ما زال القرن الحادي والعشرون في عامه الأول، وقد حمل معه هزيمة إسرائيل في جنوبلبنان، وانتفاضة الشعب الفلسطيني المستمرة على كامل ترابه الوطني منذ 28 أيلول سبتمبر 2000. أما مفاوضات السلام فقد توقفت منذ أشهر عدة إثر محادثات كامب دايفيد الثانية بسبب تعنت إسرائيل ورفضها تنفيذ الاتفاقات السابقة مع الفلسطينيين، وفي طليعتها حقهم في إقامة دولتهم المستقلة على أرضهم وعاصمتها القدس الشريف. ومع فشل قمة شرم الشيخ، والقمة العربية بالقاهرة اللتين عقدتا بفارق أيام معدودة ما بين 19 و21 تشرين الأول اكتوبر 2000، في إيقاف العنف الدموي الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي والمستوطنون اليهود ضد الشعب الفلسطيني الأعزل فإن كل الدلائل تشير الى إمكان تحويل الانتفاضة الفلسطينية الى مأزق بنيوي لا ينتهي إلا بإزالة المشروع الاستيطاني الصهيوني كمشروع لم يعد يتلاءم مع حركة التاريخ في عصر العولمة. لا نخال أن المثقفين النقديين الذين ينتمون الى الدين اليهودي، كغيرهم من المثقفين الذين ينتمون الى الأديان الأخرى، يجهلون حقائق التاريخ، والجغرافيا، والثقافة، والدين، والتراث، والإرادة على العيش المشترك في منطقة الشرق الأوسط حيث عاش اليهود طوال حقب التاريخ من دون أن يتعرضوا لأي شكل من أشكال الاضطهاد بسبب انتمائهم الديني. على العكس من ذلك، فالتاريخ العربي والإسلامي حافل بأسماء المؤرخين، والشعراء، والأدباء، ورجال المال والأعمال والإدارة من اليهود في بلاد خلفاء وسلاطين العرب والمسلمين. وحذر باحثون من العرب وكثر من الباحثين المنصفين في العالم، ومنهم باحثون يهود، من أن إقامة المشروع الصهيوني على أرض فلسطين ستسبب الكثير من الويلات على العرب واليهود معاً. فهم عاشوا سوياً في مجتمعات واحدة، وطردوا معاً من الأندلس، ولديهم أديان وثقافات وعادات وتقاليد مشتركة. وحين اضطهد اليهود في أوروبا ليس ما يبرر أن يعوض عليهم الأوروبيون بدولة فلسطين، كأرض من دون شعب لشعب من دون أرض، وعلى حساب عرب فلسطين. منذ بداية المشروع الصهيوني، صدرت تحذيرات عقلانية لكثير من المثقفين اليهود تنذر قادة المشروع بأنه سيرتد على اليهود مهما طال الزمن. فالعرب أصحاب حضارة عالمية وتاريخ مجيد، ولن يرضوا ببقاء المشروع الصهيوني على أراضيهم، ولن يكون مصير قادة الدول الإمبريالية الكبرى الذين شجعوهم على تنفيذ مشروعهم في فلسطين مقابل تحقيق أهداف عدة دفعة واحدة: منها إنقاذ أوروبا منهم، ومنع العرب من تحقيق وحدتهم القومية، وإطالة أمد استغلال الدول الإمبريالية البشع للموارد الوفيرة في هذه المنطقة البالغة الأهمية في الاقتصاد العالمي. وقد نجحت الامبرياليات الأوروبية، ومن بعدها الامبريالية الأميركية، في تنفيذ وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود، ومن ثم بإقامة دولة إسرائيل. وطوال النصف الثاني من القرن العشرين أمنت الدول الكبرى لإسرائيل الحماية الدولية، والدعم العسكري والمالي، وساعدتها على تهجير أعداد كبيرة من عرب فلسطين الى دول الجوار العربي وعلى التمدد نحو دول الجوار عبر حروب متلاحقة شاركت فيها الى جانب قوى استعمارية كبرى. لكن الهزيمة النسبية للجيش الإسرائيلي في حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 طرحت مستقبل المشروع الصهيوني برمته. فبدت إسرائيل عاجزة عن إكمال إقامة حلمها التاريخي بين الفرات والنيل. ولم تستقطب سوى ثلث يهود العالم الذين سيكون مصيرهم قاتماً في حال نجح العرب في تحقيق انتصار عسكري عليها في المستقبل. لقد نجح الأميركيون في إقناع القيادة الإسرائيلية بإخراج مصر من عملية الصراع العربي - الصهيوني من طريق مفاوضات كامب دافيد وإرجاع سيناء منزوعة السلاح الى السيادة المصرية مقابل تطبيع العلاقات معها، وتكررت المحاولة بنجاح مع الأردن. في الوقت عينه، كان صقور إسرائيل يحتلون بيروت وأكثر من نصف مساحة لبنان عام 1982، ويرتكبون أبشع المجازر في صبرا وشاتيلا. نخلص الى القول إنه منذ عام 1973 انقسم المجتمع الإسرائيلي ومعه كل يهود العالم الى تيارين أساسيين، وما زال هذا الانقسام قائماً حتى الآن: 1- التيار الصهيوني التوراتي الذي ما زال مؤمناً بإيديولوجية غيبية أبرز مقولاتها أن اليهود هم شعب الله المختار وأنهم سيعودون الى أرضهم التي طردوا منها منذ آلاف السنين. فإله إسرائيل لن يتخلى عن اليهود بل سينفذ وعده لهم بإقامة إسرائيل الكبرى ما بين الفرات والنيل. ويضم هذا التيار كل القادة العسكريين الذين تربوا على العقيدة الصهيونية، وتنطح بعضهم لكي يلعب دور البطل المنقذ للشعب اليهودي عبر الإفراط في استخدام القوة العسكرية التي ستودي بهم الى الهلاك المحتم. 2- التيار اليهودي العقلاني والليبرالي الذي يرى أن ولادة المشروع الصهيوني تمت في إطار السيطرة الاستعمارية الغربية على العالم. ومع نهاية الاستعمار القديم وتحرر جميع الدول من سيطرته المباشرة دخلت منطقة الشرق الأوسط في تبعية مباشرة للاستعمار الجديد لا تقل بشاعة عن المرحلة السابقة. لكن التبعية لا تتطلب بالضرورة الاحتلال المباشر والإفراط في استخدام القوة ضد الشعوب التي دخلت مرحلة الاستقلال والسيادة الوطنية. فهناك أساليب عصرية لفرض التبعية منها القواعد العسكرية الثابتة، والأساطيل البحرية المتجولة، والبنوك، والشركات المتعددة الجنسيات والمتعددة القارات. ورأى المثقفون العقلانيون من اليهود ان اللوبي الصهيوني المنتشر في مراكز القرار المالي، والإعلامي، والسياسي، والاقتصادي، في كثير من دول العالم قادر على مشاركة الدول الكبرى في السيطرة على منطقة الشرق الأوسط بكاملها، من دون حاجة الى تعريض حياة اليهود لخطر الصدامات الدموية اليومية مع العرب والشعوب الإسلامية. نخلص الى القول إن صراعاً خفياً ما زال يدور بين اليهود الصهاينة واليهود الليبراليين أو العلمانيين حول مستقبل اليهود في هذه المنطقة. وقد اعتمد الصهاينة استراتيجية ثابتة تقول بضرورة إشعال حروب مستمرة ضد العرب لتغيير قواعد اللعبة لصالح الحل العسكري بحيث يضطر الآخرون الى اللحاق بهم مكرهين خوفاً من الإبادة الجماعية على أيدي العرب. دليلنا على ذلك أنهم خططوا لغزو لبنان في الفترة نفسها التي كانت توقّع فيها اتفاقات السلام بين مصر وإسرائيل، ويعطى مناحيم بيغن وأنور السادات مناصفة جائزة نوبل للسلام. وقد تشبثوا باحتلال مساحة تزيد على العشرة بالمائة من أرض لبنان طوال 22 عاماً، وأصروا على عدم تنفيذ جميع القرارات الدولية التي دعت إسرائيل الى الخروج من لبنان دون قيد أو شرط. لكنهم أجبروا فعلاً على مغادرة لبنان في 24 أيار مايو 2000 بعد هزيمة جيشهم والقوى العميلة المرتبطة به. فشكل انتصار المقاومة الوطنية اللبنانية نموذجاً يحتذى لتفجير صراع مباشر، وطويل الأمد داخل فلسطينالمحتلة. فكانت زيارة شارون للمسجد الأقصى في 27 أيلول 2000 الشرارة التي فجرت ذلك الصراع في اليوم التالي وعرف بانتفاضة المسجد الأقصى. لقد أدرك قادة المؤسسة العسكرية الصهيونية ان مستقبلهم السياسي بات مهدداً في حال نجحت انتفاضة الشعب الفلسطيني بعد هزيمتهم المشينة في لبنان. فوقف الى جانبهم كل المستوطنين المؤمنين بالمقولات التوراتية، حين عمدوا الى الإفراط في استخدام العنف ضد الشعب الفلسطيني الأعزل. ونقلت شاشات التلفزة وأجهزة الإعلام العربية والدولية نماذج حية على الأسلوب النازي الذي يمارسه الصهاينة ضد العرب والذي بات مصدر إدانة يومية من جميع الشعوب العربية والإسلامية، إضافة الى القوى الليبرالية والديموقراطية في العالم. وتوقع بعض العرب، داخل فلسطين وخارجها، أن تصدر إدانة صريحة لهذه المجازر من جانب "حركة أنصار السلام الآن" في إسرائيل والتي استطاعت سابقاً تنظيم تظاهرات ضخمة لإدانة الاحتلال الإسرائيلي لبيروت عام 1982. لكن التيار الليبرالي العلماني في إسرائيل أظهر تعاطفاً علنياً مع القيادة الإسرائيلية التي تمارس أبشع أساليب العنف الدموي ضد الفلسطينيين. ونشرت مقالات كثيرة، ومقابلات تلفزيونية مع قادة عرب في داخل فلسطين، منهم الدكتور عزمي بشارة، وكلها تؤكد على أن موقف التيار العلماني الإسرائيلي من انتفاضة الشعب الفلسطيني، خصوصاً عرب 1948، لا يقل بشاعة وعنصرية عن موقف الليكود ومتطرفي التيار الديني. في هذه الأجواء المشبعة بالحقد الصهيوني على عرب فلسطين بدأت تعلو أصوات بعض المثقفين اليهود من تيارات ليبرالية في العالم. وقد نشر المفكر اليهودي الفرنسي جاك أتالي، مقالة مهمة في مجلة "الأكسبرس" الفرنسية، في عددها 2571 الصادر في 12- 18 تشرين الأول 2000، ونقله "ملحق النهار" بتاريخ 21 تشرين الأول 2000 تحت عنوان: "الى أين تمضي إسرائيل؟". من المعروف أن أتالي كان كبير مستشاري الرئيس الفرنسي الاشتراكي السابق فرانسوا ميتران، وقد اشتهر بميوله الليبرالية داخل الطائفة اليهودية، ويعتبر أحد قادتها البارزين. افتتح أتالي مقالته بهذه العبارة: "لم تكن إسرائيل معزولة ومهددة بالاختفاء كما هي اليوم... وسواء قامت حرب مدمرة أو سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط، في الحالين فإن الحلم الصهيوني الذي تأسس منذ قرن محكوم بالموت. في مواجهة هذا المأزق المزدوج تبدو النخب الإسرائيلية، في هذه المرحلة، بلا استراتيحية ولا رؤية ولا مرجعية". وفي المحصلة العامة للمقال تبدو إسرائيل مهددة بالاختفاء بسبب الحرب أو بسبب السلام أو بسبب مغادرة نخبها منها لأنها باتت تخشى الحرب مثلما تخشى السلام. وليس بعيداً عن مضمون مقالة أتالي، يكتب عيسى معلوف في "ملحق النهار" بتاريخ 21 تشرين الأول مقالة بعنوان: "إسرائيل المنتصرة المهزومة: انعكاسات الصراع في الشرق الأوسط على الواقع الفرنسي". ويشرح في مقالته كيف أن حاخام فرنسا الأكبر يخترع باستمرار قصصاً كاذبة ضد العرب تهدف الى تشويه وعي الشبيبة اليهودية في فرنسا وإبقائها الى جانب إسرائيل. وقد أثارت صور القمع الإسرائيلي اليومي للانتفاضة الفلسطينية، وتلك القصص الكاذبة للحاخام، والصدامات اليومية بين اليهود والمسلمين في فرنسا حفيظة عشرات المثقفين الليبراليين اليهود في فرنسا فأصدروا بياناً نشره "ملحق النهار" بتاريخ 28 تشرين الأول 2000 تحت عنوان: "لتكف إسرائيل عن النطق باسم اليهود رغماً عنهم". وقد جاء فيه: "إذا كانت زيارة شارون الى المسجد الأقصى، المخطط لها بدقة والتي حازت على موافقة إيهودا باراك وحمايته هي التي صبت الزيت على النار، فإن الانفجار ما كان ليحصل لو أن الوضع لم يكن مهيأ للانفجار، عبر المماطلة والتسويف في تنفيذ اتفاقات أوسلو، واستمرار سياسة الاستيطان، وعبر رفض إقامة دولة فلسطينية تأخر قيامها. والحال، ليس مفاجئاً ان يؤدي هذا الإذلال والحرمان المتراكم الى غضب شعبي يمكن ان يكون قد تجاوز الحدود من جانب واحد... ليس لأننا يهود، ولكن لأننا نرفض كيهود ذعر الهوية هذا ومنطقها الانتحاري. نرفض هذه الحلقة المميتة من الصراع الإثني وتحويله الى حرب دينية. نرفض حشرنا في زاوية الانتماء الديني والإثني. نعلن أننا من أنصار أخوة بين اليهود والعرب، وأن تقدم مسار السلام مرهون في الضرورة بتطبيق القرارات الدولية الصادرة عن الأممالمتحدة، والاعتراف بدولة فلسطينية، وبحق العودة لكل الفلسطينيين الذين هجّروا من أرضهم. وبهذا فقط يمكن ان يحصل التعايش بين الإثنيات الثقافية واللغوية في سلام وحسن جوار". لقد بدا واضحاً أن العنف البربري الذي تمارسه القيادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل مدان من جميع القوى الديموقراطية والليبراليين اليهود في جميع انحاء العالم. فيخسر المشروع الصهيوني بذلك حق الادعاء بتمثيل اليهود أنفسهم، وتتحقق صدقية الرؤية الثقافية النقدية لعدد من المثقفين اليهود الذين جاهروا منذ البداية بأن المشروع الاستيطاني الصهيوني لفلسطين كان مشروع انتحار جماعي للشعب اليهودي، وهو جزء لا يتجزأ من مشاريع الاستعمار الاستيطاني المشبعة بالعنصرية والتمييز العرقي والديني، والتي انتهت جميعاً الى مزبلة التاريخ. * مؤرخ لبناني.