاور قد يكون أهم بكثير من دوره في افغانستان. كم كان الشيخ عبدالله صاحب نظرة ثاقبة. إذ بعد سنة من هذا الحديث الذي دار بيننا رجعت الى بيشاور ووجدت أن صوت هذا الرجل لا يقل أهمية عن صوت الشيخ عبدالله عزام، وكان اسمه عند قادة الجهاد لا يقل طرقاً عن اسم الشيخ عزام، سواء عند برهان الدين رباني أم غلب الدين حكمتيار أم عبد الرسول سياف. وحتى في مكاتب الإغاثة كان هناك إجماع على تقدير دوره. ففي فترة قصيرة حوّل هذا الشخص الهلال الأحمر السعودي في بيشاور من مكتب ميّت للإغاثة الى مكان تعج فيه الحياة. بعدما اعتذر مني الشيخ عبدالله في موضوع طلبي إدخال جليدان الى أفغانستان، سألني: ماذا تحتاج؟ فأجبته: نحتاج الى أطباء. فرد عليّ: انت تعلم انني لست الآمر الناهي هنا. نحن نتعامل مع متطوعين. نُرغّبهم بالأجر في الآخرة، فإن فعلوا جزاهم الله خيراً وإن لم يفعلوا فإننا لا نأمرهم. أمامك المضافة، تستطيع أن تنقل الى الأطباء العرب الموجودين - وكانوا قلة - مأساة الجرحى الذين رأيتهم، فإن تأثروا لعلك تكون كسبت أحداً منهم تنقله معك الى داخل أفغانستان. فقلت له: حسناً. بدأت أدور على الأخوة. ذهبت أولاً الى الدكتور صالح الليبي، أحد الأطباء المتخرجين من بريطانيا. قلت له: ذهبت الى مولوي محمد علم في مزار الشريف ورأيت عنده مؤسسة طبية فرنسية تعمل على معالجة الأفغان، لكنها لا تكفي. وهم عتبوا جداً عليّ وقالوا: هؤلاء فرنسيون موجودون عندنا منذ أربع سنوات، فأين أخوتنا في الدين؟ أين أخوة الإسلام المفروض فيهم أن يكونوا هنا قبل غيرهم؟ ثم قلت له: إنني بالفعل محرج جداً وأخشى أن أعود الى مزار الشريف خالي الوفاض. فكّر الدكتور صالح في الأمر يومين ثم أبلغني موافقته على الذهاب معي. ففرحت. كان هناك أيضاً طبيب مصري يدعى الدكتور عبدالظاهر قال لي: أنا أيضاً سأذهب معك في سبيل الله. وهكذا حصلت على طبيبين. ثم ذهبت الى مقر الهلال الأحمر السعودي وحملت من عندهم بطانيات، الفين او ثلاثة الآف بطانية، وأحذية. وتوجهت بعد ذلك الى مقر الهلال الأحمر الكويتي وحصلت على مجموعة أخرى من المعونات. كذلك جلت على مؤسسات إغاثية أخرى. وجمعت ما يقرب من حمولة عشرين بغلاً من الأدوية. كما حملت بعض التبرعات من الشيخ عبدالله الذي كان جمعها بدوره من المحسنين. وقال لي: خذها معك، هذا نصيب الحزب الإسلامي، وهذا نصيب الجمعية، وهذا نصيب حزب الشيخ سياف وهذا نصيب هذا الحزب وتلك الجهة. وأذكر أن توزيع الحصص كان يُسبب بعض المشاكل، خصوصاً عندما يقول حزب من الأحزاب انه يستحق نسبة أكبر من التي يحصل عليها. وقد واجهت مشلكة بسيطة مع الشيخ سياف سرعان ما سُوّيت. فقد كان الخارج يعتبر ان الشيخ سياف هو الرقم الأساسي في أفغانستان لأنه كان أمير الاتحاد الإسلامي، وكانت الأمة الإسلامية تظن أنه الرقم واحد. ولكن ميدانياً، كانت حصة الأسد لحكمتيار ورباني. وهكذا، عندما دخلت أفغانستان للمرة الأولى نقلت هذه الصورة الى الشيخ عبدالله عزام وقلت له ان جماعة الحزب الإسلامي في مزار الشريف تحتاج الى كذا وجماعة الجمعية الإسلامية تحتاج الى كذا، وحزب الشيخ سياف يحتاج الى كذا، وهي نسب أُقابل بها الله يوم القيامة. لكن الشيخ سياف غضب وقال: لقد خدعك الحزب الإسلامي وأوهمك بأن لا نفوذ للاتحاد الإسلامي في مزار الشريف. فقلت له: لقد قمت بزيارات وبقيت عند قادتك ثلاثة أيام والنسب التي حددتها ليست فيها مبالغة. غضب الشيخ سياف من ذلك، لكن المشكلة زالت لاحقاً وتعرّف إلى الوضع في أفغانستان وكيف انه منقسم بين الحزب الإسلامي والجميعة. رحلة الصيف تحرّكت الى الداخل بقافلة لا بأس بها. لم تكن تغطي كل حاجات الشمال الأفغاني لكنها كانت معقولة. وإضافة الى المساعدات التي كنا ننقلها، كنت سعيداً بأنني نجحت في اصطحاب طبيبين: الدكتور صالح - استشهد رحمة الله عليه - والدكتور عبدالرحيم الذي بقي معنا عاماً في شمال أفغانستان ثم عاد الى باكستان وكانت له مشاركة حسنة نرجو من الله ان يجعلها في ميزان حسناتهم. واعتقد بأنه الآن في مصر. عدت الى مزار الشريف وكان الوقت صيفاً. قطعنا الطريق في نحو 30 يوماً. لم تكن هناك مخاطر كبيرة، إذ مع كل سنة من الجهاد الأفغاني كانت خطورة الطرق تقل. الاتحاد السوفياتي كان يضعف وكذلك قدرة الحكومة الشيوعية الموالية له. في حين كانت حركة المجاهدين تزداد مرونة. حتى وصلنا الى فترة صرنا نتنقّل فيها بالسيارات ولم نعد نخشى الروس وكمائنهم. ما أن وصلنا الى مزار الشريف حتى وجدت أن المشكلة التي تركتها قبل مغادرتي لا تزال قائمة: التنافس بين قادة المجاهدين على خلافة ذبيح الله. وكان لا بد من حل المشكلة بين المتنافسين الثلاثة، مولوي محمد علم الأمير الذي خلف ذبيح الله، علم خان نائب ذبيح الله، وعلم خان القائد العسكري. فعزمت مرة ثانية على الافادة من رصيد أحمد شاه مسعود. رجعت الى طرحي الأول، وذهبت الى مولوي علم وقلت له: ليست عندك حجة الآن لتحول دون ذهابي الى مسعود. أريد لقاءه. فقال لي: يمكنك ان تلتقيه. كلّف دليلاً اسمه عبدالقادر السيّار تأمين نقلي. وكان هذا طوال فترة الجهاد منذ 1979 حلقة الوصول بين مسعود وذبيح الله. كان ينتقل بين القائدين بمعدّل رحلتين في الشهر. يسير الى مسعود، ثم يعود الى ذبيح الله. وجدته على هذا الحال منذ ما قبل وصولي بخمس سنوات، وأُطلق عليه "السيار" لكثرة سيره. وبما ان بعض الاتصالات والتعليمات لا يمكن ان يُعطى بالشيفرة اللاسلكية خشية ان يكتشفها الروس، فكان هذا الشخص هو ناقل الأسرار العسكرية الخطيرة بين مسعود وذبيح الله، من بانشير الى مزار الشريف. كم عانى هذا الرجل في سبيل الله. كان يقطع كل شهر الطريق سيراً لمدة 15 يوماً ثم يعود كما جاء. ظل على هذا المنوال خمس سنوات، صيفاً وشتاء. مشيت مع "السيّار" 15 يوماً الى أن وصلنا الى منطقة حدودية بين بانشير وسلطان شيرا. كانت منطقة جبال شاهقة في سلسلة الهندوكوش. هناك اتخذ مسعود مركز قيادته، بعدما انسحب من وادي بانشير. فقد كانت القوات السوفياتية بدأت بالتنسيق مع وزارة الدفاع الشيوعية في كابول، في 21 نيسان ابريل 1985، حملة أُطلق عليها "الحملة الشرسة" لتصفية المقاومة في وادي بانشير. لذلك انسحب مسعود في تلك الفترة الى جبال الهندوكوش التي تمتد من شمال كابول الى الحدود الصينية، وهي سلسلة طويلة جداً وتضم جبالاً صخرية ارتفاع الواحد منها ما لا يقل عن سبعة الآف متر. وصلنا الى تلك المنطقة المعروفة بسلطان شيرا في وقت لم يكن أحد سمع بأي أخبار عن مسعود طوال ثلاثة شهور. كانت الاستخبارات السوفياتية ال"كي جي بي" تبحث عنه للقضاء عليه، فاختفى في تلك المنطقة. ومع مرور الشهور، إزدادت حيرة الروس. فانطلقت إشاعات تقول انه قُتل، في حين بثت إذاعة روسية أنه غادر أفغانستان الى أميركا لملاقاة الرئيس رونالد ريغان. لكن مسعود لم يكن غادر المنطقة الجبلية المتحصن فيها في سلطان شيرا. ولعل الكلام الروسي كان مجرد تكهنات لأن موسكو لم تكن تعرف مصيره. وهكذا تزامنت فترة وصولي لزيارة مسعود مع الحملة الروسية الضخمة لتصفية المقاومة في وادي بانشير. ما أن وصلنا الى منطقة سلطان شيرا حتى التقينا إحدى مجموعات المجاهدين. إذ كان مسعود وزّع قواته مجموعات تضم الواحدة منها 10 - 12 فرداً ونشرها على الجبال. كنا نحتاج الى مسيرة يومين أو ثلاثة حتى نصل الى الموقع الذي يقيم فيه مسعود. كانت الثلوج تصل الى الصدر، وكان المجاهدون يعرفون بالطبع عبدالقادر السيار الذي قال لهم: لقد جئتكم بضيف عربي مُرسل من مولوي محمد علم وكان موجوداً معنا في مزار الشريف وهو أصر على ان يرى مسعود. فقالوا له: انتظر. أبقونا عندهم في النقطة الأولى ثلاثة أيام، إلى أن أرسلوا إليه خبراً بوجودي او تلقوا الموافقة منه على السماح لي بالزيارة. كانت ملاحظتي الأولى عن هؤلاء المجاهدين انهم يختلفون عن المجاهدين الذين كنت أراهم في كثير من مناطق أفغانستان. ففي خلال تنقلنا في المناطق الأفغانية كنا نبيت كل مرة في مركز من مراكز المجاهدين، وكنت أرى فيهم البساطة والإيمان الأفغاني. لكنني لم أكن أرى وعياً. هنا، في سلطان شيرا، شعرت بأنني مع مجموعة واعية، لا تتولى القيادة، بل مسؤولية القتال. كانوا جنوداً عاديين. أعطاني ذلك صورة ان المنطقة التي أنا فيها ربما كان مقاتلوها أكثر علماً وثقافة من غيرهم. مجموعة المقاتلين التي رأيتها في هذا الوادي كنت أراها في المناطق الأخرى أمراء او قادة. فمثلاً، من بين الأسئلة التي طرحها عليّ أحدهم وكان يدعى حسين: هل يمكن ان تشرح لنا كيف أن الشعب الجزائري قاتل في سبيل الله لكنه لم يقم دولة إسلامية بعد الثورة. فالجهاد كان بإسم الله ضد الفرنسيين، لكن الثمرة لم تكن باسم الإسلام. عندما طُرح عليّ هذا السؤال تعجّبت. لم أتعود ان يسألني المجاهدون هذا النوع من الأسئلة. قلت لنفسي: كيف يعرف عن الجزائر؟ بعض المجاهدين الآخرين كان لا يعرف أين تقع الجزائر في خريطة العالم. كانوا مجاهدين بسطاء. سألني واحد منهم مرة: مَن الحزب الأقوى في بلدكم: بارشان أم خلق، الحزب أم الجمعية؟ كان يظن ان الحزبين الشيوعيين الموجودين في افغانستان موجودان أيضاً في كل انحاء المعمورة، وان الانقسام بين الحزب والجمعية ينطبق أيضاً على الجزائر. اللقاء مع مسعود كانت إذن أول مجموعة التقيتها تضم مثقفين، وكانت مجموعة قتالية ليست مُكلّفة الإعلام او السياسة. أخذت فوراً انطباعاً آخر عن نوعية المجاهدين هنا. بقيت معهم ثلاثة أيام، ثم قالوا لي: الأمير يطلبك. هناك لا يُقال "مسعود". فهو بين جنده وقادته "أمير صيب" فقط، "الأمير المحترم". وعلى رغم ان هذا التفخيم في الشخص ليس في عاداتنا وتقاليدنا، لكنني الآن وسط تقاليد قوم آخرين ويجب ألا أشذ عنهم. فصرت أقول مثلهم "أمير صيب" بدل مسعود. لم يكن لائقاً ان أطلق عليه تعبيراً آخر لا يطلقه عليه أبناء منطقته. وصلت إليه بعد مسيرة ثلاث ساعات. ما أن رأيته لاحظت تجاعيد وجهه. أعطاني وجهه انبطاعاً فورياً بأن الرجل ليس بسيطاً. كانت شخصيته مميزة. ابتسم لي، فابتسمت. قال: فارسي فهمي هل تتكلم الفارسية؟ قلت له: كم كم شوية شوية. فرد: "خاه خاه" وهي تعني بلغتهم "طيب طيب". كان الى جانبه عالم هو مولوي قاري وكان يتولى مهمة تدريس مسعود الذي كان، على رغم كل هذه الظروف وتحت وطأة الحملة الروسية عليه، لا يترك الحصة الدينية. فيتلقى ساعة كل يوم في درس المذهب الحنفي. لماذا؟ لأنه كان مطلوباً من كل قائد أن يكون على معرفة بالفقه الديني في المذهب الحنفي. فلا يُعقل أن تكون قائداً للأمة وأنت لا تعرف مذهبها. ولم يكن مسعود متخصصاً في الفقه، إذ انه درس "بوليتكنيك" كان مهندساً. وعلى هذا الأساس، كان الدرس الديني أمراً ملحاً عليه الى أقصى الحدود. وكان على هذا العالم المسكين، مولوي قاري، أن يبقى مع مسعود كل يوم ليعطيه الدرس الديني، على رغم ان "أمير صيب" كان يتنقل كل يوم من مكان الى آخر بما يتناسب وحجم المؤامرة التي يتعرض لها مثل محاولة القبض عليه او قتله. كانت حياته كلها محفوفة بالخطر. لكن معظم تحركه في ذلك الوقت انحصر بسلسلة جبال شيرا التي يمكن التنقل فيها مسافة أربعة أيام قبل الانتقال الى منطقة أخرى خارجها. سألني مسعود، وكان مولوي قاري يتولى الترجمة: من أين انت؟ أجبت: من الجزائر. قال: ما اسمك؟ قلت: عبدالله أنس. فقال مسعود بالفارسية: هل انت قارئ القرآن؟ قلت: أحاول. قال: هل يمكن أن تتلو علينا بعض الآيات لأسمع تلاوتك. فتلوت أواخر سورة آل عمران. فقال للمولوي مازحاً: يبدو أن مكانتك راحت من اليوم! فرد مولوي: نحن لن نمانع في ان نتعلم من إخواننا العرب، فهم يتلون القرآن أفضل منا. فقال لي مسعود: من الآن فصاعداً سآخذ منك كل يوم مع صلاة الصبح نصف ساعة في التجويد. فأجبته: إنني باق معك قرابة عشرة أيام فقط لأنقل إليك بعض الملاحظات التي عندي ثم أعود الى مزار الشريف. فأجاب: إنني أعرف لماذا جئت الى هنا. أعرف ما يحصل في مزار الشريف بدقة. لقد ضُربت ضربة قوية جداً باغتيال ذبيح الله، الرجل القوي الذي كنا نعوّل عليه في تجييش الشعب هناك. لا تتصور حجم الضربة التي تلقيناها بخسارته. ثم أخرج من عنده بعض الصور لذبيح الله وقال لي إن الراحل زاره مراراً في بانشير. وتابع: لست بعيداً عما يحصل في الجبهة. إنني متابع لما يجري فيها بكبيرها وصغيرها. لكنني اعجب كيف أنك أنت العربي، صاحب الخبرة الصغيرة مع إخواننا في مزار الشريف، وصلت بهذه السرعة الى ملاحظة حجم التنافس بين قادة المنطقة. فقلت له: إن ما لفت انتباهي إليك هو أنني سمعتهم جميعاً يتكلمون عنك بإعجاب فقلت لعلك تُساهم بفعل ما لديك من رصيد بينهم. هذا ما دفعني إلى إن أذهب إليك. بعد ذلك طلب مسعود من "السيار" ان يرجع الى النقطة الأولى التي استُقبلنا فيها. التفت الى مسؤوله المالي وطلب منه أن يوقع على ورقة لكي يُصرف بعض الأموال ل"السيار". ثم نظر اليّ وقال: مكانك هنا، لن تغادر بعد الآن. ستعيش معنا، او تستشهد معنا. مصيرك مصيرنا. وأضاف: يحز في نفسي أن العرب والمسلمين لا يأخذون قسطهم في هذا الجهاد المبارك، وانهم يتخلون عن إخوانهم في أفغانستان. ليس عندنا عدد كبير من العرب. فليس هناك سوى أنت الآن بعد أبي عاهد. وهذا أحد الشباب الأكراد العراقيين الذي كان معهم منذ فترة، وكان يدرّبهم على القرآن. ثم قال لي مسعود: لقد زارنا قبلك أحد الأخوة الأردنيين جزاهم الله خيراً، لكنه لم يمكث، بل عاد الى باكستان. وآمل أن تبقى معنا هنا. ولا أخفي سراً إذا قلت إنني كنت اُعجبت بمستوى الفرقة الأولى من المجاهدين وبدأت أشعر بأنني أقرب اليهم من غيرهم. كنت أشعر بنفسي غريباً في المناطق الأخرى. أما الآن فبدأت أشعر بأنني قريب من عقلية هؤلاء الرجال. وعندما قابلت مسعود ورأيت جاذبيته وبساطته وتواضعه على رغم كل الهالة التي كنت أسمعها عنه في الولايات قبل وصولي اليه... قررت ان أبقى معه. وكان ذلك في 1985.