تراكمت لدى الغالبية من الناس في الأشهر الأخيرة رؤية متشائمة تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي سبّبتها سياسات إسرائيل الاستفزازية وممارستها العدوانية وانتهاكاتها المستمرة التي اتخذت صورة منتظمة تصل إلى حد نطلق عليه "إرهاب الدولة"، حتى كادت تجمع آراء الساسة والخبراء والمتخصصين على نظرة قاتمة لمستقبل منطقة الشرق الأوسط بلغت درجة اليأس من إمكان التعايش المشترك بين اليهود والعرب، فضلاً عن إحساس عميق بأن فرص اتفاق السلام تتقلص، وما يتاح منها لا تتحقق له فرص الوجود، ولا يتم الالتزام به أو الاتفاق حول مضمونه. وهذه رؤية لا نجادل فيها كثيراً لأن الواقع يقدمها بشكل مباشر عندما يتابع الناس الأحداث الدامية في الأرض المحتلة على شاشات التلفزة وفي صدر الصحف. فالتطور في وسائل الإعلام المرئية والسمعية والمقرؤة قد وضع الحقائق بالصوت والصورة أمام ملايين البشر بشكل جعلهم تلقائياً طرفاً مباشراً في الحكم على ما يجري والإحساس بنتائج ما يدور. وإذا أردنا أن نستسلم لهذا الواقع بهمومه وآلامه وأحزانه فإن ذلك يكون مدعاة لشيوع روح الاحباط وانتشار عدوى اليأس، بينما أظن أن اعتماد رؤية مغايرة قد يكون في النهاية أفضل بكثير من تلك التي وقعنا أسرى لها، وهنا أدعو إلى النظر بموضوعية الى مسار الصراع العربي - الإسرائيلي مؤكداً أن إرادة الصمود الفلسطيني وروح التضامن العربي اجهضتا مخططات اسرائيل طويلة المدى ،حتى أن الأخيرة لم تتمكن من قطف ثمار عدوانها الدائم وانتهاكاتها المستمرة وسياساتها التوسعية، بينما ظلت القضية العربية حية في الضمير الإنساني مؤثرة في المجتمع الدولي. وقد يقول قائل "إن الجانب العربي أضاع فرصاً كثيرة ورضخ في مواقف عدة، وهنا يكون القول تحكمياً لا يعبر عن الواقع ولا ينطلق من الحقيقة، فلقد دفع العرب عموماً والفلسطينيون خصوصاً واحدة من أغلى فواتير النضال المعاصر ولم يستسلموا أبداً ولم يقبلوا يوماً ما لا ترضاه قوميتهم وأوطانهم ودياناتهم. ثم دعنا نأخذ الأمر من منظور آخر، فلفترة قريبة لا تتعدى سنوات قليلة كان هناك من يتحدث عن منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها منظمة إرهابية، ويشير إلى رئيسها باعتباره مطلوباً في عدد من الدول في مقدمها إسرائيل، حتى بدأنا ندرك أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فلقد تبدلت الأمور وتغيرت الأوضاع بفضل الاصرار العربي والنضال الفلسطيني والتأييد الذي تمتعت به القضية العربية في المحافل العالمية والمنظمات الدولية. لذلك فإنني لا أتحمس للنغمة التي تتردد كثيراً وتدور حول مقولات من نوع أن العرب أمة ضائعة، وأن الفلسطينيين هم ضحايا العصر، وأن الحقوق لن تعود، وأن الأرض سُلبت بشكل لا رجعة فيه. فهذه النغمة المغرقة في التشاؤم، المفرطة في الإحباط هي واحدة من السموم التي تندرج تحت بند الحرب النفسية التي يشنها أعداؤنا علينا. إنني أطالب بتأمل مختلف لتطورات الصراع العربي - الإسرائيلي أصل فيه الى نتائج مختلفة تماماً، فقد كان العرب دائماً والفلسطينيون - في مقدمهم - بالمرصاد لأطماع اسرائيل ومن يدعمون مسيرتها ويساندون سياستها. ورغم اختلاف الاجتهادات العربية وتباين الرؤى السياسية لبعض أقطارها تجاه اسلوب مواجهة الصراع مع إسرائيل بين السياسة والحرب، إلا أنني لا أعتقد أن هناك من فرط عن عمد بحق أو باع القضية. وكما قالوا قديماً "إنه لا يضيع حق وراءه مطالب"، لذلك فإن القضية ظلت حية في الضمير العالمي، مشتعلة في العلاقات الدولية والاقليمية، ولم تمكن إسرائيل أبداً من حصاد زرعها الشرير وتحقيق أهدافها الخبيثة. فعلى امتداد خمسين عاماً كاملة أو ما يزيد ضحى العرب بما يملكون وما لا يملكون من أجل قضيتهم القومية الأولى حتى تعطلت برامج الاصلاح الاقتصادي، وتعطّلت مشاريع التنمية، وتحوّل بعض الدول العربية، بسبب أعباء الحروب وفواتير المواجهة، إلى أوضاع لم تكن منتظرة لها على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، ولعلي هنا أبدي بعض الملاحظات على توجهاتنا السياسية المعاصرة وأساليب علاجنا لهذه المرحلة الحسّاسة من المواجهة مع إسرائيل: - أولا: ان قضية "القدس" اكتسبت في الأشهر الأخيرة قدراً من الأهمية لم تعرفه عبر تاريخها كله حتى استقر في ضمير المجتمع الإنساني كله - ربما بغير استثناء - أن المقدسات الإسلامية والمسيحية لا يمكن أن تكون تحت السيادة الإسرائيلية وأن "القدسالشرقية" هي العاصمة الطبيعية للدولة الفلسطينية، ورغم أن إسرائيل تحاول، كالمعتاد، وترفض بأسلوبها المعروف القبول الكامل بذلك، إلا أن انتفاضة الأقصى وضعت قضية "القدس" في مكانها الصحيح رغم الآلام والدموع والدماء التي قدمها شعب مناضل في أرضه المحتلة. - ثانياً: إن مسألة اللاجئين ليست هي الأخرى جديدة على ساحة الصراع العربي - الإسرائيلي، ولكنها ظلت دائماً في قلب القضية الفلسطينية مع تأجيل مستمر للغوص فيها لحين الوصول إلى المراحل النهائية للتسوية، أصبحت هذه المسألة برمتها واحدة من أهم نماذج معاناة العصر بشقيها سواء الفلسطينيون الذين يعيشون في المخيمات على امتداد نصف قرن كامل أو الفلسطينيون الذين يعيشون في الشتات خلال الفترة نفسها، لذلك فإن "حق العودة" يصبح مطلباً لا تنازل عنه ولا تفريط فيه، ليس فقط تطبيقاً للشرعية الدولية ولكن لأن ذلك يمثل واحداً من أبسط حقوق الإنسان في كل زمان ومكان. وقد يقول قائل إن حجم مسألة اللاجئين أو حتى مسألة النازحين لا يعبر بالضرورة عن الحجم الحقيقي للمشكلة، فقد لا يستهوي تطبيق "حق العودة" كل من ترك الأرض الفلسطينية أثناء المواجهات الدامية بين العرب وإسرائيل، إذ أن نسبة كبيرة منهم استوطنت في دول عربية وأجنبية وأصبحت لها مصادر رزق، ومشاريع للدخل، وأجندة مختلفة للحياة. ولكن التطبيق العملي لذلك هو أن يصبح من حق أي مواطن فلسطيني أن يعود متى شاء إلى بيوت آبائه وقبور أجداده، كما أن مسألة وجود آلاف عدة من الفلسطينيين في الأراضي اللبنانية هو بُعدٌ آخر من أكثر أبعاد هذه المسألة تعقيداً وصعوبة، والحل ليس اقتصادياً يقوم على اجراءات مالية كما تلوح الإدارة الأميركية أحياناً أو إسرائيل أحياناً أخرى، بل الحل سياسي بالدرجة الأولى يستند إلى قواعد الشرعية ومنطق القانون الدولي. - ثالثاً: انني أحسب أن رسالة الشارع العربي في الأشهر الأخيرة وصلت إلى كل الأطراف، فلقد تأكدت إسرائيل ومن يدعمها أن المواطن العربي لن يقبل العبث بمقدساته أو سرقة أرضه أو إبعاد الفلسطيني عن وطنه، بل انني أظن أن الولاياتالمتحدة الاميركية، وربما أيضاً إسرائيل، لم تكن تضع في اعتبارها ردود الفعل العربي الأخيرة سواء على المستويين الشعبي أو الرسمي، فحتى الدول العربية المعتدلة والتي ترتبط سياساتها طويلة المدى بإطار صداقة تقليدية مع الولاياتالمتحدة الاميركية، وكذلك الدول الأخرى التي تقيم علاقات مع اسرائيل - مهما كان مستواها - بدأت كلها تعيد النظر في توقعاتها للموقف العربي ورد الفعل الفلسطيني تجاه تصوراتهم للمراحل النهائية من التسوية السلمية. - رابعاً: إن أحداث الأشهر الأخيرة أتاحت لأي مراقب عربي متابع لتطورات مواقف الدول الأجنبية واتجاهات الرأي العام العالمية أن يدرك أن هذا الأمر يحتاج منا الى دراسة جديدة تقوم على الوعي بالمتغيرات واستيعاب الحقائق التي طرأت على الساحتين الدولية والاقليمية. فلقد كان ملفتاً للنظر أنه في وقت يتساقط الشهداء الأبرياء من المدنيين الفلسطنيين، وتجري عمليات الإعدام العلنية للأطفال بآلة الحرب الإسرائيلية الغاشمة، في ذلك الوقت وفي ظل كل هذه الأحداث الدامية لم يكن حجم التعاطف الدولي مع الشعب الفلسطيني مساوياً للتوقعات نفسها ولا لدرجات القياس على الماضي. وهذا يعني أن لدينا قصوراً حقيقياً في الخطاب السياسي العربي المعاصر إذ أنه يبدو بعيداً عن العقل الأوروبي أو الصيني أو الهندي وربما بعيداً أيضاً عن أجهزة الاستقبال السياسية لدى عدد من الدول الافريقية، بل والإسلامية.، وإذا كانت اسرائيل برعت في اللعبة الإعلامية وقطعت شوطاً كبيراً في عملية مدروسة لتزييف الحقائق وتشويه الصورة العربية والفلسطينية، فإن ذلك يلقي علينا، بالضرورة، عبئاً اضافياً يستلزم منا إعادة النظر في جهاز الإرسال الفكري للرسالة السياسية العربية حتى تمضي على الموجات نفسها التي يجري استقبالها بها لدى الأطراف الأخرى خصوصاً وأنه لا تعوز معظمنا الامكانات المادية في ذلك، كما أن عنصر الخبرة الأجنبية لتحقيق هذا الهدف قابل للاستئجار والاستخدام والتوظيف إذا كانت الحاجة إليه ضرورية. - خامساً: لا زلتُ أرى أن دورية انعقاد القمة العربية التي أقرت في مؤتمر الملوك والرؤساء والأمراء في القاهرة في تشرين الأول اكتوبر 2000 ستكون نقطة تحول في القيادة الرسمية للسياسات العربية لأن اللقاء السنوي يعني في حد ذاته أن هناك أمة عربية تتحرك بوعي وتتمكن من تقديم الصورة اللائقة للعرب في القرن الحادي والعشرين، ومهما أفرزت تلك القمم العربية من قرارات أو تمخضت عن توجهات أو توصيات إلا أنها ستعبر في النهاية - ولو رمزاً - عن الحد الأدنى من وحدة الصف العربي الذي يجب أن يكون هو الشكل الطبيعي للعلاقات المتبادلة بين دول أمة واحدة تجمع شعوبها كل الروابط المعروفة في العلاقات بين البشر عبر التاريخ كله،. وقد يكون من حسن الحظ أن دول الخليج العربي وفي مقدمها الكويت أخذت تجدد نظرتها القومية تجاه مسألة الحصار الطويل على الشعب العراقي وهو ما يعني الأمل في مصالحة عربية شاملة تقوم علي مصارحة قومية واقعية. *** إن خلاصة ما أريد أن أذهب إليه مع هذه السطور هو أن انتقل بالرؤية العربية لتطورات الصراع مع اسرائيل من جانبها السلبي إلى جانبها الايجابي، كما أنني أريد أن يكون تحركنا محكوماً بالأمل الذي يستند الى الشرعية. أما اللغة المنتشرة في كثير من الأوساط العربية الآن والتي تقوم على الإغراق في التشاؤم والاستسلام للاحباط فإنني أراها جد خطيرة على المستقبل العربي كله، إذ لا بد من توظيف عائد "انتفاضة الاقصى" إلى تطور حقيقي للدور العربي في الصراع مع اسرائيل، خصوصاً وأن ذلك الصراع يدخل بكل المقاييس مرحلة متقدمة للغاية يجري الغوص فيها داخل أعماق الصراع وقضاياه السياسية وفي مقدمها مسألتا "القدس" و"اللاجئين"، ولذلك يكون طبيعياً أن يحتدم الصدام وأن تكشف اسرائيل عن جوهرها العدواني المعروف، وسياساتها الاجرامية التاريخية، لأن تصرفاتها العصبية وانتهاكاتها اليومية تدل على انها تفقد ولا تربح، وانها تخسر ولا تكسب. وهذه في ظني أكبر دلالة على أن عنصر الزمن على المدى القصير هو في مصلحة العرب إذا نجحنا في استثمار نتائج الانتفاضة ودماء الشهداء من أجل استعادة الحقوق، واسترداد الأرض، ورفع راية الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف. * كاتب قومي، وعضو البرلمان المصري.