إنني ممن يظنون أنه ما امتزج الدين والسياسة إلا وكانت النتيجة سلبية عليهما معاً، وأنا ممن يظنون أن علينا أن ندع ما لله لله وما لقيصر لقيصر، فالدين كالماء سائل مطلق تنسب إليه السوائل الأخرى، أما السياسة فهي كالزيت بلزوجته ودهونه بل وتلوثه أيضاً، وخلط المطلق مع النسبي له نتائج سلبية على كليهما كما أثبتت ذلك تجارب الأمم والشعوب والمجتمعات، فالدين إيمان عميق يقوم على علاقة بين المخلوق وخالقه وهو إيمان يقر في القلب ويصدقه العقل فهي علاقة مطلقة لا تقبل الجدل ولا تخضع للاختيار، أما السياسة فهي تعرف الألاعيب والأكاذيب والمناورات لأنها مسألة نسبية تخضع لظروف المكان والزمان، لذلك كنت ولا أزال وسوف أبقى محذراً من خلط الدين بالسياسة حتى في القضايا الوطنية، فالدين ينبغي أن يكون في عليائه مرتفعاً عن الصراعات الدنيوية بينما تظل السياسة هي «فن الممكن» في دنيا البشر. وقد يقول قائل كيف تعزل الدين وهو ذلك المخزون الروحي الكبير عن القضايا الوطنية والحقوق المشروعة للشعوب؟ وهنا أستدرك مباشرةً لكي أقول: نعم، يبقى الدين حافزاً للجماعات البشرية لدفعها نحو نيل حقوقها العادلة من دون استخدام حججه أو التلويح بنصوصه بل يجب فقط أن يظل هو ذلك الرصيد الضخم في الضمائر يدفعها نحو إقرار الحق وتحقيق الحياة الأفضل، وسوف أعطي مثالاً هنا يوضح رؤيتي للأمر: فعندما نتحدث عن قضية القدس مثلاً فإننا نؤمن أن لها جوانب سياسية ودينية وثقافية ولكننا نبدأ من الجانب السياسي قائلين إن القدس أرض محتلة شأنها شأن باقي أراضي الضفة الغربية التي جرى احتلالها في الخامس من حزيران (يونيو) عام 1967 لذلك ينطبق عليها ما ينطبق على الأراضي العربية المحتلة منذ ذلك اليوم المشؤوم، من هنا فإن قراري مجلس الأمن 242 و338 ينطبقان على الجزء المحتل عام 1967 من المدينة المقدسة ولا بد أن تبدأ الدفوع العربية دولياً وإقليمياً بالحجة السياسية ولا بأس بعد ذلك من أن نتبع الطرح السياسي بالمطلب الديني المتصل بالمقدسات الإسلامية والمسيحية في تلك المدينة التي يتجه إليها أبناء الديانات الإبراهيمية الثلاث، أما إذا جئنا بالعربة أمام الحصان وقلنا إن القدس هي مدينة المسجد الأقصى وقبة الصخرة وإنها مسرى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وهذا كله صحيح، ثم قال المسيحيون إن فيها مقدساتهم حيث تقف كنيستهم التاريخية شاهدة على تاريخ الإيمان المسيحي وهذا كله صحيح كذلك، فإن اليهود سوف يقولون أيضاً إنهم مرتبطون بحائط المبكى (البراق) مدفوعين بأهدافٍ صهيونية أكثر منها دوافع يهودية، وبذلك سوف نجد أن تديين مسألة القدس قد أجهض إلى حد كبير أساليب الدفاع عن الحق العربي ونقلها إلى عملية جدلية يدافع فيها كل طرف عن مقدساته ومعتقداته من منطلق إيمانه الروحي، وهذه نقطة خطيرة قد تتساوى فيها الحقوق وتتداخل الحجج وتغيب الحقيقة، والآن دعونا نشرْ إلى بعض الملاحظات في هذا السياق: أولاً: إن الخلفية التاريخية للصراع الديني في فلسطين وحول القدس تحديداً قد احتل جزءاً كبيراً من مساحة الذاكرة التاريخية لشعوب المنطقة، فحروب الفرنجة المسماة خطأ بالحروب الصليبية لا زالت قابعة في وجدان المسلمين الذين يظنون أن تلك الغزوات الاستعمارية الأوروبية قد استترت بالصليب حتى تحيل مهمتها إلى جهاد مقدس سعى للاستيلاء على الأماكن المقدسة من أيدي العرب والمسلمين، وفي ظننا أن ذلك كله كان جزءاً من المخطط الاستعماري الذي يستخدم الدين من أجل تضليل الرجل العادي في الشارع الأوروبي بابتزاز مسيحيته واستخدام مشاعره الدينية للتجهيز لحملات عسكرية توظف الدين لخدمة الأطماع الدنيوية. والمنطق ذاته نجده الآن واضحاً في الصراع حول القدس والحجج التاريخية المتضاربة حول تلك المدينة المتميزة لدى أتباع ديانات أهل الكتاب كافة. ثانياً: إن إقحام الحجة الدينية لتحصيل الحقوق السياسية ليس أمراً ناجحاً في كل المناسبات بل هو محاولة محفوفة بالمخاطر تنقل الصراع من ساحته الوطنية إلى رؤيته الدينية وتختزل القضية القومية في بعد ديني هو استبعادي بطبيعته لأنه يركز على حقوق البعض ويغفل الجزء الباقي من مشاعر شركاء الوطن ويقسم النظرة المشتركة تجاه الهدف القومي الواحد وفقاً للتوظيف الديني للقضية التي يجب أن يلتف حولها الجميع انطلاقاً من مفهوم «المواطنة» وحده. فعندما نتحدث الآن عن عدوان إسرائيل على المقدسات ومحاولتها ضم الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل إلى التراث اليهودي ومؤامرتها الكبرى على المسجد الأقصى بالحفر الدائم في أساساته لتقويض دعائمه والسعي لهدمه وتجديد كنيس على مقربة منه، أقول إن ذلك كله يعكس محاولات إسرائيل للتغطية على سياساتها العدوانية التوسعية الاستيطانية بمظلة دينية مكشوفة بدعوى أن الهيكل القديم موجود تحت المسجد الأقصى الذي يعتبره المسلمون أولى القبلتين وثالث الحرمين ولا يقبلون التفريط فيه مهما كانت الحجج السياسية أو الادعاءات التاريخية. ثالثاً: إنني أتذكر أحداث الشهور الأخيرة من عام 2000 وكنت وقتها مساعداً أول لوزير الخارجية المصرية للشؤون العربية والشرق الأوسط عندما توهمنا أننا قاب قوسين أو أدنى من إعلان المبادئ المشتركة التي تمهد للتسوية النهائية للقضية، وتردد يومها مع الأسابيع الأخيرة لإدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون أن هناك بعض الأفكار الجديدة التي تسمح بالمرونة الفلسطينية تجاه إقرار مسألة حق العودة في مقابل القبول الإسرائيلي بالدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية، وأذكر أنني استمعت إلى وزير الخارجية الإسرائيلي حينذاك شلومو بن عامي وهو يتحدث بتفاؤل شديد عن قرب التوصل إلى التسوية النهائية وأن المسألة الوحيدة المعلقة هي تلك المتصلة بالأماكن المقدسة في القدس وغيرها مع ظهور اقتراحات افتراضية تتحدث عن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كخادم للحرم المقدسي على غرار مفهوم خادم الحرمين الشريفين وما يمثله ذلك من مخرج أخير لمأزق التسوية. كما جرى الحديث وقتها عن أحياء ثلاثة في مدينة القدس وفقاً للتقسيم الديني، فكان هناك الحي العربي والحي اليهودي والحي الأرمني، وفي ظني أن ذلك التفاؤل وقتها كان وهمياً وأن إسرائيل لم تكن جادة في موقفها ولم تقدم خرائط واضحة ولكنها استغلت ذلك كله للترويج لرسالة إعلامية مغلوطة حاولت بها إيهام المجتمع الدولي بأنها جادة في التسوية وأنها تسعى للحل السلمي ولكن العرب هم الذين رفضوا العرض الإسرائيلي الكريم على حد تعبيرهم! حيث بدأت انتفاضة الأقصى بعد الزيارة الاستفزازية لشارون وجنوده إلى المسجد الأقصى بشكل مس مشاعر المسلمين واستفز الفلسطينيين وكان بمثابة الشرارة المدبرة لحرق أي محاولة للتسوية السلمية. رابعاً: إنني لا أشكك في الدوافع الوطنية لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» وما يقف وراءها من خلفيات لا تبتعد كثيراً عن جماعة «الإخوان المسلمين» التي أسسها الإمام الشهيد حسن البنا بمدينة الإسماعيلية المصرية عام 1928، كما أنني لا أنكر على حركة «حماس» بطولاتها المعروفة وتضحياتها المشهودة، ولكن رغم كل ذلك فإنني قلقٌ من الكفاح المسلح تحت مظلة دينية فقط وأفضِّل دائماً أن يكون ذلك بدافع وطني قبل أن يكون بوازع ديني، ولا بأس مرة أخرى أن يكون الدين حافزاً روحياً يشحذ الهمم ويدفع نحو نيل الحقوق بدلاً من أن نكون مناضلين تحت عباءة الدين وحده خصوصاً أن عمامة الإسلام تضم الجميع ولا تستأثر بها حركة للنضال الوطني دون سواها. خامساً: إنني أطالب وبوضوح بأن تكون الحجج السياسية وقرارات الشرعية الدولية هي المرجعية الأولى في مواجهة خصم لا يؤمن بالإسلام ولا يعترف بالدفوع الدينية ولا المشاعر الروحية، بل إنه يطرح على الجانب الآخر حججاً مضادة ومشاعر أخرى من جانبه يحاول بها أن يجهض مسيرة الحق ويقضي على الدفوع العادلة لقضية واضحة! بل إن الدولة العبرية تواصل استمراء استمرار احتلال الأرض والعبث بالمقدسات وسرقة التراث الثقافي ومواصلة جرائمها في الأراضي المحتلة خصوصاً في قطاع غزة الذي ارتكبت فيه إسرائيل في العام الماضي واحدة من أكبر المذابح التي جعلتنا نطلق عليها بحق «الهولوكوست» الجديد. إن ما أردت قوله من الملاحظات السابقة لا يمثل رفضاً للمخزون الروحي في الدوافع الوطنية أو القرارات القومية ولكن ما أردت التركيز عليه هو فقط ضرورة تقديم الدفوع السياسية وقرارات الشرعية الدولية عند الحديث عن قضايانا العادلة ومشكلاتنا المعروفة، مؤكداً أن تديين الصراعات مع تجاهل المبررات السياسية وتغليب وجهة النظر الروحية القائمة على الإيمان هو أمر لا يجدي وحده أمام عالم لا يؤمن بالضرورة بما نؤمن به ولا يتفق معنا في العقيدة ولا يحمل الإيمان ذاته الذي يسكن في قلوبنا. إن تديين الصراعات أو تسييس الديانات أمورٌ جلبت على العالم المعاصر مشكلات بغير حدود وأصبحت جزءاً سلبياً من المشكلة وليست عنصراً إيجابياً في الحل! * كاتب مصري