ليس صحيحاً أن النظام الحديث الذي يدعي الرسو على الحيدة العلمية لا يبني، كما يظن مثلاً طه عبدالرحمن، لغته السياسية الصناعية على القيم. الا انها قيم لا تتقايس مع القيم القرآنية بل غالباً ما تسعى الى تعطيل فاعليتها مناهضة لأي سلطة متعصبة - وتعطيل هذه الفاعلية هو ما كان موحداً من لزاجة التوسط من قبل - الدولة الاسلامية التاريخية. وبهذا المعنى لم يأخذ التوسط من نظام المقاصد التاريخي موقع الهدف والمأرب والغاية اذ كان مطموراً وراء حاجة الدولة الى سبل لإخلاء الحقل السياسي الاداري من القواعد الثابتة التي تمنع التعسف، والى تبرير فرض احكام "أولية" أي خارجة عن الثابت بالتدبير المشرعن بالمصلحة. ولن يستطيع هذا النظام التراثي تحريك آلية المقاصد والالتحاق بالحداثة الغربية في سياق ما سمي بالنهضة التي حاولت استلهامه تحت عناوين المنافع والمصالح العمومية. اذ لم تكن الدولة الحديثة بحاجة الى أي سبل تأويلية للمبادئ المتعالية كونها كانت شرعنت نفسها ببداهة سيادتها وتحولت الى مصدر للسعادة والحرية وللضروريات الحيوية. وهي لذلك وجدت بين الدعوة الإسلامية الاصلاحية آلية جاهزة لتعطيل حركة نظام الاعجاز من الداخل. ويتكرر اليوم الوهم نفسه معززاً بامكانات تكاملية سرابية ومواقع تلاؤمية مخادعة. ويختفي الانجذاب البنيوي الى الميتافيزيقا التنموية المعولمة وراء دعوات فكرية صادقة بحسن نياتها، غير انها تصور الغرب بما ليس فيه وتسهل بذلك من حيث لا تبغي القبول والالتحاق بما هو عليه: "كان لا بد من ان يؤمن طوفان الأقوال الجارف الى آفاق تضر بالأفعال ضرراً كبيراً. ولما كانت الأفعال هي بالذات الجانب السلوكي من الانسان، كما الأقوال هي الجانب التطبيقي منه، تطرقت هذه الأضرار الى الكيان الخلقي للانسان فكانت بمنزلة مظاهر جلية من ظلم الحضارة الحديثة للإنسان، اذ آثرت القول على الفعل بغير حق واسندت اليه وظائفه". سؤال الأخلاق، طه عبدالرحمن. والحال ان ما يميز نظام الحداثة انما اندماج القول بالفعل وانبساط نظم التداول والفاعلية وتمددها بالتوسط ونجاحها باخفاء أصولها السلطوية وبتحسين سبل تعطيلها للنظم التوحيدية. اما ان نعتبر مع طه عبدالرحمن ان الغرب "حضارة قول" فيعني ان نغيّب جوهر التقنية الحديثة الذي يتمثل كما علمنا لبنز ومن بعده هايدغر، بمبدأ الحساب الذي هو مبدأ الفاعلية نفسه الذي حول الطبيعة الى مخزون طاقة. أليست المعلوماتية من هذه الحيثية اخضاع القول لأحكام الفاعلية التي تبلغ أعلى درجاتها في أنظمة السبيرنتيقا؟ فها هنا، كما مضت الاشارة اليه، نوعٌ من التصالح من الخصم والاستيلاء تخييلاً على صفاته. اذ مهما بلغت الدعوة الأخلاقية القائمة على شق الصدر من السمو فإن عدم التحديد الصارم لمعنى القاعدة يعطي نظام الحداثة تحديد امكان المقاصد وتعريف المصالح. يأخذ طه عبدالرحمن - مستنداً الى رأي الشاطبي أن "الشريعة كلها انما هي تخلق بمكارم الأخلاق" - على الأصوليين انهم حصروا، بعد تقويم، المصالح، الى ضرورية وحاجية وتحسينية، الصنف الأول منها في أمور خمسة هي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وذلك لأن هذا التقسيم لا يستوفي تمام الحصر ولا يقوم بشرط التباين "تجديد المنهج في تقديم التراث"، لطه عبدالرحمن. تحديث الآلة المقاصدية أليس هذا هو المطلوب من التقريب: اللزاجة بالتوسط؟ اذ ان غياب تمام الحصر لا يمنع من ادخال عناصر أخرى: "العرض" "العدل". الخ؟ وهكذا نصبح أمام متوالية مطاطة بالتوسط. ويعترض طه عبدالرحمن على انزال مكارم الاخلاق منزلة المصالح الذي "يوهم بأنها مجرد كمالية يمكن الاستغناء عنها، أي انها بمنزلة ترف سلوكي للمكلف بأن يأخذه أو يرده" معتبراً "ان الأمثلة التي ذكرها الأصوليون للمصالح التحسينية تدخل في جميع أصناف الأحكام الشرعية كالطهارات وتحريم بيع الخبائث وأكلها". أليست مرونة "شرعية" لافتة تتحصل في الحقل التداولي بمجرد "تقريب" المقصود وتوسطه بين لغة الباطن والظاهر لغة التلاوة والذكر؟ وحتى عندما يحاول عبدالرحمن تحديث الآلة المقاصدية لتعميم الأخلاق على مراتب المقاصد فإنه لن يقوم الا بتكريس التوسط بعدم اتمام الحصر وترك الباب مفتوحاً أمام المعايير الجديدة لتوزين النظام وأحكامه، وذلك بالاخلال بشرط التباين. وهكذا تلبي قيم النفع والضرر، أي مرتبة "المصالح الحيوية" في تصنيفة عبدالرحمن الجديدة بمرونتها التداولية شروط التوسط التي تناهض الحصر والتباين أو الفعل بالمعنى البرهاني الصوري الأرسطي!. الوصل أو التقريب التداولي في مقابل الفصل البرهاني. وكذلك يمتد التوسط ليعم قيم الحسن والقبح وليحول المعايير المعتزلية من ضوابط تلازمية بين الله والإنسان الى مصالح انسانوية، المصالح العقلية "وهي المعاني الأخلاقية التي تقوم بها المحاسن والمقابح التي تعرض لعموم البنيات النفسية والعقلية، ويكون الشعور الموافق لهذه المعاني هو الفرح عند حصول الخير والحزن عند حصول الشر، والمصالح التي تندرج تحت هذه المعاني أكثر من ان تحصى، ومن الأمثلة عليها: الأمن والحرية والعمل والسلام والثقافة والحوار" "تجديد النهج". هل هذا يعني ان الصبر والشهادة والجهاد والموقف القاطع من الظالم من القبائح؟ لا نعتقد قطعاً ان هذا هو القصد، ولكن لماذا تستبعد المصالح "باتفاق الأمة" الحزن؟ لأنها تستبعد الانتظار والمنح والنقد كما ينبئنا ليوتار عندما يحاول ابراز توحد الانسان المعنوي الجسدي باللغة التي تُمنح. أما هنا في مجال الفصل والتوسط بالتحسين والتقبيح، فيتحول المتعالي الى "غبطة" انسانوية: الاحسان والرحمة والخشوع، "غبطة" تتعاظم مع تعاظم المصالح الحيوية وتكوثر المال والنسل. اذ ان عنوان "المصالح الحيوية" هو اللذة عند حصول النفع والألم عند حصول الضرر. وبتعيينه هكذا للألم ينفصل نظام المصالح عن أي تأمل بما هو عبور الى حال الاستماع الى الممنوح، أي عن أي ألم لا ينفك عن الابداع. لا بل ان هذا النظام يُعيِّن نفسه، خصوصاً في نص الشاطبي، بمناهضة أي تأمل أو أي علم تفكري، وذلك باسم مناهضة الفلسفة، انطلاقاً من الفصل بين النظر والعمل ذي النزعة اليونانية الصريحة... وفي واقع الأمر ليس من تأمل تبصري كاشف الا ويفتح آفاقاً للعمل، ولا فتح لهذه الآفاق الا بالصلاح ولا تقرب الى الأصلح إلا بكسر اقفال التسلط التي تصد عن العمل للتبصر والتبصر في العمل. تجعل هذه المناهضة الصريحة لأي تأمل وابداع، من نص الشاطبي حقلاً يحتوي وأن بصيغ الكمون والقوة على مرونة توسطية براغماتية "مذهلة": "فإن قيل: العلم محبوب على الجملة ومطلوب على الاطلاق، وجاء الطلب فيه على صيغ العموم والإطلاق فتنتظم صيغة كل علم، ومن جملة العلوم ما يتعلق به عمل وما لا يتعلق به عمل، فتخصيص احد النوعين بالاستحسان دون الآخر تحكم". وأيضاً قال العلماء: تعلم كل علم فرض كفاية، كالسحر والطلسمات وغيرهما من العلوم البعيدة الغرض عن العمل، فما ظنك بما قرب منه كالحساب والهندسة وشبه ذلك؟ ... ويزعم الفلاسفة ان حقيقة الفلسفة انما هي النظر في الموجودات على الإطلاق اذ تدل على صانعها، ومعلوم طلب النظر في الدلائل والمخلوقات. فهذه وجوه تدل على عموم الاستحسان في كل علم على الاطلاق والعموم. فالجواب عن أول: ان عموم الطلب مخصوص واطلاقه مقيد، بما تقدم من الأدلة. والذي يوضحه امران: احدهما ان السلف الصالح من الصحابة والتابعين لم يخضعوا في هذه الأشياء التي ليس تحتها عمل، مع انهم كانوا أعلم بمعنى العلم المطلوب ... والثاني ما ثبت في كتاب المقاصد ان هذه الشريعة أمية لأمة أمية. قال عليه السلام: "نحن امة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا" "الموافقات" ولكن ماذا عن طلب العلم ولو في الصين؟ وفي أية حال ألا يعني ادعاء الهندسة والرياضيات والتبصر بالثقافة اذا ما أوّلت كلمات الشاطبي وفق اشارتيها التداولية الراهنة الالتحاق بعلوم "سوق العمل" وبدعوات المهنة والتأهيل وتدمير الأرث الثقافي حتى الأوروبي باسم العولمة؟ إن قراءة الشاطبي تذهلنا باظهارها ما لنظام المصالح المتوج بالمقاصد من لزاجة تداولية تجعله معبراً بالغ الأهمية من أصول التراث الفقهية التى الحداثة بأشد صورها تقدماً وتحكماً: التنمية المعولمة الراسية على ميتاسياسة "التوسط" و"الحوار" و"الحرية". أي بكلمة التداول المصلحي Pragmatisme. غير ان هذا التحول التاريخي في الأصول لم يستطع استكمال نفسه في نظام مصلحي معمم في الزمن الإسلامي وذلك لارتطامه الدائم بالمتعالي القرآني، ولعل مساره الراهن الذي يجعله يظهر من جديد بأكمل صيغة وأفعلها كميتافيزيقا تنموية كاسحة بعد اخضاعه التأمل المسيحي لافتقاره الى لغة مكتملة تعين الديني بعدم المس بها، هو ما ينكشف في فكر ليوتار وما يعطي اضاءة ارتجاعية توضح معنى اللقاء بين فقه المصلحة وميتافيزيقا التنمية وتظهر ما يفترض ان يظل مطموساً في المتعالي القرآني ليتم هذا اللقاء. ليس النظام التنموي الحديث نظاماً يجعل من الانسان غاية نفسه، بل انه شبيه بنظام المصلحة الأصولي، يدخل الانسان في نظام يؤمن صلاحه، تظل المصلحة معياره وسعادته التي تظل اللذة أصلها. غير ان ليوتار يكشف كيف ان نظام التنمية ينسب الى نفسه تحقيق المتعالي وتأمين استمرار الانساني بعد الفناء. هل سيتمكن هذا النظام من تخليص الانساني من الاندثار بعد فناء الكون المحتوم بانفجار كوكب الشمس؟ سؤال مفاجئ يربط مصير الانسان والعلم بالكارثة الكونية، ويستحضر صور الواقعة ليعين انطلاقاً من اللغة ماهية المتعالي اللاإنساني في الانسان الذي تخونه وعود التنمية بما هي ميتافيزيقا خلاص. هل يستطيع التنموي التقني حفظ الانساني في مكان ما أو زمان ما من الكون بعد انفجار الشمس؟ لنلحظ هنا ان مثل هذا الحفظ لن يكون الا لأجلٍ، وهو يطرح اشكال الفناء من جديد كإشكال لا يحول بُعدُ الأجل دون راهنيته. إن التنموي يقدم نفسه اذاً كمشروع كوني: تصنيع وتقليد ما للحياة والفكر من شروط بما يتضمن امكان بقاء الفكر مادياً حتى بعد الكارثة الكونية. ما هي متانة هذا المسوغ الميتافيزيقي للفيزياء، قلب العلم الحديث، الذي يجعلها وإن انطلاقاً من تقريب مضمر، بما هي مصدر سعادة البشرية وتخفيف الألم والمشقة، مقصد مقاصد الغايات المنبثة في لغة التداول الإسلامية الراهنة؟ هل ستتمكن تقنية النمو والتكوثر - خصوصاً اذا تلاقت مع نظام اخلاقي "ديني" يوحد "الاسلام" و"الغرب" في وعي اسلامي مدعوم بشتى وسائل التداول والتواصل والاتصال - من تأمين هذا الخلاص؟ هل ستسهم في تحقيق الصلاح وتوفير قوة ايجابية، تؤمن السعادة في الدنيا والآخرة! التأمل ووحدة الإنساني ليست التقنية من ابتداع البشر، اذ كانت الطحلبة أول جهاز تقني يواجه الأمواج منذ ملايين السنين. ما هو تقني يتمثل بأي نظام جهاز مادي ينتقي المعلومات الضرورية لبقائه حياً، ثم يخزنها ويعالجها، ويتخلق انطلاقاً من قدرته الاحكامية بما يمكنه من الاستمرار. الانساني لا يختلف برأي ليوتار وبرأي بافلوف وواتسون قبله عن مثل هذا الجهاز. غير ان ذلك لا يمنعه من البحث عما هو متعال عليه، عما لا يلتقطه أي جهاز. اذ ان الانساني قادر على معالجة المعلومات نفسها. أي انه ليس فقط مركباً، بل أيضاً انطوائياً تأملياً، يمكنه الوقوف على نفسه بما هو خارجي مثل الطب، أو كنظام في التأمل أو حتى التجرد من نفسه حين لا يأخذ في الاعتبار سوى وجوده الذهني المتمثل بقواعد المعالجة المنطقية والرياضية. غير ان هذه الرؤية تصطدم مهما بلغ حد "ميتا - توظفها" بالحاجة الموازية الى تأمين احكامات وتوازنات ضرورية لبقائه حياً في محيطه. لنطلق على ما نسميه عادة "جسد" تسميه - Hard Ware - فيتمثل حينئذ ال Soft Ware الإنساني، هذه البرنامجية البالغة الدقة، بما يسمى اللغة الإنسانية. المشكلة التي يحاول تخطيها العلمي التقني تتمثل بالآتي: أن يتأمن لهذه اللغة المرهفة الدقيقة جسم Hardware لا يخضع لشروط الحياة على كوكب الأرض الدنيوية يمكننا ان نتصور في متحركية من التكوثر والنمو التوسطي قدرة التقنية على انجاز هذه المهمة. غير ان الفكر الانساني لا يعمل بالحساب الثنائي ولا انطلاقاً من وحدات ومعلومات Bits، بل من هيئات حدسية افتراضية تقبل الاضمار والاستدعاء والتوقف وتتميز بالاشتباه والمجاز وليست هذه الهيئات سوى ما ينتقل الى الوجود اللغوي من قدرة الوجود الانساني ككل على الانسحاب والإخلاء اللذين يتعارضان مع تقدم الذهن الانتصاري الاصطفائي التداولي. هذا الاخلاء ليس عودة الذهن الديكارتية الى الصفر وهو لا يعاود الا البدء من الصفر. بل انه اخلاء مرتبط بتوحد الفكر والجسد وبألم التفكر، في آن معاً: مثلاً "حين يتطلع الفنان - المحارب الياباني عندما يمارس صنعة الخط - وكذلك الممثل - الى نوع من الخلاء ينتظر ان يلبيه اليه جسده وروحه وهو نوع من ايقاف أو تعليق الحيثيات العادية للذهن التي ترتبط بالتطبع وبعادات الجسد" Jean - Francois Lyotard, L'inhumain, galilee p27. انه توحد الوجود الجسدي والوجود النفسي بلغة الاشاري، توحد لا يتقايس مع تراكيب الرموز وقواعد تمازجها، وذلك لأنه الفكر الذي ينتظر دوماً قاعدته. ينتظر بألم. والألم هنا ليس مضافاً الى الفكر بل الفكر نفسه الذي يصمم على التردد ويقبل بالصبر ويريد الاّ يريد أي "لا يريد بالضبط ان يقول شيئاً بالنيابة أو بديلاً عنه لا بد ان يطاوله المعنى، أو عما يجب ان يطاوله هذا المعنى. واجب لم نستطع ان نجد له اسماً بعد. انه ما يجعل التفكير أو الكتابة بمثابة الانفتاح على ما هو قابل للعطاء وللمنح. كلام يدور حول ما يشبه الوحي، غير اننا لن نأخذ به تحسباً من أي "تقريب" وتفضيلاً للاستماع الى اللامتقايس! وعلى رغم ذلك تتدافع صور المدثر والمزمل وألم الوحي ووطأته على الجسد، غير ان أي عبور الى الاسلام لا يبدو هنا ممكناً من دون ألم، من دون التبصر والتمهل والصبر. إن قفزة تراجعية من نظام المقاصد واللذة والغبطة "التكوثرية" في المعلومات والاستهلاك من الراحة التقنية الممزوجة بلزاجة المقاصد المشرعنة لها، قد تكون ضرورية للاستماع من جديد الى لغة المنح والتحسس بألم الكتابة. ولكن ما الذي يحول دون فقدان تذكر هذا المنح ويساعد بالصبر على مغالبة وهم الخضوع للتوسط الذي يدمر اللغة المبدعة باسم اللذة اللزجة الا وجود لغة متعالية، هي الذكر نفسه، لغة تمنع التوسط والتعلق المباشر بين الأشياء قبل اللجوء اليها لتفريغ أي قدرة آلية توسطية تكتسب قوتها من ذاتها؟ لن يتواصل الانساني بعد الكارثة الكونية الكبرى الا اذا انتقل الفكر المكثف متوحداً مع الجسد الى آفاق لا تعرف الفناء. للإنساني وجود لغوي في ظاهر وباطن لا ينفصلان. ولذلك لا ينتظم المنح الا بإطلالة اللاإنساني عليه في لغة اعجاز تحضّه على لحظة التخلي وتفريغ المألوف والصبر، لتلقي ما يجب ان يتلقاه. وحدها هذه اللحظة تمكن الانساني من القيام بدور البؤرة التي تتراكب عبرها الموجودات وتتكثف من دون ان يتفكك ويفسد هذا المسار الكوني المعقد حيث يرتهن تكثف الوجود الانساني بتوحده وقدرته على احتمال الألم والانتظار بالصبر وعلى التعالي عن التمتع الاستهلاكي بالعشق: الجنس لذة وسبيل "للمصالح الحيوية" أم أنه أيضاً تعبير عن ألم ابتعاد الآخر الذي فينا ليوتار، المرجع نفسه، ص9. الآخر الفرد الذكوري في الواحد الأنثوي في علاقتهما الثنائية في وحدة التكوين: "فآدم وحواء واحد، وواحد في فرد مبطون فيه، فقوة المرأة من أصل الوحدانية أقوى من قوة الفردانية ولهذا تكون المرأة في شطر المحبة من الرجل". ابن عربي. وليس هنا المجال لبسط المعاني المكنونة في هذا النص، ولكننا نشير الى ان دعوة عبدالرحمن للمزج بين العقل والقلب هي في صلب هذه الرؤية التي تعود لتنقهر وتستبعد بمفاهيم نظام المقاصد حيث لا يظهر كيف ان اللذة الجنسية تنحكم بالمقاصد المعنوية. والواقع ان التمعن في نص ابن عربي يقودنا الى الكف عن رؤية المرأة كآداة تمتع بدل تقليد "أولئك الذين يدّعون انهم في الأثينية شريكان في عقد تمتع متبادل، استخدام - تلذذ بالاختلاف الجنسي نفسه. عقد ينص على عدم تألم احد الطرفين، عقد قابل للفسخ لمجرد عدم التحكم أو الشعور بالنقص للتقصير أو لعدم التقصير بالمتفلت أو المتعالي". لقد تحول الحب الى ما يتداول عن العلاقات الجنسية في أوساط نجوم السينما أي الى ما هو استثنائي، علاقات تسيء الى المشاعر وتحولها الى استمتاع يميت الدلالة. لعل ما يدعونا اليه ليوتار انما هو نظام لغوي لا يتقايس مع المتعالي القرآني، غير انه بالتأكيد ليس نظاماً يلغي التأمل، أو لا يسمح بلحظ الطاقة التي يؤمنها هذا المتعالي بما هو نظام لغوي لا يقبل التداول ويختزن اللاإنساني بما هو وحي يدعو الى تحدي الكارثة الكونية من خلال حلم: الحلم الذي يسمي نفسه ايماناً، ايماناً بأن ما يتكثف به الكون أو ما يمر ويسري به هذا التكثف الكوني لا ينعدم. ان هذا ما يكمن وراء منح اللغة اللاإنسانية للإنسان. لغة لا يصنعها، لا يقلدها ولذلك تفتحه دائماً على حلم. غير ان ذلك لا يلغي وطأة ميتافيزيقا التنمية، بل يذكر أنها حين تطرد التأمل لا تسمح بالأمل، ولا تقول بتراكب الكون الا لتجعل مفاعيل الانفجار الشمسي واردة في كل لحظة على الكوكب الرازح تحت القوة النووية. ليس صحيحاً ما يعتقده ليوتار بأن التوسطات ستبقى ممكنة حتى انفجار الشمس وفناء كوكبنا، والواقع اننا على رغم استماعنا اليه وتعاطفنا معه وهو ينتقد الغرب السلطوي مصغياً الى لغة متعالية لم يعينها، لم نركن الى مفاهيمه لنرسي رؤيتنا ولم نشاركه رؤيته حول الدين أو حتى حول التنمية، اذ ما يحد التنمية انما هو عدم "سماكة" لغتها وعبارتها المفرطة واستخفافها "باللاإنساني" المتعالي وادعاؤها الاحاطة به بثنائية لغة الحاسوب. لذلك لا شيء يضمن من تعرض الواقع التنموي للتشبع واصابة نظام التوسط بالتصلب... فينقلب حينها زمن التكوثر المفتوح الى قصور ذاتي. أما "نحن" الذين نراهن الآن انطلاقاً من حبور التنمية المكمل لغبطة المصلحة على كسب الدين والدنيا، فنفاجأ اليوم مرة اخرى بأننا لسنا في هذه الدينامية "السعيدة" سوى مادة تستهلك لتحسين نظام التوسط ولصناعة مواده اللزجة. * استاذ الانتروبولوجيا في الجامعة اللبنانية.