القوات الخاصة للأمن البيئي: غرامة الصيد دون ترخيص 10 آلاف ريال    رباعيات العالمي مستمرة    عقوبات تأديبية لمخالفي قواعد الظهور والسلوك في أماكن العمل    المملكة تحرز 18 جائزة دولية في جنيف عن تميز مستشفياتها وباحثيها في القطاع الصحي    غدًا.. أخضر السلة يواجه الهند في افتتاح النافذة الأولى لتصفيات كأس العالم    المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب يعقد أعمال دورته ال21    أمير تبوك يستقبل القنصل العام لجمهورية الفلبين    محافظ الأحساء يستقبل مدير التعليم المعين    الأمن العام يدعو ضيوف الرحمن إلى الالتزام بالممرات المخصصة داخل الحرم    أكثر من 66 مليون قاصد للحرمين الشريفين خلال شهر جمادى الأولى 1447ه    أمير دولة قطر يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    نجاح النسخة الأولى من منتدى الأعمال الذي نظمته وكالة التجارة الإيطالية في المملكة العربية السعودية    القبض على شخصين لترويجهما 3 كيلو جرامات من نبات القات المخدر    بأمر ترامب.. البدء بإجراءات تصنيف "الإخوان" منظمة إرهابية    بدء أعمال السجل العقاري ل (499) حيًا بمناطق الرياض والقصيم ومكة المكرمة وحائل    الرؤساء التنفيذيون في السعودية يتصدرون مستويات الثقة والاستعداد للذكاء الاصطناعي وفقا لتقرير كي بي إم جي    13.9 مليون إجمالي مرات أداء للعمرة خلال شهر جمادى الأولى    40.8% من الأسر تفضل الطاقة الشمسية كمصدر للطاقة في المسكن    أمير منطقة الجوف يرعى اللقاء الثالث والستين من "ليالي الجوف"    عنبر المطيري تُشعل «وهج القصيد» في أمسية شعرية تحت مظلة الشريك الأدبي    الأمم المتحدة تطلق عملية لانتخاب أمين عام جديد لها    الصين تحذر من أنها "ستسحق" أي محاولات أجنبية للتدخل في شؤون تايوان    التأكيد على أهمية ضمان مسار حقيقي للتوصل إلى حل الدولتين    مطار أبها الدولي يحصد المركز الثالث عالميًا في الالتزام بمواعيد الرحلات    عبدالعزيز بن سعد يُدشِّن خدمات "مدني الحفير"    خالد بن سلمان يرأس وفد المملكة في اجتماع مجلس الدفاع الخليجي    من ذاكرة الزمن    «حراء».. أصالة التاريخ وروح الحداثة    بطل فريق هنكوك السعودية سعيد الموري يشارك في رالي جدة بدعم مجموعة بن شيهون وشركة الوعلان للتجارة    القيادة تهنئ رئيس مجلس رئاسة البوسنة والهرسك ورئيسة سورينام    أمير الرياض يستقبل مديري الشرطة ودوريات الأمن    ذروة استثنائية في المسجد الحرام    «غزة الإنسانية» توقف أعمالها بعد منعها توزيع المساعدات    أمير نجران يثمّن حصول مستشفى الملك خالد على الدرع الذهبي من "ELSO"    حماس تعلن تسليم جثة أسير إسرائيلي.. نتنياهو يحذر من خرق اتفاق وقف النار    «حقوق الإنسان» تطالب بالتحقيق في استهداف «عين الحلوة»    دك شباك الشرطة برباعية.. الهلال يعزز صدارته للنخبة الآسيوية    المملكة وإيطاليا يوقعان مذكرة تفاهم في المجالات الرياضية    خماسي الريال الغاضب يهدد بإقالة المدرب ألونسو    أزمة اللغة بين العامية والفصيحة    المسرح الشبابي    «مركز الموسيقى» يحتفي بإرث فنان العرب    موسكو تطالب بجدول زمني لانسحاب الاحتلال    استعرض فرصهما للشراكات العالمية..الخريف: التقنية والاستدامة ركيزتان أساسيتان للصناعة السعودية    زيارة تاريخية تصنع ملامح مرحلة جديدة    «الجوازات» تصدر 25,646 قراراً بحق مخالفين    علماء: مذنب يقترب من الأرض مطلع يناير    "الداخلية" تسهم في إحباط محاولة تهريب مخدرات    تماشياً مع الأهداف العالمية للصحة والتنمية.. الربيعة: السعودية حريصة على حماية حقوق التوائم الملتصقة    غزال يقتل أمريكية أنقذته    جورجية تفقد النطق بسبب السجائر الإلكترونية    الصادرات غير البترولية تقود نمو التجارة السلعية للمملكة    اتهامات بانتهاكات واسعة في الفاشر ومساع دبلوماسية لإنهاء الحرب    الموافقة على نظامي الرياضة والرقابة والمالية وإقرار إستراتيجية التخصيص    الحقيقة أول الضحايا    أمير تبوك يستقبل سفير دولة الكويت لدى المملكة    104% زيادة بتوثيق عقود الشركات    تحت رعاية عبدالعزيز بن سعود.. تكريم المتقاعدين من منسوبي الأحوال المدنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رداً على مقال أمين المهدي . هل عوق الصراع مع إسرائيل مسار الديموقراطية والحداثة في البلدان العربية ؟
نشر في الحياة يوم 07 - 06 - 2000

منذ نشوء قضيتي فلسطين وقيام إسرائيل في المنطقة باتت هاتان القضيتان محوراً من أهم محاور التفكير السياسي العربي وحجر الزاوية في السياسة العربية المعاصرة. بل إن كثيراً من الأنظمة برر مشروعيته بالدفاع عن القضية الفلسطينية، كما برر تأخر مسارات التنمية والوحدة والديموقراطية، وهيمنته على المجتمع، بمتطلبات الصراع مع إسرائيل. وحجب هذا الخطاب حقيقة الأنظمة التي وضعت شكلاً الصراع مع إسرائيل بأعلى سلم أولوياتها، فيما هي في الواقع عملت على توتير الأوضاع في مجتمعاتها، لفرض سلطتها وتعزيز سيطرتها على الثروة الوطنية.
وعلى رغم هذه الوقائع المعروفة، يأتي الكاتب أمين المهدي في مقاله: "الصراع العربي الإسرائيلي: محنة الرأي الآخر" الحياة 12/5، ليطلع باستنتاجات ملخّصها أن سبب تأخرنا عن الديموقراطية والحداثة، إنما يعود الى الصراع العربي - الإسرائيلي، وسيادة تيار الحسم العسكري، في مقابل تيار الحل السياسي الذي رأى في السلام مدخلاً ممكناً للديموقراطية والتنمية، فحلت به محنة الاضطهاد والاستبعاد.
ففي مقاله المذكور وقع المهدي أسير الثنائيات التي ينتقدها. فقال بوجود "رأيين الرأي الذي قال بالحل السياسي والحوار والرأي الذي قال بالحسم العسكري". وإذا تفحّصنا هذا الاستنتاج في حيّز الممارسة السياسية التاريخية، سنجد أن الرأي الذي ساد، طوال العقود التي سبقت مؤتمر مدريد، لا ينتمي الى أي من هذين الرأيين، وهو فضّل التعامل مع الواقع الراهن، أي اتجاه "اللاحرب واللاسلم". ولم يسد في أي وقت من الأوقات، ولا في أي بلد عربي، التيار الذي يطالب بالحرب أو يقوم بممارستها.
ومشكلة الكاتب هنا أنه لم يفرق بين نزعة العسكرة والتسلح التي تتسم بها بلدان العالم الثالث والأنظمة المهيمنة على المجتمع، والتي خرجت أصلاً من رحم المؤسسة العسكرية، وبين ممارسة الحرب ذاتها.
والمهم أنه حتى هذه الاتجاهات كانت تتضمن وجهات نظر متعددة. فالتيار الذي نادى بإيجاد حل سياسي، لم يكن اتجاهاً واحداً، لا في منطلقاته ولا في غاياته. فثمة فرق بين من وجد، منذ أوائل القرن، ضرورة التعامل مع الصهيونية وإيجاد شراكة معها، وهو قلة من الأفراد ولا تمثل شرائح اجتماعية أو قوى سياسية واسعة، وبين التيار الذي نادى بنبذ الحرب والاعتراف بالأمر الواقع، بسبب كلفة الحرب أو بحكم رؤيته للاحتضان الدولي لإسرائيل. وثمة فرق أيضاً بين هذين الاتجاهين وبين التيار الذي رأى أن موازين القوى بين العرب وإسرائيل لا تسمح للعرب بتحقيق انتصارات عليها، في ظل خلافات عربية، وفي ظل الأنظمة السائدة.
والتباين الحاصل في إطار هذا الاتجاه ينطبق أيضاً على تيار "اللاحرب واللاسلم". فثمة من رأى في هذه الحال فرصة للتنصل من تبعات الصراع مع إسرائيل، وثمة من رأى فيها شكلاً من أشكال الصراع لمراكمة القوى والعوامل التي قد تضغط على إسرائيل وتدفعها نحو الاستجابة للمطالب العربية. أما التيار الذي طالب بضرورة استمرار الصراع مع إسرائيل، وحسم الأمور عسكرياً معها، فكان يمثل، على الأغلب، تيارات سياسية غيرة موجودة في السلطة، وتضم في طيفها الواسع اتجاهات متطرفة، كما تضم اتجاهات عقلانية وواقعية تدرك أهمية موازين القوى والمعطيات الدولية والإقليمية والتضامن العربي وضرورة الاستعداد من النواحي الاقتصادية والعسكرية، وتدرك أهمية الديموقراطية، والمشاركة الشعبية وحقوق الإنسان في معركة الصراع الطويلة مع إسرائيل.
وإذا جاز لنا الحديث عن محنة ما لأحد التيارات فإن هذا التيار الأخير وجد تنكيلاً واضطهاداً كبيرين من الأنظمة السائدة، لأنه في الواقع ربط بين مواجهة إسرائيل وبين التغيير السياسي والتطوير والتحديث في المنطقة. وهكذا يمكن القول إنه ثمة رأيين متناقضين ومتطرفين، أحدهما يصل الى حدود التسليم بالمشروع الصهيوني، وبالرواية الإسرائيلية للحرب، وبعلاقة مع إسرائيل تصل الى حدود "الشراكة في التنمية"، وثانيهما نادى بالحرب من دون تبصّر ودراسة للإمكانات والظروف.
ويكاد الكاتب، عندما يتحدث عن قضية الحرب، أن يوحي وكأن المنطقة العربية كانت ساحة عسكرية للصراع ضد إسرائيل على غرار هانوي، طوال العقود الخمسة الماضية. وهو بذلك يسهم في تدعيم الرواية الرسمية للأنظمة ومزاعمها الانشغال بالصراع العربي - الإسرائيلي، وتبريرها بها شرعيتها وتقصيرها في مجالات كثيرة. ويسهم في ترويج "الأسطورة" الإسرائيلية حول رغبة العرب في تدمير إسرائيل. والكاتب في موقفه هذا يحذف الوقائع المتعيّنة طوال الحقبة التاريخية الماضية، كي يصل لاستنتاجات تتطابق مع تصوراته الذاتية.
وهكذا يرى في الحرب، التي يتوهمها، مصدر إعاقة الديموقراطية والتنمية والحداثة، وليس في طبيعة الأنظمة السياسية التي أنتجت الفساد والنهب وسوء الإدارة وتغييب الديموقراطية. فأوضاعنا الداخلية هي الأساس الذي ينبغي أن نفسر به عوامل تخلفنا في مختلف المجالات، ومن ضمنها بالطبع مجال الصراع من إسرائيل. فما بالك إذا كانت هذه الحرب مجرد ادعاءات وتوهمات، أو مجرد شعارات رفعت للتغطية على الواقع. ومعظم الأنظمة لم تنشغل بالحرب مع إسرائيل بقدر انشغالها بحروبها الداخلية والجانبية. وهي لم تعطِ للحرب مع إسرائيل أولوية بقدر إعطائها لترتيب أوضاعها، وهيمنتها على الدولة وعلى المجال الاجتماعي، في آن.
وإذا عدنا للوثائق التاريخية، لمراجعة مسيرة الصراع العربي - الإسرائيلي، والكاتب يصفه بتاريخ حروب، لوجدنا أن هذا الواقع غير موجود، لدى أغلب بلدان المنطقة. أما البلدان المحيطة بإسرائيل فاستمرت في حالة اللاحرب واللاسلم. ولكن هذه الحالة كانت مواتية لإسرائيل لترتيب أوضاعها وتطوير بناها، فيما لم تستفد هذه الدول منها، بسبب طبيعة إدارة السلطة وعلاقتها بالمجتمع. أما بالنسبة للحظات الحروب فكانت مجرد لحظات محدودة، كما سبق وقدمنا.
ففي حرب 1948، نجد أن الكاتب يبالغ كثيراً في وزن المشاركة العربية الرسمية، ومن ضمنها المصرية، في هذه الحرب. فلو تكلف عناء مراجعة المصادر التاريخية لتبين له أنه لم يكن ثمة استعداد عربي جدي لخوض الحرب وتجنيب فلسطين المصير الذي لحق بها. فعندما حانت ساعة الحقيقة شكلت الدول العربية التي نالت استقلالها حديثاً قوة عسكرية لم يزد عدد جنودها عن الأربعين ألفاً، مسلحين بأسلحة بسيطة، ومن ضمنها أسلحة فاسدة كما يعرف الجميع. وللأسف فإن هذا العدد من "الجيوش" العربية لم يزد عن العدد الذي حشده تجمّع المستوطنين اليهود في فلسطين وعددهم آنذاك 600 ألف نسمة في إطار قوات "الهاغاناه".
فما هي التكلفة التي تكبدتها الدول العربية وجيوشها في هذه الحرب، والتي أضاعت فرص التنمية والحداثة على ما يستنتج الكاتب؟ ويعرف الكاتب أن حرب 1956 فرضت فرضاً على مصر بقيادة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، بسبب تأميمه قناة السويس، وسياساته الاستقلالية والقومية. فعبدالناصر لم يذهب إلى الحرب مع إسرائيل، وإنما إسرائيل هي التي حاربت مصر لغايات إسرائيلية ولتلبية مصالح غربية. وبعد هذه الحرب مر عقد من الزمن من دون حرب، ومن دون أن تقدم إسرائيل على أية خطوة تسهم في ترجيح فرص الحل السياسي الذي كان يمكن للأنظمة العربية، آنذاك أن تنخرط فيه بشروط معينة. ولكن إسرائيل، بدلاً من ذلك، بادرت الى شن حرب حزيران يونيو 1967، واستولت فيها على بقية أرض فلسطين، ومعها أراض من مصر ومن سوريا. وبعد ست سنوات فقط، شنت سورية ومصر حرباً على إسرائيل بهدف استعادة أراضيهما المحتلة في الجولان وسيناء. وبعد هذه الحرب طوي ملف الحروب بين إسرائيل والدول العربية. فيما استمرت الحرب، بشكل آخر، في لبنان وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة.
والحق أن النظرية الوحيدة، والأثيرة، التي يدعو إليها المهدي هي الحل السياسي وقرار تقسيم فلسطين. ومشكلة الكاتب هنا أنه يسلط الضوء على رد الفعل من دون الفعل ذاته، فيضع أصحاب الفعل وأصحاب رد الفعل على الدرجة نفسها من المسؤولية. فدعاة الحسم العسكري عندنا مثل دعاة الحسم العسكري عندهم! وهذا يؤدي الى الإقرار بأن الصراع على فلسطين هو صراع بين حقين متساويين، ويفترض التوصل الى حلول وسط. وهذه الحلول تفترض، عدم مقاومة المشروع الصهيوني في فلسطين، منذ بدايته، بحيث كان على شعب فلسطين أن يستوعب وعد بلفور، وأن يتفهّم الغزو الاستيطاني الاحتلالي لأرضه، وأن يرى بعينيه كيف تقتطع إدارة الانتداب البريطاني الأراضي الخصبة، وتعطيها للمستوطنين اليهود الذين يتسللون من السفن عبر الساحل الفلسطيني. لمصلحة الشروع بحوار سياسي مع الوكالة اليهودية في فلسطين حتى لا ينشغل عن قضايا التنمية والحداثة.
ويلوم الكاتب الفلسطينيين والعرب الذين رفضوا قرار التقسيم لعام 1947 - الذي يعطي اليهود، وكانوا يمثلون 30 في المئة من سكان فلسطين ولا يمتلكون سوى 6 الى 7 في المئة من أراضيها، وهي حجم الأراضي التي استطاعت الوكالة تمكلها على مدار أكثر من خمسين عاماً من ضمنها الأراضي الممنوحة لها من قبل إدارة الانتداب- 56 في المئة من أراضي فلسطين. المشكلة هنا أن الكاتب يريد من الشعب الفلسطيني أن يكون شعباً سلبياً، لا يقاوم محاولات سلبه أرضه وممتلكاته ومحاولات اقتلاعه منها وأن يتقبل الفعل الصهيوني والاستعماري من دون رد فعل. أما حديث الكاتب عن وجود تيار يهودي، ثم إسرائيلي، يدعو الى إيجاد حل سياسي مع الفلسطينيين، فهو صحيح عموماً. ولكن هذا الاتجاه كان يعبر عن أفراد، وعن اتجاهات دينية أو ثقافية، أما الاتجاه الرئيس والمقرر فهو الحركة الصهيونية، سواء في تجمع المستوطنين في فلسطين، أو في إطار المجتمع الإسرائيلي. وثمة خلط في المراحل وتبسيط وتعميم لهذا الاستنتاج في كلام الكاتب. فبعض الشخصيات التي دعت الى مثل هذا الحل فضلت مغادرة فلسطين، ومن ثم إسرائيل، حتى تكون أكثر انسجاماً مع نفسها، وبعد أن رأت أن قيام الدولة الإسرائيلية سيكون على أنقاض الشعب الفلسطيني. أما بعد قيام إسرائيل فإن هذا الاتجاه يكاد لا يكون موجوداً. وإلى الثمانينات، فالحزب الشيوعي الإسرائيلي، مثلاً، وهو محسوب على خط الحل السياسي، كان يحصل على مقاعده المحدودة في الكنيست بأصوات الناخبين العرب وحدهم. فأصوات الناخبين اليهود لا تؤمن مقعداً واحداً لأنصار السلام مع العرب.
وبعد أن تضاءلت عناصر القوة التقليدية: الجغرافية، وعدد السكان، والقوة العسكرية، لمصلحة تنامي دور العلم والإمكانات الاقتصادية. فهذه التغيرات والتطورات وجدت تجاوباً لها في إسرائيل بحكم مقاربتها لها. ما انعكس في ازدياد الميل فيها نحو إيجاد حلول سياسية مع العرب، لتكييف إسرائيل مع التطورات الحاصلة. وهذا ما يفسر اتساع أنصار الحل السياسي في حزب العمل وميريتس وغيرهما، وهو ما يفسر انتقال شمعون بيريز وعازر وايزمن مثلاً من إطار التطرف الى هذا الاتجاه. وهذا الاتجاه يريد تسوية لا تتحمل فيها إسرائيل أية مسؤولية عن المظالم التي لحقت بالفلسطينيين، ولا تتجاوب مع إيجاد حل عادل ومتوازن، ولو بالمعنى النسبي، لقضيتي اللاجئين والقدس، أي تسوية تطوي ملف نكبة 1948، وتتعامل فقط مع نتائج حرب 1967. وهو يريد تمتع إسرائيل بجوائز عن احتلالاتها، على شكل شراكة اقتصادية مفروضة معها، وتقديم تنازلات لها في مجالات المياه والأمن وفي الرواية التاريخة للصراع.
وحتى هذا الحل الذي يجري فرضه في ظل عدم التكافؤ، وعلى رغم الإجحاف المتضمن فيه بالنسبة للحقوق الفلسطينية والعربية، ما زال يتعثر، ليس بسبب العرب وإنما بسبب الممانعة الإسرائيلية. أما بعض المثقفين عندنا فيريدون منا أن نبتهج سلفاً لحل ناقص ينسحب فيه المحتل "من أرضي الى أرضي"، بحسب تعبير الشاعر الكبير محمود درويش، برغم القبول العام لحل الدولتين كأمر واقع.
ونحن لسنا أمام أحد أمرين: إما التسليم لإسرائيل، وإما الحرب معها. ولكننا أمام حال شكلت فيها إسرائيل، ولا تزال، تحدياً للفلسطينيين خصوصاً وللعرب عموماً، بنموذجها السياسي وبتطورها الاقتصادي والعلمي والاجتماعي. ولا شك في أن مواجهة مثل هذا التحدي لا يتم في الميدان العسكري، وإنما عبر تجديد وتطوير النظام السياسي العربي، ومواكبة ركب التقدم في المجالات العلمية والتكنولوجية والثقافية، وبالتوجه بخطى حثيثة نحو الحداثة والديموقراطية.
وأخيراً ليطمئن الكاتب، فها هي الدول العربية وقد انتقلت من حال اللاحرب واللاسلم الى انتهاج طريق التسوية خياراً استراتيجياً لها، على أساس انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967، والاعتراف بحقوق شعب فلسطين، ومن ضمنها إيجاد حل عادل لمشكلة اللاجئين. ويبقى أن تقتنع إسرائيل وتقتنص هذه الفرصة.
* كاتب سياسي فلسطيني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.