سواء أعلنت الدولة الفلسطينية في الرابع من أيار مايو المقبل أو تأجل اعلانها، فإن معالمها موجودة وإن في مساحة صغيرة تصدم الفلسطينيين والعرب. وهذه الدولة الصغيرة تأخر استقلالها عن استقلال الدول العربية المجاورة عقوداً، لكن قضيتها كانت وما زالت حاضرة ومؤثرة. عرب من دول الطوق: سورية، لبنان، الأردن، مصر يقولون آراءهم في مؤثرات هذه الدولة عبر أجوبتهم عن السؤال التالي الذي وجهته "الحياة": "قد يسفر المخاض السياسي في المنطقة عن دولة فلسطينية، على ما يرجح بعض المراقبين وتسعى بعض السياسات، ومهما كان الرأي، اليوم، في هذه الدولة، وبعضهم يسميها "دويلة"، تطرح ولادتها، على نحو ما يطرح مخاضها، أسئلة كثيرة على مثقفي البلدان العربية المجاورة. ومصدر هذه الاسئلة ملابسة التاريخ الفلسطيني منذ ثلاثة عقود على الأقل احوال البلدان العربية القريبة، وأحياناً البعيدة. وأدت هذه الملابسة، في بعض البلدان، الى حوادث جسيمة طبعت مجتمعاتها بطابعها. لذا يتوقع ان يكون لنشأة هذه الدولة، اذا نشأت، أثر قوي في سياسات البلدان التي كان للمخاض الفلسطيني شأن فيها، وفي مجتمعاتها وثقافتها ربما. كيف ترى هذا الأثر في حالك وتناولك للمسائل التي تتناولها في عملك؟ وما توقعك لمداه وصوره؟". نشرنا امس اجوبة جمال الاتاسي ومحمد الاطرش وباصيل دحدوح وجورج صدقني، ونكمل بجوابي سوريين آخرين. واللقاءات اجرتها في دمشق الزميلة هالا محمد: - جاد الكريم الجباعي : هذه نتائج العمل العربي لكن اعتراف الشعب مقدم على اعتراف الخارج الدولة الفلسطينية، بمزدوجين مرة وبلا مزدوجين مرة اخرى، احدى ممكنات الواقع" سواء في ظل الشروط والوقائع المعطاة اليوم، او في ضوء الممكن التاريخي واهداف الشعب الفلسطيني وكفاحه المتواصل. ولعل قيام السلطة الفلسطينية، بغض النظر عن رأينا فيها وموقفنا منها، قد جعل قيام "دولة" فلسطينية محكومة بالشروط والوقائع الراهنة امراً متوقعاً واحتمالاً راجحاً، فقد باتت السلطة الفلسطينية من الحقائق السياسية الواقعية التي لا يمكن تجاوزها في سيرورة الصراع العربي الاسرائيلي وفي العمل السياسي الفلسطيني على السواء. فهي نتيجة العمل العربي بوجه عام والفلسطيني بوجه خاص. لذفك فإن السؤال المركزي اليوم هو لماذا كانت نتائج العمل العربي على هذا النحو، اما اسباب الافتراق والتناقض بين الاهداف المعلنة والنتائج المحققة، وما سر براعة السياسات العربية في هدر الامكانيات امكانيات الانتفاضة، مثلا في ربع القرن الاخير؟! الدولة الفلسطينية المتوقعة، ستغدو، كما هي السلطة الفلسطينية اليوم، حقيقة سياسية من دون ان تكون دولة سياسية، الا اذا جاز تذويب الوطن والشعب والهوية في رمزية العلم والنشيد وجوازات السفر. وكونها كذلك يعني انها يمكن ان تكون واحدة من الحقائق السياسية الدافعة الى احباط الكفاح الفلسطينية في المدى القريب. وليس الى تصفية قضية فلسطين، فهذا فوق طاقتها وطاقة غيرها والانضواء في ترتيبات "الامن القومي" الاميركي الاسرائيلي، في المنطقة ونسقاً لتوليد نزاعات محلية وتوترات سياسية واجتماعية داخل فلسطين وفي "دول الطوق" حيث الوجود الفلسطيني كثيف. كما يمكن ان تكون، على العكس، واحدة من الحقائق المقابلة والمعارضة تعيد انتاج هذا الكفاح في شروط جديدة وبأساليب وادوات جديدة وهذا يتوقف، بصورة اساسية، على امكانية قيام مصالحة وطنية شاملة وحقيقىة بين السلطة والشعب تجعل من الدولة واقعاً سياسياً يتغذى من ايجابيات محتملة في الأوضاع العربية والدولية، وتجعل من المقاومة المدنية خيارا استراتيجياً. فالصراع العربي الاسرائيلي مستمر والتعايش مع وظيفة اسرائيل وسياساتها العداونية غير ممكن، وقضية فلسطين اكبر من ايدي الفلسطينيين ومن ايدي العرب ايضا في الظروف الراهنة. انها قضية شعب وقضية امة تنزع الى التقدم والوحدة. هذه المصالحة الوطنية الضرورية والواجبة ينبغي ان تكون هدف العمل الفلسطيني اليوم لاسيما من جانب السلطة. فالدولة لا تستمد مشروعيتها وسيادتها من اعتراف الخارج بها، بل من اعتراف شعبها ومن كونها تعبيراً عن فاعليته السياسية وتجسيدا لارادته. وهي التي يمكن ان تحد من تمحور الدولة على الخارج غير العربي. اذ كلما تعمق التمحور على الخارج يزداد الداخل تفتتا ويتحول التفتت الى تذرر، وينمو في الدولة ذاتها عنصر تسلطي يبدو لاهل الحكم خياراً وحيداًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً وضرورياً . والدولة الفلسطينية المنشودة ممكنة وواجبة ايضا، يحملها مشروع النهوض العربي الديمقراطي الوحدوي. ووجود الشعب الفلسطيني الذي اخل يتشكل سياسيا ومن الصعب العودة عن هذا المحور. فان وجود الشعب الفلسطيني وكفاحه في مختلف المجالات هو الذي جعل، ويجعل المشروع الصهيوني اقل يقينية ووثوقية مما تصورته الحركة الصهيونية والصهاينة غير اليهود على السواء. لان هذا الشبع جزء من امته العربية التي تعترف النخبة الاسرائيلية بمرارة انها لم تستطع ان تفرض عليها الاستسلام على الرغم من الانتصارات العسكرية المتوالية بل فرضته على الحكام وجيوشهم فقط. وهؤلاء الحكام ليسوا العرب بأل التعريف بواقع انفصال الحكم عن الشعب في جميع البلدان العربية بما في ذلك منطقة الحكم الذاتي في فلسطين. وهذا الواقع لا ينحل في الخيانة والعمالة والتواطؤ... بل يحيل على نقص الاندماج الاجتماعي وتمادي التجزئية القومية والتأخر التاريخي، وعلى لا عقلانية السياسة العربية التي غدت بلا روح ولا عقل ولا ضمير. والروح والعقل في السياسة هما حضور الشعب كله في جميع عناصرها ومكوناتها. ان مسألة الدولة الفلسطينية، في الحالين، تتعلق بمسائل اخرى تعلق النتيجة بالسبب، اولى هذه المسائل، واقع المشروع الصهيوني وآفاقه في ضوء ازمته الراهنة الناجمة عن نجاحاته والكيفية التي تحققت بها. فالنجاحات ايضا تنتج ازماتها الخاصة وليس الاخفاقات فقط. من ذلك ان هوية هذه الدولة الاستيطانية لم تحسم بعد في اسرائيل. فنمو العنصر العربي في داخلها بات اقرب الى قنبلة ديمغرافية موقوتة تهدد هويتها وتعيد طرح الاسئلة على بنيتها ووظيفتها. كما انها لا تزال بلا دستور يحدد هويتها ويضع أسساً نهائية لعلاقاتها الداخلية والخارجية، وبلا حدود جغرافية نهائية، فقادتها لا يتحدثون سوى عن حدود امنة تمتد عند بعضهم من باكستان الى اواسط افريقيا. وبلا مبدأ اخلاقي تقوم عليه الانظمة والقوانين. ولما كانت الدولة تحديداً ذاتياً للشعب، فان دولة غير محددة هي تعبير عياني عن "عب" غير محد، ةاي عن جماعة لم تصبح، وليس بوسعها ان تصبح شعباً وأمة وقومية. فتاريخ الاستيطان لا يعيد نفسه الا في صورة مسخرة، ولنضف او كارثة. فالمشهد القائم لا يزال مشهد غيتو كبير وثكنة نووية. وبما انها ليست دولة اليهود موضوعياً فإن "المسألة اليهودية" لا تزال قائمة، وحلها لا يزال على جدول اعمال التاريخ الانعتاق الانساني وان كان مركز ثقلها قد انتقل الى الوطن العربي وغدت الامة العربية معنية بحلها ايضا. وثانية هذه المسائل ما ستؤول اليه الظاهرة الامبريالية في ظل العولمة الاقتصادية الجارية والمتسارعة واحتمالات قيام نظام دولي متوازن يضع حداً للهيمنة الاميركية ورأسماليتها المتوحشة. وذلك بحكم ارتباط الظاهرة الصهيونية بالظاهرة الاستعمارية ثم الامبريالية وارتباط اسرائيل بالولاياتالمتحدةالامريكية التي ربما باتت تنظر اليها على انها جزء من احتياطيها الاستراتيجي وجزء من "نظام اقليمي" فرعي يقوم على مبدأ الاستقرار والقلق الذي يستدعي حضورها العسكري والسياسي الدائم لادارة الازمات القائمة والمحتملة. ويخدم مصالحها ويلبي احتياجات "امنها القومي". وربما كان هذا هو الهدف الرئيس من "عملية التسوية"، ما انجز منها وما ينتظر الانجاز. وثالثة هذا المسائل، واهمها، تتعلق بالوضع العربي الراهن واتجاهات تطوره، فقضية فلسطين وثيقة الصلة بمشروع التقدم العربي وبالوحدة العربية رافعة هذا التقدم وشرطه اللازم وغير الكافي. هذه المسائل وغيرها ستحدد ليس امكانات قيام دولة فلسطينية فحسب، بل شكل تلك الدولة ومضمونها، وفي الحالين، ليست الدولة مركز السؤال، بل الشروط الموضوعية والذاتية التي تحددها، وموقف المثقف العربي خاصة ليس الرفض او القبول وكلاهما موقفان سلبيان، بل العمل بكل ما في وسعه كي تكون هذه الشروط مواتية، ان بين الحدين الاقصين: الاعلى والادني، حدا امثل هو الممكن والواجب، والتاريخ هو توقيع الممكنات. - هيثم حقي : دولة ولكن ليست بديلا لفلسطين ارتبطت حياتي الشخصية بالقضية الفلسطينية ارتباطاً وثيقاً، فقد ولدت مع النكبة وسافرت للدراسة في موسكو مع النكسة وتخرجت قبل حرب تشرين اكتوبر بأشهر قليلة: كل حدث في حياتي يقابله حدث يتعلق بالقضية الفلسطينية. أليست حياتنا جميعاً هكذا؟! هذه العلاقة مع فلسطين تحولت خلال الخمسين سنة التي عشتها الى رمز لعلاقتنا بالنهضة المجهضة في وطننا العربي، فكل خيباتنا تلخصت بالنتائج التي وصلت اليها القضية الفلسطينية. ان الدولة المزمع اقامتها تفترض القبول بالكيان الصهيوني على الجزء الأكبر من ارض فلسطين وهذا ما لا استطيع ان اقبله تحت اي ظرف. فلا الحديث عن الواقعية السياسية ولا الحديث عن المتغيرات الدولية والنظام العالمي الجديد يمكن ان يقنعا صاحب حق بالتخلي عن حقه. فقد عشت حياتي وأنا احلم بيافا وحيفا وعكا والجليل، ولا استطيع ان افهم واقعية ان نتخلى عن حقوقنا مقابل اوهام كاذبة كعدم استعداء الولاياتالمتحدة. فلقد ثبت بالدليل القاطع في تجاربنا القديمة والحديثة ان الولاياتالمتحدة منحازة من دون تردد الى جانب الاغتصاب المستمر للحقوق العربية، ومؤيدة من دون شروط للمذابح التي تقيمها اسرائيل ضد العرب وآخر الأدلة قانا. كذلك ثبت انه كلما طلبوا منا ان نكون اكثر واقعية لنصل الى فردوس الرخاء المنشود، وكلما زاد انبطاح المستسلمين املاً بتحسن المستوى المعيشي للناس، كلما ازداد الفقر والبؤس والاحباط والتمايز الطبقي الهائل، وساد الجهل وسيطر الظلاميون العازفون على اوتار استعادة امجاد الماضي. لا اظن ان التعامل ممكن مع كيان مصطنع قائم على العدوان واغتصاب الحقوق مع عقلية لا مثيل لتحجرها في العالم كله والتي توحد بين دين وقومية. فاليهودية دين من الاديان السماوية التي يدين بها افراد ينتمون الى قوميات مختلفة، وجعلهم قومية بحسب الانتماء الديني مخالف للمنطق والتاريخ والحقيقة. لذا ألخص وجهة نظري الشخصية على النحو التالي: ان الدولة ان قامت فهي دولة موقتة لا يمكن لها ان تكون بديلاً عن فلسطين، والقبول بها كحل نهائي للقضية الفلسطينية يعني بالضرورة القبول بوجود الاستعمار الاستيطاني الصهيوني على ارض فلسطين. ولا اعتقد ان احداً مهما كان موقعه في السلم السياسي العربي يستطيع ان يعطي صك ضمان للمغتصب بتخلي صاحب الحق عن حلمه باسترجاع حقه. وفي التاريخ هناك الكثير ممن اغتصبوا اراضي الآخرين بالقوة وخرجوا دون رجعة. فالصليبيون بقوا مئة عام في فلسطين، وكان هناك ايضاً من اراد للعرب ان يتعاملوا بواقعية مع المستجدات، لكن الصليبيين خرجوا لأن الحق لا يتجزأ. قد أبدو حالماً، او غير واقعي، لكنني اؤمن ان الفنان الذي لا يحلم بتحقيق الحق والعدل لا يمكن ان يصنع فناً. وفي الفن الذي صنعته، والذي سأصنعه حتى بعد الدولة لن اتخلى عن الحلم بإحياء النهضة المجهضة. دمشق في 30/12/1998