لندن - "الحياة" - إذا كان الحلاج، الشاعر الجليل، الثائر بأشعاره ونثره قد أشعل مخيّلة الفنان هاني مظهر وحفّزه على الابداع والعمل، فإن مساحة الحرية في لندن، والثقافة الفنية السائدة أعطته حوافز أخرى. بعد سنتين من آخر معرض له، يقيم الفنان العراقي هاني مظهر معرضاً جديداً في قاعة الكوفة نفسها في لندن، يحتوي 30 لوحة منفّذة بالزيت والإكليريك استوحاها من اجواء وتراث الشاعر الصوفي الحلاج. ومن يشاهد أعمال الرسام مظهر تتبادر الى مخليته تلك القصائد الصوفية التي يستوحيها محوّلاً فضاءها اللغوي الى مناخ من الاشارات والرموز. يقول مظهر ان المعرض كان مقرراً لمدة اسبوع واحد يبدأ في 17 تشرين الاول أكتوبر الجاري. إلا ان ادارة القاعة ارتأت تمديده حتى الثلاثين منه وإقامة ندوة عن الحلاج، يشترك فيها الكاتب رشيد خيون وأحد الباحثين الإنكليز وهو شخصياً. ويشير الى ان المعرض سيحوي كتاباً اسمه "كتاب السر" جمعت فيه شذرات من حياة الحلاج ومختارات من شعره ونثره مرفقة برسوم منفذة بواسطة الكومبيوتر، وقد طبعت عشر نسخ فقط من الكتاب. القول والفعل معاً يعتقد مظهر ان الحلاج قتل بسبب ما كان يقوله ويبوح به: "صوفيون كثر كانوا قبله وبعده، لكن السلطات لم تقربهم او تحاكهم. الحلاج وحده كان نسيج ذاته، يحرّض على المستغلين وعلى مرتكبي الظلم وغير العادلين من الحكّام والولاة. لقد كانت امنية الحلاج ان يفنى بالمعشوق وكان يصيح ويلهج في الأسواق والمنتديات بذلك. إذ جاء عنه انه كان يردد "يا أهل الإسلام أغيثوني، فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه". ويبدو ان سلطات ذلك الزمان قررت تحقيق أمنيته هذه، بعد أن أعياها بعدم صمته أو سكوته عما تفعل وترتكب من خطايا. عن وصوله الى الحلاج الصوفي يقول مظهر الواقعي: "لم آخذ الجانب الديني في الحلاج، بل اقتربت من اجوائه الفكرية، وطرحت على نفسي سؤالاً: كيف أصل الى مقاربة بصرية لنصوص الحلاج؟ وبحثت عن مفاتيح وإشارات في النصوص منها: نظري بدء علّتي / ويحُ قلبي وما جنى ان نصوص الحلاج مفتوحة على كل الاحتمالات. صعبة وعصية على الفهم، هذا صحيح، لكنها توحي وتومئ وتشير، فيها التماعات غير محسوسة وغير مُدركة. باختصار فيها متاهة، لكن في الوقت نفسه فيها ما يمكن ان يُشعل المخيّلة. لقد وجدت فيها طليعية وتقدماً اكثر من الحياة الواقعية، نصوصه مفتوحة لا تقيّد، وأنا آخذ منها الايحاءات، انا لا اترجم، بل استوحي، ارصد حالات هي اقرب الى الحالات الذهنية وأحوّلها الى ترجمة بصرية. ان اللوحات لوحاتي، وأثر الحلاج فيها هو ما استقر في نفسي من نصوصه ولمعاته". ويقرّ مظهر بخسارة الواقعية في داخله، "ان ما يُعاش واقعياً لم يعد كافياً لملء تصوراتي، ولم يعد يسد حاجتي بصرياً وروحياً وحتى تقنياً". ويضيف: "لقد تقدمت التقنيات وأصبحت الواقعية قيداً، وأنا احتاج الى أبعاد اكثر عمقاً، الى عمق روحي لا يخضع الى قوانين المنظور الهندسي، فوجدت ذلك في نصوص الحلاج ... ان التكرار والنمطية هما متقل الفنان، المراوحة والصيغ الجاهزة لا تضيف جديداً، وأنا عليّ ان اجد نفسي لكن من دون ادعاء او حذلقة او نقل اعمى او تكلّف. انا اجرّب ... والحكم في النهاية على النتيجة وعلى الانجاز. اللوحة بمفهومها المعاصر عربياً حديثة، ولا توجد تقاليد للرسم عربياً موغلة في القدم، الى درجة اننا ما زلنا نستعمل تعبيرات "قراءة العمل الفني" بدل ان نشاهد ونبصر ... كأنه من المعيب ان تقول نظر! اي كأنك تبصبص بصبصة". ورداً على سؤال عما اعطته إياه الغربة والتنقل القسري بين البلدان وصولاً الى لندن وتأثير ذلك في فنّه، يقول: "دائماً اقول ان الماء الراكد يأسن، وأنا ماء جارٍ، او على الأصح عليّ ان أكون كذلك. لا شك ان وجودي في لندن فيه نقلة كبيرة في حياتي، وعليّ ان استفيد من ذلك. غربة تعلّم على الروح ... هذا صحيح، مع ذلك علينا ان نعيش وأن نتعايش ونستفيد ونأخذ ونتفاعل مع ما يمكن ان يغني تجاربنا واجتهاداتنا واحتياجاتنا. الفن في هذه البلاد جزء من الحياة اليومية للناس، بل هو جزء من تكوينهم. وما دامت الحال كذلك ... فإن ما يسمى بهالة اللوحة وهيبتها يصبح هنا عادياً. ويتم التعامل معها ككائن مألوف. في حين ان اللوحة والمتحف في بلادنا لهما هيبتهما وهالتهما كأنهما حيوان خرافي. لو أردنا تبسيط الأمور فإنهما غير مألوفين ولا يمثلان تكويناً لازماً في حياة الفرد الثقافية". ويستطرد: "ان كسر الهيبة وفّر لي مساحة من الحرية، وفك أربطة ملتفّة على مخيّلتي وجعلها تمارس دورها بقيود اقل. لا اخفي عليك بأنني كنت أتصنّع وأصنع اللوحة من قبل كي أرضي جمهوري الذي له ذوقه ومفهومه للوحة، اما الآن فإنني لم أعد اتكلّف او اتصنّع. ذوقي ومخيّلتي ورغبتي واجتهاداتي واحتياجات اللوحة هي التي أراعيها وأعطيها الأولوية". ويختم مظهر بالقول: "من المؤكد ان للجمهور هنا ثقافته الفنية المختلفة عما نعرف وعايشنا في بلادنا. له ذوقه وفهمه للوحة، لكنه جمهور بالنسبة إليّ مجهول، لا يقيّدني بشيء، ولا يفرض عليّ تقديم كشف حساب عن هذا او ذاك. الحكم على اللوحة هنا هو على ما فيها، لا على ما هو خارجها. وهذا انعكس في عملي، اصبحت اكثر حرية، وقلّ التصميم في اللوحة، وأشعر ان الجمهور - على رغم جهلي به - عنده قابلية لأن يفهمني ويفهم ما أعمل وأنجز. لأن حكمه ينبع من واقع فيه حرية رأي وشجاعة قول".