إن قوى الإنسان ليست طبيعية كونية كما يعتقد الإنتربولجي، بل هي أيديولوجية محضة ثم ثقافية «اعتباطية». ثم إن الفاعلين الاجتماعيين عليهم أن يقتنعوا إنهم لا يسيرون وفق ما يريدون بل ما يريده المجتمع وما تمليه عليه ثقافته وإرادة المجتمع، وتحريرها بإرادته الفردية لكنها ليست الفعلية بل الفاعلة فقط، أي ليست مطلقة للذات. ولقد حذرنا كثيراً العالم الألماني ماكس فيبر ألا نخلط بين الهواجس السياسية والأخلاق الاجتماعية وبين الفاعلة والفعلية الحقيقية وفردنة الفرد وتصوراته. وأيضاً، أنه لا يمكن أن تكون مطابقة للذات ومطلقة مهما كان مؤمناً بها ومهما كان ولاؤه حقيقياً، ولا علاقة لها بالمسؤولية الذاتية ولا الإيطيقية الجمعية حتى! وكيف نحيا حياة ملقين بأسبابها على كاهل المجتمع وثقل الواجبات والانتماء..؟! كل شيء في الحياة يسير باتزان (الفرد، المجتمع، الدين) وإن طغى أحدهما على الآخر فثمة خلل في الركب والمركب! بدأ الإنسان منجِّماً قبل أن يكون «حيواناً سياسياً» -وفق مصطلح أرسطو- ليؤمن غذاءه ومسكنه.. ثم بدأ يسطر الأساطير المؤسسة لحياته هذا ما عنيته بثقافة «اعتباطية» (ميثولوجيا) – التي وكأنّي أراك أضمرتَ لها احتجاجاً بادئ الأمر- هذا كله في سبيل أن يبحث الإنسان عن معنى أو جدوى أو رؤية والوجود الذي يعزز منه بعداً اشتراكياً «للأنا» وتعزيزاً للذات ويشكل ماهية الإنسان ويجعل منه قاعدة للمسؤولية. إن ذهبنا الى تجريدات أيديولوجية وفي ذات الوقت ممارسات اجتماعية ملموسة وتمثيل ذاتي للفرد، فلن يكون ذلك بمناص عن «العلمانية». وليس أي علمانية بل «العلمانية اليقظة» هذا الاسم الذي أطلقه طه عبدالرحمن، وهي التي يدخل فيها الفاعل السياسي إلى الوعي بمصالحها دون هدر للقيم الإنسانية. وأنا أضيف، علمانية فاعلة من خلال فاعلية الفرد وإبداعه وميوله، وإضافة قيمة حقيقية للوجود مضافة إليها إمكانية التحقيق الفعلي الذاتي وقطع كل أوتار التسيّد ودابر التسلّط! وهذا هو المبدأ الحقيقي للعلمانية. العلمانية حَلّ جمعي يتجدد بها الإنتاج وتضخ الحياة كلما ارتخت الأغلال وهدأت حمائم المجتمع. هنا أحاول أن أعطفها لمنظور فردي، الذي اتّخذَ حديثاً مسمى «الإنساني» وترامي الحقوق والواجبات والعلو بالإنسان في قُطر الدولة الحديثة والتشريعات المدنية، ورفع القيود التي وضعها الدين للتحكم والاحتكام للعالم من حولنا التي خضنا من خلالها حماقات التاريخ إلى عصر اليوم. أصبحنا نقتل الإنسان ربما لملامح وجْههِ أو سمات جنسيته وهو على النقيض تماماً لما أتى به الإسلام، وهو توحيد الناس تحت رحمة الله وعدل الدين ومصداقية الإنسان. ليس ثمة مدلول أو وصف تعيد به تعريف الذاتية أبداً، وإن أردنا إلحاقها بالآخر أو عطفها للمجتمع باعتبارها المسؤولة التابعة، فسيكون ذلك حتماً مناقضاً مع الحرية المستقلة بأي شكل من الأشكال، سواءً بفكره أو إبداعه أو حتى توجهاته ورغباته. بهذا لن يستطيع الإنسان التخلص من واقع كون الآخر أو المجتمع قد طلبَ منه استجابة النداء، أو قد تكون حقيقة مهيمنة قابلة لاختزال حياة الفرد بالكامل. والأشد نكالاً ومرارة أن تستحوذ على حياة الآخر، ومن هذه الويلات ما نراه أمامنا ماثلاً في حروب تكاد أن تخلو من هدف عدا الاستحواذ على الآخر، ويتشظى الإنسان ويحمل أوزار المهالك ويجري الدم في جداول لا مصب لها سوى أخطاء لن يعاد تأسيس منظار جديد لها وإن حاولنا مع الأسف، ونعود أدراجنا -من حيث لا نعلم- إلى «الحيوان السياسي» باختلاف الهدف بل كان سابقه أنبل هدفاً من لاحقه! في حقبة من الزمن العلمانية وحدت البروتستانت والكاثوليك وأمريكا الشمال والجنوب، وفي انتحال لغرض إخلاص دوغمائي ضمن تماسك الأرثوذكسية والتحامها، متيحاً التعامل والتشارك مع الإسلام في إدراك مصالحها والتماثل لمنافعها. وكانت إشارة أو بالأحرى إذناً لعلمانية قادمة من أوروبا التي لولاها لما بُني مسجد ولا صدح أذان هناك إلى يومنا الحاضر. مما لا شك فيه أن العلمانية هي المنقذ وحمامة السلام ليعيش المختلفون مع بعضهم دون وَكد أو مريرة. وهي من أفسحت للعقول والفكر وللإنسان أن يبني ويعمل. حتى الأمم استدرّت سحابة الحضارات ولاحت زُهر التطور والعلو بقيم الحياة والإنسان. بحسب أركون فإننا نتطور حسب مبدأ الإيمان بعقل ذي أصل إلهي يتجلى في القرآن. لذا يعتبر هذا العقل متفوقاً على كل عقل آخر لأنه بادٍ في القرآن، وبالتالي فهو متعال ناسياً أو متناسياً أن كل نداءات القرآن «أفلا يتفكرون» «أفلا يعقلون»! من أجل الماضي والمستقبل علينا دراسة الإسلام بكل العلوم المتاحة حتى الأنظمة التي تمكننا من تفسير العالم. كان الرازي -في القرن الثاني عشر- يقوم بقراءة تاريخية للنص القرآني مستعملاً كل أدوات العلوم في زمانه (الفلك، الطب، التاريخ). آن الأوان لانفتاح النص على كل الممكنات والمتطلبات، وأن يكون العقل الإسلامي نقطة انطلاق لكل التكوينات، لا أن ننكب طويلاً في تكرار أنفسنا وننسى المستقبل والحياة والأسباب التى يحيا بها الناس. حتى التنوير لم يكن له منظور ولا مضمون تاريخي حينما لا يدل على العقل، التي بموجبها يتعزز الاستقلال الذاتي للإنسان وتحرره وإعادة صياغة العلاقة بينه وربه بوعي نقدي يسهم في تعزيز هذه الاستقلالية. أنا أذهب أننا لسنا بحاجة إلى وضع التأسيس الأخلاقي ولا مخالفة الشرع ولا أن نحكم بما لم ينزل الله، بل الواضع لهذا الدين والقانون الإلهي وخالق الناس أقرّ لهم الاختيار وفطرَ الإنسان على التبين والبحث والتمحيص والتحصن بقوانين ضابطة للمجتمع والحياة، وما المعرفة سوى إدراك واع وتقدير اعتباري لذات وكينونة الأشياء وتقرير قيامي للأخلاق وليس ثقافة «اعتباطية» بل فاعلية ونفعية في الحياة. يبقى في اليد سؤال: إذاً ما هو الجرم المزعوم للعلمانية إذ فيها منافع للناس…؟!