غالباً ما تدعي الكتابة الحديثة التي تُعنى بحقل التداول الاسلامي التاريخي، بأنها تتبوأ نصاب القضاء وتتجاوز نزاع العقائد، على غرار محكمة النقد بصيغتها الكانطية، غير ان ادعاءها هذا لا يأتي الا في سياق توظّفها كأداة تشغيب في خدمة نظام سيادة القوة الغربية الحديثة، اذ فيما تنسب نفسها للعلم الحديث. وتستقوي بشرعيته لا تقوم الا ببث صورة موهومة عن هذا العلم لتبدو كتابة متعالية عن التراث، وهي لذلك تظل في الواقع كتابة في التراث، تتكثف بها نظمه التحكمية والاقفالية وتغيّب متحركياته التوحيدية الابداعية ليتحول الى نظام تشويش. وإنه لمن المضيء ان نستمع من هذا المنطلق الى خطاب محمد عابد الجباري النقدي حول "تكوين العقل العربي" بوصفه انكشافاً نموذجياً لتكوّن هذا "العقل"، بما هو نظام اقفال وتحكم في التراث ذو فاعلية امتدادية حديثة، يقوم على التغفيل عن جوهر الحداثة المتمثل بانقطاع المتكون العلمي الكون " النظرية " التجربة عن النظام الارسطي وعن تهميشه للدلالة في سبيل امتلاك الفاعلية. معنى العقل يُشير الجابري سريعاً في كتابه الى ان الحضارة العربية الاسلامية خلت "مما يشبه تلك الملاحقات والمحاكمات التي تعرض لها العلماء، علماء الفلك والطبيعيات في اليونان القديمة كما في أوروبا الحديثة بسبب آرائهم العلمية ص 345. وهو يفسر ذلك بأن "العلم قد بقي على هامش المنظومات الفكرية والايديولوجية المتصارعة وبالتالي لم تتح له الفرصة ليسهم في تكوين العقل العربي ككل "ص 345" ما هو هذا العقل ولماذا بقي العلم خارجه؟ ما يقصده الجابري بالعقل كما يتبيّن من "تفسيره" لحلم المأمون ص222. انما منطق ارسطو، وهو يعتبر "ان تكسير المنظومة الارسطية او تجاوزها لم يكن من الممكن لا بعد الاعتراف بها والعمل داخلها وتحريك تناقضاتها، كما حدث في أوروبا بعد القرن الثاني الميلادي حينما انتقلت اليها الرشدية التي خلقت هناك تياراً فكرياً ثورياً حرّك عجلة بالصورة التي مكنت العلم في ما بعد ان يقوم بدوره التاريخي في النهضة الأوروبية الحديثة، ص 346. هل يعني ذلك ان الرشدية هي التي أدت أو أسهمت في هذا التكسير والتجاوز وهل ان العلم بلوّر دوره التاريخي انطلاقاً من تحريك تناقضات المنظومة الارسطية؟ علينا هنا ان تلتقط معنى هذا الكلام الرائج التداول، بتتبع مجاري فاعليته اي باخضاع دلالته لما يوجه استعمالها المحدد لسياقه. وقد يكون السياق هنا معاكساً للدلالة كونه يعاود انتاج موهومٍ مفاده ان العلم الحديث وريث الأرسطية ويسمح هكذا بتمديد استخدامها كنظام تحكم واقفال داخل حقل التداول التراثي العربي الاسلامي، وما يخفيه هذا الكلام هو ان لُبَّ الرشدية يكمن في عدم المقايسة بين الحكمة والشريعة وهو مبدأ يؤدي الى تعطيل الشريعة وبالتغفيل عن وظيفته الكبرى تلك وذلك بتقديم استحالة المقايسة بين الغائب والشاهد لا كامتناع للعبور بينهما الا استناداً الى لغة الاعجاز التي تفتح احتمال هذا العبور عندما تستقل عن نزاعات حقل التداول وارتطام تيارات فاعلياته، بل كتجاوز موهوم يعود ليدسَّ المقايسة المنطقية، فيعطي لنظام الواقع - الذهن الاحساسي الصوري أفضلية حاسمة على نظام الغيب- الشهادة القرآني. والحال ان هذا النظام الذي يُعِّين العالم منطقياً كتواصل بين الاحساسي الواقعي والحقيقي لم يكن هو الذي حضن نشوء العلم الحديث لا بالايجاب عبر استدلالاته وآلياته ولا بالسلب عبر تناقضاته. بل ما حصل فعلياً هو انسحاب هذا النظام امام نظام آخر لا يتقايس به هو أيضاً وإن من حيثيات مختلفة كما سيتضح لنا. لماذا عاقبت الكنيسة غاليليو؟ لأنها اتهمته بالخروج عن تعاليم الدين التي لا تنفك عن نظام العقل السديد وهو اتهام بالهرطقة ينطوي اضماراً على تعاطٍ ما بالسحر، ما هو هذا العقل السديد انه عقل ارسطو الواقعي الامبيريقي. وفي هذا العقل تبقى اطروحة مركزية الأرض ونظرية المعرفة بمثابة فرعين متضائفين لا ينفصل احدهما عن الآخر. ولا تلحظ هذه النظرية اختلافاً فعلياً بين المعاينات وموضوعاتها اذ: "ان يحتوي العالم اشياءً لا يصل الانسان اليها ولا يتصل بها أو يدركها حتى اشعارٍ آخر أو حتى من حيث المبدأ، اي تظل خفية محجوبة عنه - وذلك ملكاته الفطرية نفسها - هو ما كان يعتبر في اواخر العصور القديمة كما في العصور الوسطى امراً خارج التصور". ان هذه الانكشافية الحسية الارسطية هي التي تبرز في الرشدية، فلا يغرَّنك فصل الغيب عن الشهادة فتتخذ منه حجة على الاعتراف بالمحجوب والخفي وذلك لأن الرشدية ارسطية متشددة تدافع عن هذ الانكشافية الامبيريقية المبسطة في مواجهة لغة الغيب، اذ الغيب في نظام الفصل الرشدي هو الذي يؤوَّل ليترسخ البرهاني الموصول بالاحساسي المأخوذ عن ارسطو - فلا يكون البرهاني المجرد هنا الا أداهً تحول الغيب القرآني وتخضعه الى النظام الاحساسي الامبيريقي، أو قل تفصل احساسي لغة الاعجاز عن غيبها وتوصله باحساسي ارسطو عبر برهانه مما يحدث تشويشاً وتشغيباً بالغي الاثر على حقل التداول الاسلامي. القائلون بالكسر ومعناه هذه الارسطية هي التي اصطدم بها كوبرنيك وغاليليو. هل ان نظامهما العلمي الجديد نتج عن تناقضاتها الداخلية أو عن "كسرها" من داخلها، كسراً كان يتطلب اكتمالها ورسوخها كما يفترض الجابري وهما لم يتما في المجال التداولي العربي الاسلامي؟ بداية ماذا يقصد القائلون "بالكسر"؟ ربما ارادوا ان يشيروا بلكنة تطورية الى ان العقلانية الحديثة تولّدت في رحم الارسطية القروسطية، غير ان غاليليو لم يصطدم بالمحظور التوراتي الا لكونه تم تقريبه من هذا العقل، ولم يكن هذا الاصطدام الا تنازعاً لا حل له بين نظامين لا يتقايسان كونهما يعتمدان مفاهيم مشتركة لفظاً في حقلين حيث يُكسبها كلٌ منهما دلالات واستعمالات وفاعلية مخصوصة به، بما يجعل امكان المقارنة المنطقية بينها غير صالحة لتأمين العبور بينهما. تلعب المعاينة مثلاً في نظام ارسطو دوراً بالغ الخصوصية. اذ ارسطو كما يقول لنا فايرباند "امبيريقي بامتياز ولا تقل مواقفه المعارضة لأية محاولة ذات طابع نظري صرف حماسة عن مواقف الامبيريقيين في القرنين السابع والثامن عشر" المرجع نفسه ص161. وفي حين يعتبر هؤلاء كأمر مكتسب صدقية ومضمون الامبيريقية يشرح ارسطو طبيعة التجربة مشيراً الى اهميتها محدداً حالات فشلها. والتجربة بنظر ارسطو هي ما يدركه المشاهد السوي السليم الحواس، الذي لا يكون مخموراً أو ناعساً ويبصر ويسمع في حالات طبيعية ويصف ما يلحظه بلغة متناسبة مع الوقائع يفهمها الجميع. واذ كانت التجربة بهذا القدر من الأهمية بالنسبة للمعرفة فذلك يعود الى كون ما يدركه المشاهد يتضمن بالتمام الصور التي يحتويها الموضوع. إن هذا التناسب بين الادراك الانساني والفلكية الارسطية هو الذي سيبدو موهوماً بنظر المدافعين عن حركة الأرض. اذ سيلحظ اتباع كوبرنيك وجود متحركيات كبرى تطال كتلاً كونية هائلة من دون ان تترك على رغم ذلك اي اثر في تجربتنا. ومن هذا المنطلق سيعطل علم الفلك الحديث مفهوم وآلية التجربة الارسطية ويبني آلية تجريبية لا تتقايس معها. اذ التجربة لم تعد هذا الأصل الثابت الذي يُرسّخ الحس الشائع أو الفلسفة الارسطية نفسها. فنُصرة كوبرنيك كانت تقتضي "تسييل" التجربة. فالآن لا شيء يضمن رسوخها لا "هذه الأرض الصلبة الراسية" ولا الوقائع. لم يكن من المستطاع ان تتكون مثل هذه المفاهيم ضمن حدود تداول اللغة الصناعية الارسطية ولا بفعل تجاوزها بتقريبها من تداوليات اخرى أو تعديلها أو كسرها من الداخل، اذ ما تم فعلياً انما تشكل حقل جديد استطاع البروز والشيوع بعد ان تمكن من تعطيل مبدئها الكامن في تطابق مفاهيمها التجريبية مع اللغة العادية. ان مثل هذا النشاط اقتضى التزود لدفع الفاعلية الابداعية ودحر اللغة السائدة بطاقة ادراكية رمزية - أين وجد كوبرنيك هذه الطاقة ليدحر العقل الواقعي القائم على استقراء العلة من المعلول، واخضاع البرهاني للاحساسي؟ لنستمع اليه: انه يورد صراحه في كتابه De Revolutionibus هرمس المثلث الحكمة وذلك في حديثه عن موضع الشمس حين ينقل "في المركز ها هنا الشمس التي يسميها المثلث الحكمة الاله الظاهر..." I.10 وهو يعتبر الكون بمثابة متكون عضوي حيث تتضاءف حركة الدوران مع الحركة المستقيمة تضاءُفَ الجسم العضوي والمرض... هل ان لجوء كوبرنيك الى هرمس المثلث الحكمة هو من الاطلالات العارضة على المدونات القديمة التي تُردُّ الى المصادفة ولا تكون لها اية كاشفية منهجية؟ ان كاشفيتها "فضائحية" بالنسبة لما يبنى عليه الكلام عن "تكوين العقل العربي". ولكن لنقل قبل ذلك انه في سياق مثل هذه الانقلابات الكبرى حيث يعطل نظام جديد امهات مفاهيم النظام السابق له، ترتسم خطوط فاعلية القول كاشفة الاسس، قبل ان يقوم توظيف الآليات الجديدة باخفائها وحجبها، أو تبديل دلالاتها الأولى. إن ما يسميه الجابري "العقل المستقيل" العقل الهرمسي، الذي جعل منه اداة تكفير، هو الذي شكل مرجعاً تأملياً مخيالياً فاعلاً لتعطيل نسق الحركة الارسطية المعممة وبروز حركة النقلة كمفهوم حصري للحركة لا يدمر المفهوم الارسطي فقط بل ينقلب ايضاً على المفهوم الهرمسي نفسه مُعطِّلاً المفاهيم التي تلحظ الحركات الأخرى، ليتم بذلك استبدال نظرية امبيريقية عامة حول الحركة بنظرية ضيقة "اضيفت اليها وجهة ميتافيزيقية في فهم الحركة: عاماً كما لو انه جرى استبدال تجربة امبيريقية بتجربة ذات ابعاد تأملية". إن انشاء ميتافيزيقا الحركة هو ما جعل غاليلو يدمر نظام ارسطو الامبيريقي وهو امر يُبيّن ضحالة استخدام ثنائية العلم/ المتيافيزيقا للتعبير عن الانتماء للحداثة! ولكن لماذا ارتهن تبلور حقل هذه الميتافيزيقا الفلكية الحديثة بايلاء الدوران و"السيران"، اي حركة النقلة، هذا الوزن الذي جعلها تجتاح جميع ما عداها من حركات، قاذفة مفاهيمها خارج حدود القسمة العلمية الحديثة، بحجة وعد كاذب بنظام تفسيري شامل جديد ما يزال يتعثر حتى الآن؟ انه سؤال يطال موضع العلم في نسق الحداثة الغربية عامة وموقعه من لغتها السياسية خاصة، لغة السيادة التي تجاوز اي اسناد تأملي لانتاج الشرعية وتحول القوة المواقعية الامبيريقية! الى ضرورة ميتافيزيقية بالفرض الأولي ودون اي تأمل. لن يتشكل مفهوم السيادة الحديث الذي يعطل مفهوم الشرعية الاسنادية "علمياً"، بل بتوظيف الفاعلية العلمية المستجدة لضرب اللغات المعبرة عن تنوع الحركات، لغات التأمل التي تعتني بالتكوين والفساد ولغات الفن التي تستثمر طاقة الكيفيات الرمزية، ضابطاً هكذا حركة النقلات بمعايير الكم وحدها، مهمشاً اللغة العادية بما هي لغة الاحساسي، مغيباً طاقاتها الاستعارية التي تجعلها قابلة للانفتاح على اللغات الأخرى ستكون لاستثمار العلم مفاعيل ترسيخية واشتدادية هائلة بالنسبة للاداءات السياسية التي ستطور نظم اقفال مطردة الدقة، موظفةً العقل الارسطي كنظام ضبط سلبي لكبت أو تطويع ما عداها من لغات، وسيطال هذا الاداء السياسي التحكمي لغة العلم نفسها، بارغامها على تصالح كاذب مع العقل الارسطي لينغلق بذلك الحقل التأملي الذي فتحته الميتافيزقا الفلكية الحديثة، ويبدو في الوقت نفسه وكأنما التجربة الامبيريقية ما تزال معتمدة بما يمكّن لغة السيادة السياسية من استقدام واستخدام رموز اللغات التي عطلت مفاعيلها وخربت منطقها كنظم تشويش فاعلة: "لقد بدأت طرق التمويه هذه مع محاولة غاليليو ادخال أفكار جديدة تحت ستار المفاهيم السابقة وبلغت ذورتها مع نيوتن" 5 غير انه من غير الفَطِنْ تفسير مثل هذه التورية العلمية الحديثة الكبرى بتقنية صناعة العلم حصراً، كما يوحي فايرباند هنا، اذ انتاج الصور العلمية الموهومة هو المعْبَر الذي يمكَّن لغة السيادة السياسية الحديثة من استثمار الطاقة الاكتشافية العلمية وتعطيل عناصرها التأملية، وانتاج لغات تحكمية في ميادين الانسانيات والاجتماعيات تتزين بهذه العلمية الواقعية المزيفة. * اكاديمي لبناني. مراجع 1 - ص 159 Paul Feyerabend, Contre la mژthode, seuil, 1979. 2 - المرجع نفسه ص 159. 3 - ويعلق بول فايرباند في كتابه ضد المنهج الذي مضى ذكره "بأن هذا الاستشكال حول علاقة الخط المستقيم بالحركة الدائرية سيناقش طويلاً في "اليوم الأول" من "محاورات" غاليليوContre la mژthode Dialogo 104. 4 - المرجع نفسه ص 176. 5 - المرجع نفسه ص 95.