بعد مرور بضعة أشهر على تسلم الرئيس بشار الأسد الحكم في سورية، يمكن تلمس ملامح الأسلوب الجديد في التعاطي مع العلاقات السورية - اللبنانية من جهة ومشاركة السوريين مثقفين ومواطنين في النقاشات العلنية حول مستقبل نا من جهة ثانية، وسعي البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الى الانتقال من قداسة الموقع الديني الى "الزعامة السياسية" من جهة ثالثة. شهدت السنوات الأخيرة غياباً في الزعامات السياسية المارونية بسبب نفي قائد الجيش الجنرال ميشال عون لمعارضته "الشرعية" وسجن قائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع بموجب احكام قضائية و"النفي الطوعي" الذي اختاره الرئيس السابق أمين الجميل قبل عودته أخيراً. ولا شك في ان هذا الغياب خلق فراغاً سياسياً في الشارع الماروني تقدم البطريرك صفير الى ملئه وتحرك رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الى شغل ما تبقى منه مراهناً على جملة من التطورات بينها اعتقاده ان تبني مواقف الموارنة والتحالف معهم يضمنان له الحصول على مقاعد توازي حصته الحالية في "نظام الأقضية" عندما يطبق الطائف وتجرى الانتخابات بحسب المحافظات. وليس مصادفة ان "التقدم" و"التحرك" جاءا في وقت قيل ان سورية عادت الى "حجمها الطبيعي" بعد رحيل الرئيس حافظ الأسد وعن وجود "تيارات" أو "عقليتين" في سورية بعد تسلم الدكتور بشار الأسد الحكم الذي طرح العلاقة بين دمشق وبيروت الى العلن رغبة منه في جعلها "نموذجية" من جهة ول"تصحيحها" وازالة ما اعتراها من شوائب وتراكمات عبر السنين من جهة ثانية. وكان صدور بيان "مجلس المطارنة" ومطالبته بخروج الجيش السوري بداية تلاها اعلان صفير قبوله ما قاله جنبلاط عن الوجود السوري "أساساً للحوار" لتنفيذ الرغبة في التحول واقعياً الى زعيم سياسي ماروني، ولعل سعي صفير الى "الزعامة" بصرف النظر عن موقف الأطراف المعنية يسمح أكثر بمناقشة أفكاره وتصريحاته من دون ان يفسر ذلك في اطار "الكفر الديني". ويمكن اخذ مثال من تعامله مع "مبادرة" رئيس المجلس النيابي نبيه بري التي استهدفت "التبليغ" و"الحلحلة" اذ وافقت دمشق عليها وان كانت وجدت فيها "تجاوزاً للحدود" تمثل في أن بري تجاوز خطاب الرئيس اميل لحود في عيد الاستقلال الذي أعطى ابعاداً اقليمية للوجود السوري وعلاقته بعملية السلام، بينما هو حجمه في الشارع اللبناني، ووضع "الأب الصالح" فوق مقام المؤسسة الرئاسية والعماد لحود، وأعلن خطوات سياسية وعسكرية واجتماعات لقيادات عسكرية للبحث في "اعادة انتشار" اعادة التمركز بحسب اتفاق الطائف الجيش السوري وعن وجود "خطة محددة" لحصول ذلك في المستقبل. وهو ما كشفت الأيام انه لم يحصل، وما قرأته دمشق كأنه استجابة لمطالب "جهات معينة" وليس لما تعتقد انه يخدم مصلحة البلدين. بصرف النظر ما اذا كان "تبليغ" بري جاء منسقاً مع القيادة السورية أو مسؤولين فيها، كيف تصرف معه البطريرك صفير؟ صعد اللهجة بعدها ل"فرانس برس"، ما طرح تساؤلاً عن مدى وجود رؤية سياسية للمستقبل. ثم نقلت صحيفة "ليبراسيون" خطاباً أشد جاهر بأن "لبنان مهدد بالزوال"، ثم أعلن البراءة من هذا الكلام، ما جعل مشروعاً طرح أسئلة: هل يتبرأ الساعي الى السياسة من "مواقف استراتيجية"؟ أليس رجل الدين اشد ثباتاً على مواقفه من السياسي؟ طبعاً رجل الدين هو ضمير رعيته، لكن هل يطرح من يبغي خوض غمار السياسة سقفاً غير قابل للتحقيق؟ اليس مشروعاً أيضاً السؤال عن أسباب تصادف رفع "السقف العالي" في وسائل اعلام خارجية وفرنسية تحديداً في وقت لا تزال مساحة الصفحات اللبنانية في خير؟ طالب البطريرك صفير في تصريح ل"ليبراسيون" بتنفيذ القرار 520 الذي يتحدث عن "الجيوش الأجنبية"، أي انه ساوى بين الجيشين السوري والإسرائيلي وبالتالي فإن أياً من الجيشين إما عدو أو شقيق أو صديق في أدنى حد طالما انه لا يحب استخدام "شقيق" في وصف ما هو سوري. لكن ماذا يقول "الأب الصالح" لوالد جندي سوري استشهد في لبنان دفاعاً عنه امام الجيش الإسرائيلي؟ ولماذا لم نسمع أصواتاً بالصوت العالي ذاته للمطالبة بانسحاب إسرائيل من جنوبلبنان؟ ظهرت مطالبة أولى بانزال أقسى العقوبات والإعدام للمتسببين بالاضطرابات في الضنية، وثانية بالتخفيف عن المتعاملين مع إسرائيل، وثالثة باتهام من يقف مع دمشق بانه "عميل سوري". ما هو المعيار في ذلك؟ هل كل ما هو "سوري" عدو؟ هناك خوف لبناني من "اندماج وحدوي" أو "سورنة" لبنان، لكن من يعرف في السياسة الدولية والاقليمية والوطنية يدرك ان أمور العلاقات لا تسير في اتجاه "الاندماج" و"السورنة"، بل في اتجاه المصالح المتبادلة وتصحيح المسار على أساس الجغرافيا والتاريخ. قيل ان الرئيس كميل شمعون طلب بمعرفة المحامي كريم بقرادوني ب"انجاز اتحاد فيديرالي" يضم البلدين والأردن الأمر الذي رفضه الأسد قائلاً: "لا نقبل ان يكون ذلك ثمناً للدور السوري في انقاذ المسيحيين". سأل أكثر من مرة البطريرك صفير عن أسباب رفض الرئيس بشار الحوار معه مع انه يملك "غطاء دينياً" من روما على عكس باقي المرجعيات التي كانت تثبت ابان الحكم العثماني من الباب العالي "وغطاءً سياسياً" من فرنسا العلمانية حين استقبله الرئيس فرانسوا ميتران في العام 1986 بعد التثبيت من قبل روما. لكن هل هذين الأمرين يكفيان ل"الحوار"؟ الا يفرض هذا "المنطق" سؤالاً آخر: اذا كان هناك غطاء ديني من روما وغطاء سياسي من باريس، أليس لبنان مستقلاً عن فرنسا، بل كان أول من تحرر من نير المستعمر؟ وبالنسبة الى المطالبة بخروج الجيش السوري تنفيذاً لاتفاق الطائف الذي وافق عليه صفير: أولاً، ألم يكن لدمشق دور في حماية المسيحيين في الجبل العام 1976؟ وثانياً، من يقرأ كل بنود "اتفاق الطائف" يعرف ان "وثيقة الوفاق الوطني" أعطت مدة سنتين ل"اعادة الانتشار" ولم تطلب ذلك فوراً بل ربطته بإلغاء الطائفية السياسية وتحقيق الوفاق بحكومة وفاق وطني وانجاز الديموقراطية العددية وانتخابات على أساس المحافظات. ربما يقال ان سورية المسؤولة عن عدم التنفيذ، لكن في المعنى القانوني - السياسي هل تحققت هذه الأمور على الأرض؟ ان البطريرك صفير يطالب باعادة انتشار من دون الاشارة الى الغاء الطائفية السياسية، لكن لا شك في ان فكرة الوطن تكتمل بإلغاء الطائفية السياسية التي تطاول كل "الزعامات" وأن تكون مختلف الشرائح ممثلة بالحكومة. هل ذلك مطلوب فعلاً من المسيحيين ونسبتهم - كما يقال - لم تعد تتجاوز ال40 في المئة؟ بعيداً من الشعارات هل يختصر الوطن بالطائفة؟ استجاب الرئيس الأسد مطالب الرئيس لحود بتسليم "كل" المساجين اللبنانيين في سورية تخفيفاً للاحتقان في الشارع الأمر الذي يستدعي الترحيب والتمني بطي ملف المعتقلين والسجناء و"التصالح" مع الذات والآخر. لكن سرعان ما ظهرت مطالب بإعداد أكبر وكأن سورية مسؤولة عن كل شخص مفقود في الحرب الأهلية. أي ليس مهماً تحقيق الايجابيات بل الاستمرار في المطالبة... لطلب الزعامة. وبعد التشكيك ب"التبليغ"، جاء التشكيك ب"التسليم". بعيداً عن الجيش والسياسة تحدث البطريرك صفير كثيراً عن العمال والطلاب السوريين وكأن أياً من الأمرين "مصيبة المصائب" ومسؤول عن "الأزمة" الاقتصادية والتعليمية في لبنان، غير أن أهل الخبرة والاختصاص يقولون انه لا يمكن الحديث عن العمالة السورية والمبالغة بأرقامها من دون الحديث عن الجدوى الاقتصادية من وجود مئات الآلاف وليس الملايين والأعمال التي يقومون بها حالياً. بالتالي، هل يقوم اللبنانيون بذات الأعمال التي يؤديها السوريون؟ هل ذلك مجد اقتصادياً؟ ولماذا يشغل ارباب العمل هؤلاء العمال؟ لماذا لا يطردوهم اذا لم يجدوا مصلحة في ذلك؟ لا شك في ان اللبناني ينظر الى أي "سوري" في لبنان، على أنه "الممثل" لسورية ما يتطلب من السوري - المواطن - الجندي مستوى من التصرف يساوي الوطن - الشعب - الجيش، لكن النظرة الاستعلائية والعنصرية، المرفوضة بأي شكل من الأشكال، ليست ضد "العامل" وحسب بل ضد كل ما هو "سوري". الا تبرر النظرة العنصرية الأوروبية والأميركية ضد ما هو "لبناني" منذ مطلع القرن الماضي؟ هنا، الا يطابق شعور اللبناني ما يحس به السوري تجاه "العنصرية" اللبنانية ضده؟ لماذا لا يدخل في الحساب والحديث آلاف السوريين الذين يذهبون في نهاية كل أسبوع الى شتورا والى المصارف اللبنانية لصرف ملايين الدولارات سنوياً؟ ألم يقل انهم يملكون 30 في المئة من الايداعات الخارجية في هذه المصارف؟ في دمشق، موضوع الطلاب لا يقل ايلامه عن العمال: ان التعليم ونزاهته أمر مقدس يجب عدم مسه وتصويب أي صغيرة وكبيرة فيه، وهو ما حصل عندما سوي موضوع الطالبين اللذين اثيرت حولهما "الأزمة". لكن لا يغيب عن الذهن ان آلاف الطلاب اللبنانيين درسوا في الجامعات السورية خارج معايير القبول منذ ربع قرن وأنه قد قُبِلَ أكثر من ألف طالب في العام الجاري. الخشية، ان يخرج احد "المتعصبين" و"المتحزبين" بفعل حشد الحماسة ضد كل ما هو "سوري"، ليشرع سلاح الاتهام بالتكفير الديني وهدر الدم من دون مناقشة علمية لذلك. الا يعيد نا كل ما تقدم الى القرون الوسطى أو الى محاكم التفتيش؟ لا شك في ان وجود قناعة لدى الشارع السوري، أن شرائح لبنانية انكرت جهد بدل تضحية أو جميل الجندي - المواطن السوري ودمائه في الحماية أولاً ومنع التقسيم ثم في آلاف الجنود الذين استشهدوا دفاعاً عن ارض لبنان ثانياً، رفع موضوع العلاقة السورية - اللبنانية الى النقاش العلني بين المثقفين والمواطنين سواء على صفحاتنا أو صفحاتكم. ولا شك في ان كل مخلص هو مع النقاش والحوار الصحي بين متكافئين، لكن لماذا الاصرار على دفع "السوري" المؤيد لخطوات رئيسه لمزيد من الحوار والتغيير، الى عنصرية شوفينية مماثلة. هل هذا هو المطلوب في عصر نهاية العنصريات؟ هل المطلوب ان يكون الشارع السوري ضد طائفة معينة؟ الا نخشى على نا ان تضيع الحسابات وفرصة الحوار ويعيد التاريخ نفسه؟