هذه هي السنة الرابعة والعشرين التي أتوجه فيها الى هذه المدينة. ومثل ألوف غيري لا نراها إلا مرة في العام وفي هذا الوقت بالذات. يمضي الوقت سريعاً بين ما تتلقفه العين وبين ما يعيه الذهن من أفلام. نتائج من المفترض ان تكون أفضل ما وفرته مخيلة وهمم المبدعين السينمائيين حول العالم. أحياناً تصاب التوقعات بخيبات أمل، وأحياناً تلقى النجاح، وفي أحيان أخرى نجد ان ما على الشاشة من الإجادة بحيث لا يمكن تكراره على الشاشة مرة اخرى فما بالك على الورق؟ في 24 سنة مرت وجوه وأسماء كثيرة على الشاشة كما في الحياة. غيب الموت أناساً كنت أعرفهم بملامحهم فقط، أو ربما كبروا وما عادوا يكترثون للمجيء الى مدينة تستهلك طاقة كبيرة في العمل بصرف النظر عن ماهية ذلك العمل. وبالطبع هناك وجوه جديدة خلفتها، بعضها أفضل من بعضها الآخر. تلك سنة الحياة، لكن ما أود قوله هنا هو ان المرء يستطيع ان يرى العالم كله وهو يتحرك على شاشة هذا المهرجان، عبر الأفلام وما عكسته حينها وما تعكسه الآن اذا ما عدنا اليها اليوم. صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية نشرت ملحقاً بمناسبة الدورة الحادية والخمسين من مهرجان "كان" السينمائي الحالي احتوى جردة لسبعة وعشرين فيلماً على مدى 25 سنة من العام 1973 الى اليوم. الاختبارات كانت حرة ولم تكن حكراً على الأفلام التي حصلت على جوائز في المهرجان، لكنها بالتأكيد عكست روحاً تنبع من غمار وأجواء كل واحدة من تلك السنين والى الزمن الحالي. واذا ما فكرت تجد ان العالم قطع في ربع قرن اكثر مما قطعه في قرن كامل. كل تلك الانجازات والتحولات التي أصابت كل فرد في كل مكان من العالم حتى ذلك الذي يعيش منقطعاً في قرية معزولة في أقصى غربي الصين تستطيع ان تقول انه متأثر بالحاصل على نحو أو آخر. أحد الأفلام التي توقف عندها الملحق "المقتفي" Stalker لأندريه تاركوفسكي 1981. ومع اننا نتحدث عن تاريخ قريب نوعاً، إلا ان المسافة شاسعة بين كيف كنا أيام حقق شاعر السينما المبدع فيلمه ذاك، وأين أصبحنا أيام جيمس كاميرون و"تايتانيك" أو رولاند ايميريش و"غودزيلا". الحديث عن هذا الفيلم يجب ان يحتل كتاباً، وإذا لم يحدث ذلك بعد فلأن أحداً لم يسبر غوره حتى النهاية، لم يغرف منه كثيراً وربما لم يكن لديه ما يغرف به. انه تحفة بارعة مثيرة للذهن والمشاعر وجميلة للعين، في كل لقطة مفردات رائعة من لغة السينما ولغة الحياة معاً. هل يمكن حقاً تقديم فيلم كپ"المقتفي" اليوم؟ هل هناك من لديه ما يلزم لفيلم كهذا؟ ماذا عن "1900" و"سفر الرؤيا... الآن" و"الغاية الغامضة للرغبة" و"سايبرياد" و"شجرة القبقاب الخشبي" و"كاغاموشا" و"الأب السيد" و"سائق التاكسي" و"وقائع سنوات الجمر" و"سنوات ضوء بعيدة" و"رجل المرمر"... برتولوتشي، كابولا، بونويل، كونتشالوفسكي، اولمي، كوروساوا، تافياني، سكورسيزي، حامينا، تانر، فاىدا... عشرات غير هذه الأفلام وغير هؤلاء المخرجين. الجواب نعم صغيرة. قبل سنوات اكتشفنا في تورنتو فيلماً من النوع ذاته اسمه "تانغو الشيطان"... لكن أحداً لم يتوقف. ماذا حدث؟ كم ننسى وكم بات العقل حاضراً في اليوم فقط ولا يسترجع الماضي إلا حين تدعو حاجة اليوم الى ذلك... هذا اذا دعت الحاجة. استعادة ذهبية هذه السنة قد تدعو الحاجة. هناك اكثر من ضرورة بدءاً من حقيقة ان الدورة الحالية هي الدورة الأولى في مستهل النصف الثاني من القرن "الكاني". في العام الماضي، عندما احتفل المهرجان بنصف قرن من عمره ومنح يوسف شاهين جائزته الخاصة للمناسبة، بدا واضحاً ان الاحتفال كان يسير باتجاه ومستوى معظم الافلام التي عرضت: كان يسير باتجاه معاكس. لقد استقطب المهرجان عدداً كبيراً من الفائزين بالسعف الذهبية لم يستطع استعادة الراحلين من مثواهم وإلا لفعل لكنه لم يستطع، عبر الأفلام المشاركة في المسابقة، استعادة الأزمنة الذهبية التي مرت عليه إلا لساعات قليلة منفردة مثل جزر بعيدة لا يقرب من ساحلها أحد لأنها ليست في الطريق بين القارات. هذا العام هناك مدعاة أفضل لمثل هذه الاستعادة. واذا ما كانت هناك كلمتان تلخصان هذه العودة وتوفران تعويضاً لذلك الغياب لوجدناهما في: أنجيلوبولوس وبرغمن. المبدع اليوناني الكبير ثيو انجيلوبولوس يقدم في هذه الدورة فيلمه الجديد "الأبدية ويوم" في اطار المسابقة، وعبقري الدراما النفسية انغمار برغمن يقدم "في حضور المهرج" في قسم "نظرة ما". كل منهما آت من ماضٍ كم يبدو سحيقاً اليوم على رغم انه لا يعدو اكثر من بضعة عقود. كل منهما خامة من صنع زمن كانت فيه الصورة نقية والذات سامية والرغبة في معرفة الذات كشرط لمعرفة الغير تواقة. كل منهما نافذة تفتحها على ثقافة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ترى منها ما ماج في أفق الحياة الثقافية في أوروبا وما اعتلا ناصية أحداث العالم السياسية. أفتح النوافذ كلها، نافذة بن، كوروساوا، سكولا، كوبريك، بونويل، فيلليني، تجد العالم كله بين يديك حباً وحرباً. سنوات قبل الحقيقة الى جانبهما أسماء لا يمكن إغفالها، لكن أياً منها لم يصنع تلك السينما التي صنعها هذان العملاقان. هؤلاء الباقون يجهدون. العالم المتهالك للشعور بأننا ما زلنا نملك نواصي فنية كبيرة والذي يريد ان ينسى اننا نخسر مع كل غياب لعملاق أو مع كل خسارة للذات الجميلة فينا. هناك السويسري آلان تانر يعرض له في نطاق "نصف شهر المخرجين" فيلم بعنوان "صلاة" والايرلندي جون بورمان "الجنرال" في المسابقة والبرتغالي مانويل دي أوليفييرا "قلق" خارج المسابقة والبريطاني كن لوتش "اسمي جو" في المسابقة والاسباني كارلوس ساورا "تانغو" - خارجها. والياباني شوهاي ايمامورا يعود بفيلم جديد هو "المعلم كوكور" الذي يعرض ايضاً خارج المسابقة. وهو ايضاً من رعيل الأمس الذي لا يفتأ يقدم أعمالاً ذات مسحات متواضعة ومعان عميقة "أنشودة ناراياما"، "ثعبان البحر". وهناك تيري جيليام وهو ساو هسين وروبرتو بينيني من بين اسماء أخرى. ولو جمعتهم في قائمة لبدا الأمر كما لو كان المهرجان يعيش سنة أخرى من تلك السنوات الذهبية المنصرمة. لكن بعض الحزن ليس في أن الأيام - بمن فيها - تغادرنا ولا تعود، بل أيضاً في أننا أكثر استعداداً للاحتفاء بجديد لم يتوصل بعد الى مصاف من لا غبار عليهم. لقد تطلب الوقت مع نقاد اليوم سبع عشرة سنة قبل ان يكتشفوا، في العام الماضي، ان فيم فندرز ليس بالمخرج العبقري كما اعتبر كثيراً، بل أقرب لأن يكون المشروع الذي لن يكتمل. فيلمه "نهاية العنف" جاء فارغاً ومتكلفاً في آن. كذلك الحال في العام الأسبق عندما قدم ديفيد كروننبيرغ فيلمه المفتعل والبشع "حطام". وكم من مخرج آخر لا يزال المشروع الذي لن يكتمل لأن أحداً لن يتوقف ويقارن ويسأل وينقب باحثاً قبل ان يحكم؟ كم من مخرج سيبقى قارباً في بحر يتحرك من دون ان يصل الى أي بر؟ خانات بعضها امتلأ، وبعضها الآخر فارغ مثل كلمات متقاطعة لم يتسن لأحد ان يكترث لملئها لمجرد ان عدداً كبيراً من نقاد اليوم منضم الى تيار الآن مثل مصممي الأزياء يتنفسون هواء الحاضر وحده لأنه كل ما يعوه. وعوض التأثير يزودون المخرجين المعاصرين بالمباركة لمجرد انه طرح قصة على نحو مختلف، أو ترك الكاميرا تصور مشهداً لا نهاية له في فيلم بلا ايقاع، أو انه أظهر وداً تجاه الشاذين جنسياً أو الشاذين عموماً. فيلم الافتتاح كان للاميركي مايك نيكولز، وهو فيلم يتعامل ومسألة عصرية: هناك من ينوي إلحاق الأذى بالبيت الأبيض وبالرئيس بيل كلينتون تحديداً والسينما تبدو مرآة وضع فجرته فضيحة ربما وقعت وربما لم تقع. كلينتون ربما كان بريئاً مما ينسب اليه، وفي هذه الحال هناك مستفيدون لديهم "روزناماتهم" الخاصة، وربما لم يكن بريئاً ما لا ينفي وجود مستفيدين بروزنامات خاصة. "ألوان أساسية" يبدو كما لو كان شريكاً في "نظرية المؤامرة" المطروحة على البيت الأبيض، لكن اذا ما استبعدنا هذا التفسير السياسي وجدنا أمامنا فيلماً محبباً، جيد الصنعة وينبش في الوسخ الشخصي لمرشح رئاسي جون ترافولتا لا يستطيع الحد من غزواته العاطفية خلال حملاته الانتخابية. فيلم الاختتام، وهو ايضاً أميركي، يختلف تماماً. انه ماذا سيحدث لنيويورك عندما يخرج من البحر ذلك الوحش الخرافي الهائل "غودزيلا" ويبدأ بالتنزه في شوارع مانهاتن. شركة صوني أحاطت صورة الوحش بالسرية التامة على أساس ان ذلك من ضروريات ضمانة أكبر عدد من المشاهدين والايرادات. المخرج رولاند ايميريش الذي سبق له ان دمر البيت الأبيض في فيلمه السابق "يوم الاستقلال" سيكون سعيداً للغاية اذا ما دمر "غودزيلا" ايرادات "تايتانيك"... لكن أحداً غيره لا يحلم بذلك. "ألوان أساسية" يخلو من أية صنعة تقنية. لا مؤثرات ولا خدم ولا كومبيوتر - غرافيك. انه مثل بداية السينما. "غودزيلا" بجيشه من التقنيين ومئات التفاصيل التقنية التي صنعته أقرب لأن يكون نهاية السينما. لا عجب ان الأول يبدأ "كان" والثاني "ينهيه". خارج المسابقة ايضاً "مدينة مظلمة"، وهو أفضل من الفيلمين المذكورين، مخرجه اليكس بروياس، أقل شهرة من أي منهما وأقل نجاحاً أيضاً. حقق من قبل "الغراب" الذي كان جيداً كرؤية مستوحاة من الرسوم المتحركة الشعبية في اطار خيالي داكن. "مدينة مظلمة" أفضل منه في كل نواحي هذه الصنعة. القصة لها مغزى غامض يستحق المتابعة، والمعالجة مشوقة والعالم الذي يرسمه بروياس ليس مصطنعاً أو مفتعلاً، بل يعبر عن رؤية فنية تنتمي الى تلك التي ألف منها ستانلي كوبريك "أوديسا الفضاء 2001" وريدلي سكوت "راكض النصل". أفضل من ذلك ان تكلفة "مدينة مظلمة" الذي يكشف عن مفاجأة مذهلة في ربع الساعة الأخير صنع بميزانية أسبوع تصوير واحد من "تايتانيك" وبأقل من نصف تكلفة فيلم "غودزيلا".