على رغم علاته الكثيرة، يبقى فيلم "الوطني" من اخراج رونالد إيميريش مميزاً بعنصر رئيسي واحد، على الأقل، هو: التصوير الذي قام به كاليب ديشانيل. "الوطني" يقدم قصة ذات لون ملحمي عن حرب التحرير الاميركية، عام 1776، بطلها شخص آلى على نفسه الانضمام الى الثائرين الاميركيين، بغية الانتقام الشخصي من قائد بريطاني خوّل نفسه قتل الأبرياء، وبينهم معظم أفراد عائلة ذلك الشخص. كاتب السيناريو روبرت رودات والمخرج رونالد إيميريش سمحا لنفسيهما بتقديم التاريخ على نحو غير ثابت أو "تاريخي". فالشخصية التي يؤديها مل غيبسون تبدو كما لو كانت هي المسؤولة عن تحرر اميركا من الاستعمار البريطاني، ولو أن الغاية تبقى فردية حتى آخر معركة بين الطرفين. كذلك، فإن الواقعة التي يبني عليها الفيلم الكثير من التبعات مثل حرق القائد البريطاني يؤدي دوره جاسون ايزاكس، وهو الشخصية الشريرة الأولى في الفيلم كنيسة مكتظة بالأطفال والنساء بعد وصد الباب من الخارج إمعاناً في الأذى لم تقع مطلقاً، الى جانب أن تصوير السود على أساس أنهم كانوا يعيشون حياة متساوية مع نظرائهم البيض كان، في أفضل حالاته، يعبر عن نية ساذجة. لكن كل ذلك في ناحية، وتصوير ديشانيل في ناحية أخرى. فديشانيل خبر أنواعاً كثيرة من الأفلام في السابق، وترك تأثيراً ايجابياً عندما أخرج الكوميديا السوداء "الوجود هناك" للراحل هال أشبي. رشح ثلاث مرات للأوسكار سابقاً. الأولى عن "الشيء الصحيح" لفيليب كوفمان 1983 والثانية عن "الطبيعي" لباري ليفنسون 1996 والثالثة عن فيلم "1984". في هذه الأفلام عمل ديشانيل على مناخات الطبيعة المختلفة من ولاية اميركية الى أخرى، لكنه هذه المرة في "الوطني" كان عليه أيضاً أن يعمل على مناخات الزمن: ساوث كارولينا القرن الثامن عشر، وفي إطار ملحمي مع مشاهد للمجاميع ولو أن بعض الممثلين والخلفيات أضيف على الكومبيوتر. تبعاً لذلك، كان عليه أن يتعامل مع ألوان أساسية مناسبة للمشاهد المفتوحة في الأماكن الطبيعية الفسيحة وهي عادة جديدة عليه. النتيجة ناجحة، بل أبرز انجازات هذا الفيلم الفنية بكل تأكيد. فيلم ملحمي آخر لافت هو "المصارع" لريدلي سكوت. صوره الاسكتلندي جون ماثيسون بحس واقعي من أوله الى آخره. لكنها واقعية الحقبة الزمنية الرومانية القديمة، ما يعني أن الفيلم كان عليه أن يتحلى، في الوقت نفسه، بسيطرة العناصر الفنية الأخرى على المادة المصورة. هناك مثلاً مدى رغبة سكوت في مزاولة اسلوبه الخاص في مشاهد المعارك الذي يعتمد تقريب الكاميرا من الأفراد، قدر المستطاع، ليولِّد الوقع المطلوب على المشاهد. بمثل هذه الخطة، لاحظنا أن تصميم المعارك لم يكن له وزن كبير، خصوصاً في الموقعة التي يبدأ الفيلم بها بين الرومان والجرمان. سكوت عمد الى اسلوب تصوير أقرب رصداً لحركة الأجساد ولحمى المعركة، وأبعد ما يمكن عن تفاصيل المعركة نفسها، ما حتّم على مدير التصوير اختصار العمل على كل تلك المساحات الواسعة التي تغطيها الكاميرا، عادة، في مثل هذه المشاهد القتالية. وهو الأسلوب نفسه الذي اعتمده سكوت في أفلامه السابقة ذات المنحى التاريخي. فن الصورة المضغوطة شيء من هذا النوع من التصوير المفتوح على الطبيعة، نراه في فيلم بوشر عرضه، في الأسبوع الأخير من العام الفائت، هو "كل تلك الجياد". المكان الفسيح هذه المرة هو الغرب الأميركي انما في الأربعينات. عن رواية مشهورة لكورماك ماكارثي اقتبسها تد تالي للمخرج الممثل ايضاً بيلي بوب ثورنتون، عن شاب يبحث عن الغرب القديم ورومانسياته، مهاجراً من تكساس الى المكسيك. تلك الهجرة التي تحدثت، عادة، أفلام سام بكنباه بحنان. لكن الشاب مات دامون اذ يجد الرومانسية في الوقوع في حب فتاة مكسيكية بينيلوب كروز يجد ايضاً سوء المعاملة وصعوبة العيش في سجن صحراوي هناك. مدير التصوير هو باري ماركوفيتز. وهذا أول فيلم من انتاج هوليوودي كبير يؤمه بعدما صوّر أفلاماً عدة صغيرة، بينها "المبشّر" لروبرت دوفال 1997 و"نصل مرمي"، وهو فيلم آخر لبيلي بوب ثورنتون 1996. وقد عمد هنا الى عدسة تعرف باسم "أنامورفيك لنز" من شأنها أن تصوّر المشهد مضغوطاً ثم تعرضه كما لو صوّر بنظام 70 ملم. الحاجة الى مثل هذا الأسلوب مبررة فقط في الاستغناء عن نظام ال70 ملم المكلف اذ يمكن التصوير بفيلم بمقاس 35 ملم. حين التصوير يتم ضغط المشهد العام الى نصف حجمه، ولكن حين يعرض، تتراءى النتيجة بمساحة أفقية مضاعفة عما يستطيع فيلم 35 ملم توفيره. ليس أن ماركوفيتز طليعياً في هذا الشأن بعض الأفلام التسجيلية الحربية التي أنتجها جيش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى استخدمت نظاماً أولياًً يؤدي الى النتيجة نفسها، لكن ماركوفيتز ينجح - وبصرف النظر عن صيغة التصوير - في نقل صور طبيعية آسرة للمكان وللطقس غيوم وعواصف الخ... انما مع انفصام في جمالية كل ذلك والتصوير الداخلي الذي يبدو أقل قدراً. على الشاشة، وتبعاً لمونتاج أقل من جيد، ضاع الكثير من ايحاءات ماركوفيتز بحيث لا يشعر المشاهد بالرومانسية التي بثها الكاتب في عمله الروائي الضخم. استلهام فن الرسم في "ريشات" لفيليب كوفمان ننزع الى القرن الثامن عشر ضمن أحداث تتناول السنوات الأخيرة من حياة المركيز دي ساد، كما أمضاها في مصحة تحولت سجناً، حاولت فيه السلطة الفرنسية منعه من الكتابة والحد من حريته التعبيرية. والى موقف السلطة من دي ساد وموقفه منها، عج المكان بشخصيات ومواقف أخرى كثيرة، بينها موقف المشرف على المصحة الراهب كولمييه واكين فينكس الممزق بين نداء الروح ونداء الجسد، والممرضة مادلين كيت وينزلت التي تساعد دي ساد في تهريب كتاباته والقاضي رويار - كودار مايكل كين الذي هو يد السلطة التنفيذية والذي لا يعرف قلبه أي شفقة أو عاطفة حيال أحد. هذه المواقف انعكست على اختيارات المخرج ومدير التصوير رجييه ستوفرز الفنية. وبحسب حديث خاص مع المخرج، بني أسلوب التصوير على التماثل مع اللوحات الكلاسيكية - غير المنتمية الى الفن التعبيري فن فان غوغ وبول غوغان مثلاً، للمرحلة واستيحاء ألوان الفيلم من ألوانها: "...لذلك تجد الجدران زرقاً باهتة والستائر بنية. هذه هي المرحلة السابقة للحداثة والتي جمعت بين الكلاسيكية والواقعية، واستلهمناها لتكون مرشداً لنا في هذا الفيلم". جهد ستوفرز ملحوظ ايضاً في الإضاءة، بل هي التي تمنح تلك الألوان المختارة طقوسها الواقعية وأجواءها المناسبة لكل تلك المشاعر المتناقضة التي تعايشها شخصيات الفيلم. ولكن بمقدار ما يبدو هذا الجهد كبيراً، قد لا يستولي على الانتباه كما يجب، نظراً الى دكانة الأحداث برمتها ودوران معظمها في تلك المصحة ما سيحد من ابراز عنصر التصوير في مواقع أكثر ابهاراً او جاذبية. بياض الثلج "كل تلك الجياد" واحد من موجة مفاجئة من أفلام الوسترن تألفت من ثلاثة أعمال، وتبدو كما هي اللفظة الأخيرة لنوع كان ذات يوم "الخبز والجبنة" للأنواع الهوليوودية كلها، لوفرته ورخصه ونجاحه. الفيلمان الآخران هما "جنوب الفردوس، غرب الجحيم" الذي كتبه بيلي بوب ثورنتون وأخرجه برداءة منقطعة النظير المغني دوايت يوكام وقام ببطولته ايضاً، ولا يستحق التعليق هنا. والثاني هو "العهدة" للمخرج البريطاني مايكل وينتربوتوم الذي صوره ألوين كوشلر. أحداث هذا الفيلم تقع فوق ثلوج المنطقة الشمالية من كاليفورنيا، ومدير التصوير عمد الى نقل الطبيعة عموماً من دون تأليف. لكن لمساته الجيدة موجودة في المشاهد الداخلية الداكنة التي تبدو غالباً مضاءة بأقل مصادر الضوء، وبالتالي عاكسة جواً واقعياً ينشده وينتربوتوم بصرف النظر عن حجم الفانتازيا في أعماله. "العهدة" يذكرنا بفيلم روبرت ألتمن "ماكاب ومسز ميلر" الذي صوره بجدارة أعلى فيلموس زيغموند 1971 وبفيلم مايكل شيمينو الرائع الذي استقبل بهجوم النقاد الغربيين قبل أن يعاودوا لحس كلامهم "بوابة الفردوس" الذي صوّره ايضاً زيغموند 1980. ونظراً الى نتائج الأوسكارات الماضية في مسابقة افضل تصوير، نلحظ أن الأفلام التي تعتمد مثل هذه المناطق الفسيحة والمناظر الطبيعية الكبيرة والإنتاجات الضخمة هي التي تعود على مصوريها بالجوائز في هذا المجال: الايطالي فيتوريو ستورارو حصد اوسكارين عن "حمر" لوورن بيتي - 1981 و"الأمبراطور الأخير" برناردو برتولوتشي - 1987، وكريس منغز نال ايضاً اوسكارين في السنوات العشرين الأخيرة، الأولى عن "حقول القتل" 1984 والثانية عن "المهمة" 1986 وكلاهما من اخراج رونالد جوفي رئيس لجنة تحكيم مهرجان القاهرة في دورته الأخيرة. أيضاً من الأفلام الكبيرة التي فاز مصوروها بالأوسكار "مجد" تصوير فردي فرنسيس - 1989، و"فاني وألكسندر" تصوير سفن نكفست - 1983، و"الرقص مع الذئاب" تصوير دين سملر - 1990 و"اساطير الخريف" 1994 و"بريفهارت" 1995، كلاهما من تصوير جون تول. وصوّر جون سيل الصحراء العربية، من بين مواقع أخرى في فيلم "المريض الانكليزي"، ونال أوسكاراً عام 1996. كل هذه الأفلام تعكس ميل اعضاء الأكاديمية الى الصورة المجسدة والكبيرة على حساب تلك المحصورة في المدينة الحديثة، وفي أفلام جلها واقعي او محدودة المكان. هذا التقليد اخترقه، العام الماضي، فيلم "جمال أميركي" عندما فاز مصوره كونراد ل. هول بأوسكار أفضل تصوير. إنتاج صغير... إنتاج كبير هذا العام هناك أفلام صغيرة من هذا الصنف من مثل: "شوكولا" تصوير روجر برات اخراج لاسي هولستروم، و"لحن جنائزي لحلم" تصوير ماثيو ليباتيك اخراج دارن أرونوفسكي و"برهان حياة" تصوير سلافومير ادزاك اخراج تايلور هاكفورد، بين كثرة أخرى. ولكن بوجود أفلام ذات نسيج عريض وانتاج كبير ستتقلص حظوظ الأفلام الصغيرة من جديد، علماً أن نتيجة ماثيو ليباتيك جيدة ومميزة. كذلك الأمر بالنسبة الى تصوير هاريس سافيديس فيلم غس فان سانت الجديد "ايجاد فورستر"، والى تصوير الايطالي دانتي سبينوتي فيلم "ووندر بويز" للمخرج كيرتس هانسون. يتعلق فن التصوير، ولو بعيداً من الوهلة الأولى، بحجم الفيلم انتاجياً. طبعاً يتعلق، وفي شكل واضح، بالقصة وطقوسها ونوعها، الا أن الحجم الإنتاجي يمنح مدير التصوير القدرة على التمادي في فتح العدسات على الواسع والثري جمالياً أو لا. فيلم "غير القابل للكسر" مثلاً كان سيختلف كثيراً لو كانت الموازنة كانت في حدود عشرين مليون دولار مبلغ يمكن صنع الفيلم فيه بالاستغناء عن النجم وعن عناصر فنية وجمالية أخرى. تحت إدارة مدير التصوير البرتغالي ادواردو سيرا، أتى الفيلم نسيجاً جيداً من التفنن في استخدام مصادر مختلفة للإضاءة مع محاولة البقاء - معظم الوقت - في إطار الواقعي. المخرج الهندي الأصل م. نايت شماليان اختار سيرا لأنه أعجب بدرايته على هذا الصعيد وهو ما حققه الأخير جيداً. بالتعاون مع مصممي المناظر المخرج الهندي الآخر تارسم، وفي إطار فيلم غرائبي آخر هو "الزنزانة" او "الخلية"، إذ يعتمد ذلك المقصود بكلمة The Cell التي تعني الكلمتين والفيلم يتضمنهما معا استعان بمدير التصوير الجديد نوعاً، بول لوفير لتوفير جو يعتمد في الأساس لا المكان الطبيعي ولا حتى المشاهد الداخلية في البيوت او في أقبية المدينة، بل التصاميم الفنية والمناظر "الديكوراتية" التي ابتدعتها مخيلة المخرج. النتيجة هنا جهد ناتج عن مزج ناجح بين كل هذه العناصر الفنية، لكي تؤدي الغاية وتقدم "غرائبية" الفكرة والصورة الناتجة عنها. "الزنزانة" من أكثر الأفلام فنية، لكن ذلك لن يمنحه التقدير المطلوب. في هذا اللون من الأفلام المتدرجة من الغرائبي المشوق الى الغرائبي المخيف - وبعيداً من همّ الجوائز ومن ينالها - لا بد من ملاحظة النتيجة الفنية الجيدة التي سادت فيلم رعب بعنوان "ارواح ضائعة"، على رغم أنه، اخراجياً، لا يترك اي وقع ايجابي على أحد. المخرج هو يانوش كامينسكي، وهو مدير تصوير معتمد من المخرج ستيفن سبيلبرغ ونال اوسكاريه عن فيلمين من اخراجه هما "لائحة شندلر" 1993 و"انقاذ المجند رايان" 1998. هذه المرة اختار كامينسكي الوقوف مخرجاً ومنح مساعده السابق الايطالي الأصل ماورو فيوري المهمة المنشودة. والنتيجة تصوير اسلوبي مناسب لفيلم من هذا النوع، ولو أنه أحياناً مغرق في هذا التناسب الألوان بنية أكثر من المطلوب والإضاءة متوهجة صناعياً في مشاهد أساسية. هاريس سافيديس الذي صور "ايجاد فورستر" كما تقدم، صوّر ايضاً "المسافات": فيلم للمخرج جيمس غراي استقبل بفتور تجاري على رغم حسناته. احدى أهم هذه الحسنات للعين الفاحصة، استلهام المشاهد الداخلية من كلاسيكيات أوروبية. في هذا الفيلم البوليسي، نرى مارك وولبرغ يحاول الابتعاد عن الجريمة، لكن العائلة التي ينتمي اليها كلها في ذلك المنوال من "البزنس". وعلى رغم نوعية الفيلم البوليسية، إلا أنه عن الشخصيات والأفكار، أكثر مما هو عن الأحداث القصصية. هو قريب - في هذا الشأن - من "العراب" لفرنسيس فورد كوبولا. الاستلهام الأساسي، كما يعترف سافيديس، جاء من أفلام لوتشينو فيسكونتي، "الفهد" الذي صوره الفنان الرائع جوزيبي روتانو عام 1963. ولكن على رغم هذا الاعتراف، يبدو "العرّاب" نموذجاً مطروحاً، ولو أن "المسافات" لا يستطيع لا تجاوز لمسات روتانو الواقعية والحانية ولا مفردات غوردون ويليس المعززة أكثر بتصاميم فنية مذهلة في جزءي "العراب" الأول والثاني.