الجنرال رشيد بن يلس تقلد عدداً من المناصب في الدولة الجزائرية، منها الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني وعضوية المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني، والوزير في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد. ويعتبر من الشخصيات الفاعلة في الساحة السياسية، إذ يتدخل، من حين الى آخر، لاتخاذ موقف معين من قضية معينة مطروحة وفي هذا الحوار مع "الحياة" يقدم موقف المؤسسة العسكرية من اختيار الرؤساء في الجزائر منذ الاستقلال حتى اليوم. رشيد بن يلس أول جنرال متقاعد يدعو الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الى الرحيل، وأول جنرال يستقيل في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد. فما القضية بالضبط؟ - بالضبط أنا لم أطلب رحيل الرئيس بوتفليقة، ولم أكن متفقاً معه على الطريقة التي أوصل بها الى السلطة، مرشحاً بين بقية المرشحين. وعندما تدخلت المؤسسة العسكرية وفرضته كنت أقول لها ان هذه الطريقة في تعيين الرؤساء غير صحيحة، وليست أسلوباً ناجعاً في المعاملات. وقد رفضت دوماً الانسان الذي يقبل أن يكون وسيلة في يد هذه المجموعة أو تلك. وكان موقفي واضحاً وهو الموقف نفسه الذي اتخذه اليوم. ولو جاء عبر انتخابات ديموقراطية وحاز ثقة الشعب لرحبت به رئيساً. لكن هذا السيد الذي يتكلم اليوم ويقول ان الشعب انتخبه وزكاه بغالبية ساحقة، ونحن نعرف جيداً كيف تمت الانتخابات وكيف زوّرت، يكذب على نفسه في الدرجة الأولى، وعلينا نحن أيضاً، فضلاً عن انه يهدد في استمرار ويقول: "اذا لم تعجبه الحال فسيعود الى داره". ويؤكد كل مرة اذا لم تسر الأمور كما يحبها، فسيعود الى داره ويتركنا لمصائبنا. وبالتالي فهو، كل مرة يلوح برحيله. فأنا لم آت بشيء من عندي، وما أقوله الآن هو: إذا ظل هذا السيد يهددنا بالرحيل، فاتركوه يرحل. تريد أن تقول ان موقف المؤسسة غير واضح من بقاء بوتفليقة أو من ذهابه؟ - لا. أظن أن المؤسسة اليوم لم تأخذ موقفاً بعد من السماح له بالرحيل أو عدمه. فالمؤسسة جاءت به لأنها كانت تظن أنه سيأتيها بشيء معه، خصوصاً ان احدى جهات البلاد كانت غاضبة من الوضع لشعورها بالعزلة والتهميش. ومن جهة أخرى، كانت تظن انه بذكائه السياسي يمكن من أن تحظى بدعم الرأي العام العالمي وبالسمعة الدولية التي كان يتحلى بها. وإذا بالسيد لا يأتيها لا بهذه ولا بتلك. فهو لا يملك اي قدرة على التغيير والمؤسسة صدمت به، وخيب ظنها ولم يعد من السهل أن تغيره. ما تعليقكم على أول تغييرات قام بها بوتفليقة في المؤسسة العسكرية؟ - في رأيي ان ليس له أي دخل فيها لأن المؤسسة العسكرية وحدها تقوم بذلك. وهذا من الأمور العادية والطبيعية. كان يفترض أن تحدث التغييرات منذ زمن، في عهد الرئيس اليمين زروال، لكنها لم تتحقق لظروف معينة، فحدثت في عهد الرئيس بوتفليقة. تعارض مجيء بوتفليقة من طريق المؤسسة العسكرية، ولكن كل من سبقه من الرؤساء جاءت بهم هذه المؤسسة فلماذا قبلتهم؟ - هذا الطرح خاطئ. هل الجيش هو الذي جاء بالعقيد هواري بومدين، رحمه الله، الى السلطة، أم هو الذي استعمل الجيش كي يضع نفسه على رأس الدولة؟ أعتقد أنه وضع أحمد بن بلة على رأس الدولة قبل اطاحته، وهناك فارق بين الجيش الذي يمسك بالسلطة، والجيش الذي تستعمله السلطة. وجيشنا نحن، كما أرى، لم تُتح له السلطة إلا بعد استقالة الشاذلي بن جديد سنة 1992، ولم يُقل على ما سمعت من اشاعات انه اقيل في انقلاب. أنا أقول ان الشاذلي استقال بظروف معينة وأسلوب معين، وربما لاقتراحات معينة تستخدم، ولم يُقله أحد. فلو أراد أن يبقى لما كان أحد لينحيه. المهم أن الجيش لم يستولِ على السلطة الا في كانون الثاني يناير 1992. أما قبل فكان عبارة عن كتلة للمناورات، يستعملها فقط من كان له نفوذ الحزب الوحيد في أواخر سنوات الثورة وأيام الرجل الوحيد الذي كان لديه نفوذ، العقيد هواري بومدين. وهو الذي استطاع أن يستعمل الجيش. ولما رآه بدأ ينحرف عن مساره، قام بعملية 19 حزيران يونيو 1965. فالجيش الجزائري كان كغيره من جيوش العالم. والجيوش العربية تختلف عن الجيوش الأخرى. فمثلاً الجيوش في أميركا اللاتينية هي التي كانت تسيطر على السلطة وتحكم قبل 15 عاماً أو 20. وذلك يعود الى أن تنظيم الجيش يخضع لميكانيكية غير موجودة عندنا. فالمجالس ما زالت قائمة في جيوش اميركا اللاتينية، فتصب فيها المشكلات وتناقش، ومنها تصدر القرارات. ونحن لا نملك مثل هذه الهياكل أبداً حتى يومنا هذا. ولدى الجيوش المنبثقة من مصدر اسباني ثمة مؤسسة داخلها جانت هي مجلس مؤلف من مسؤولين عسكريين كثر، تناقش المشكلات وتصدر القرارات. نرجع الى سلطة الجيش عندنا، يجب التكلم على الجيش قبل سنة 1992 وبعدها؟ - قبل 1992 لم تكن للجيش سلطة مطلقاً، بل كان الحاكم يستعمله. اما بعدها، فصعد الجيش مباشرة الى السلطة وأصبح القرار في يده، لكنه لم يتولّ المسؤولية علناً بل بقي في الخفاء، يحرك الأمور من وراء الستار. فكل الحكام الذين تسلموا السلطة من قبل لم يتسلموها بقرار من الجيش. فالجيش لم يفرض بومدين، وإنما بومدين فرض نفسه، ولما توفي بومدين جاء الشاذلي، ولم يفرضه الجيش. وقد تطرقت الى ذلك في مقال سابق، إذ مذ دخل بومدين في الغيبوبة، كان مجلس الثورة يعقد اجتماعات مستمرة، وهو الذي قرر تعيين الشاذلي منسقاً لحزب جبهة التحرير الوطني والجيش الوطني، ولم يعين غيره. لماذا لم يعين بوتفليقة آنذاك أو العقيد أحمد بن الشريف أو الجنرال عبدالله بلهوشات؟ يومها كنت في الجيش قائداً للناحية، وقد علمنا بتعيينه كباقي الناس. إذاً فمجلس الثورة هو الذي عيّن الشاذلي ونحن تقبلناه نظراً الى الوضع المتأزم آنذاك. ولم نر مانعاً، لكننا لم نفرضه. كنا يومها نقرأ في الصحافة عن صراع بين مجموعة محمد الصالح يحياوي ومجموعة عبدالعزيز بوتفليقة، ويقال إن الصراع حسم الشاذلي بن جديد؟ - كلمة "صراع" مبالغ فيها ولم يحدث ذلك. كانت مجرد آراء لا أكثر. وهو نفسه ما كان يحدث في المجتمع وداخل الجيش أيضاً. بمعنى آراء موافقة وأخرى غير موافقة. جيشنا من الشعب وآنذاك لم تكن لبوتفليقة سمعة طيبة وسط الجيش، على رغم أنه كان غاضباً يومها، بل ان اسمه لم يطرح قط ولم يكن يخطر على البال حتى مجرد التفكير به. ان السيد لم يكن يعرف حتى البلاد لأنه كان دائماً يعيش في الخارج، والمدة التي تولى فيها منصباً وزارياً كانت لا بأس بها. وحتى الشاذلي لم يكن معروفاً على المستوى الشعبي، لكنه كان عضواً في مجلس الثورة وقائد الناحية العسكرية الثانية الغربية، وهي أهم جهاز عسكري في البلاد، من حيث التجهيزات وجوانب أخرى. فالسيد بومدين ميزه عن غيره حين وضعه في الناحية الثانية ذات الأهمية الحدودية والاستراتيجية وتركه فيها 15 عاماً. كانت له امكاناته وقدراته الميدانية، وأنا لا أقول كما يقول اليوم بوتفليقة انه شخص جاهل. أبداً لا أقولها، ولا أجرؤ على ذلك. كثر يقولون ان دفاعك عن الشاذلي سببه طعن بوتفليقة فيه، ولأنك كنت جزءاً من المؤسسة العسكرية في عهده؟ - نعم أدافع عن الجهاز العسكري، وانتقدت الشاذلي في مقالات عدة. لكن ما فعله بوتفليقية كثير، إذ أهانه وشتمه في التلفزة الأجنبية وبعبارات غير مؤدبة، وهذا غير مقبول. فالجيش كان وراءه آنذاك، وحتى الساعة التي استقال فيها ظل الجيش يدافع عن الشاذلي، ويحترمه ولم اسمع انه انتقده، على رغم انني خرجت من الجيش بعد الاستقالة، لأنني لم أكن متفقاً معه. لماذا عندما أتيحت للجيش، للمرة الأولى، الفرصة لاتخاذ القرارات، أخذها من الخارج ولم يأخذها من الداخل؟ - الجيش لم يتول السلطة إلا عام 1992. وللمرة الأولى، منذ الاستقلال، تتاح له الفرصة للبحث عن مخرج للبلاد. ونظراً الى الوضع الذي كنا فيه أعطيت الفرصة للسياسيين. فهم الذين اجتمعوا وبحثوا ووصلوا الى قرار يقضي بتوقيف المسار الانتخابي. ونحن اليوم لسنا في صدد تقويم القرارات التي اتخذت، وهل هي صالحة أم لا؟ فالمهم انهم رأوا انهم توصلوا الى أفضل السبل للخروج من هذه الأزمة واجتياز هذه المرحلة، أي تكوين مجلس أعلى للدولة تترأسه شخصية وطنية، المرحوم محمد بوضياف. أعضاء المجلس الأعلى هم الذين قرروا وضع بوضياف على رأس المجلس الأعلى، وهم الذين وضعوا استراتيجية لمواجهة الأزمة. ولما جاء بوضياف سار معهم في الخطة، ولم تكن خطته، لأنه قبل أسبوع من ذلك كان يصرح: "يجب أن يعطى الحكم للجبهة الاسلامية للانقاذ لأنها هي التي نجحت في الانتخابات، ولا بد من أن يعود الجيش الى الثكن". ولما جيء به فعل العكس. سار في الخطة التي وضعها له الجيش، ثم تابع تنفيذها السيد علي كافي بالاستراتيجية المرسومة، لا كما شيع بين الناس انهم جاؤوا به لأنه أقدمهم أو لأنه أكبوهم سناً وحنكة. والأمر نفسه حدث مع الرئيس اليمين زروال، والظروف التي جاء فيها. وكان من المفترض أن ينهي عهده لكنهم كانوا متكلين على بوتفليقة عام 1994، وكانوا أجروا اتصالات به. وعلى رغم قبول شروطه، على ما نشر خالد نزار في رسالته، تراجع في آخر لحظة وانسحب وتركهم في موقف محرج جداً. لم يكونوا يتوقعون اطلاقاً انسحابه فلم يبق امامهم لانقاذ الوضع سوى تعيين وزير الدفاع آنذاك اليمين زروال على رأس السلطة. لذا حاول أن يرفض لكن الوضع كان خطيراً، فوافق على مضض. نحن نعرف ما حدث بعد ذلك الانتخابات وهو نفسه ما حدث مع الشاذلي استقال ونعرف ما حيك حوله من تكهنات خاطئة، ولأنه حقاً استقال، ولم يرغمه أحد على الاستقالة، قلنا ان ثمة فائدة قد تترتب على الاستقالة فعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وقلنا انها ربما الفرصة التي سنحت للبلاد، لتبدأ انطلاقة جديدة، نكرس فيها الديموقراطية. لنذهب الى الانتخابات التي ستكون شفافة وننه هذه المرحلة، وكنا متفهمين الوضع. فخلال سبع سنوات منذ 11 كانون الثاني / يناير 1992، تاريخ استقالة الشاذلي، واصل كل الجزائريين بعزم كبير العمل للتخلص من الوضع ولكن، ويا للأسف، خاب الأمل، لأن الأسلوب نفسه الذي استعمل سابقاً استمر. كانت جبهة التحرير الوطني عبارة عن ديكور لقرار اتخذ مسبقاً، وأقول هنا انها تلقت أمراً ونفذته كقرار، وزكى قادتها انساناً لم يذكروه حتى بالاسم وتبع الآخرون الركب، ومنذ الانطلاقة الأولى للانتخابات اتضحت الأمور، وعرفنا ان كل شيء مزور. هل المؤسسة العسكرية التي خيب آمالها بوتفليقة عام 1994، هي التي عادت اليه مرة ثانية عام 1999 أم أن هناك مؤسسة أخرى هي التي فرضته؟ - المفترض ان يكونوا تعلموا الدرس ليتحصنوا ضده، بعد ما فعله بهم عام 1994. كانت المفاجأة كبيرة أن يستقيل زروال، ولم يكونوا متوقعين ذلك، ولم يعرفوا كيف يواجهون الأزمة. وما كانوا يتوقعون أن يخرج زروال من أيديهم، لهذا بقوا يفكرون. وأول من فكروا به أحمد أويحي، لأنه كان الأفضل آنذاك، لكن كراهية الشعب له كانت كبيرة، ولو فرضوه لكان ذلك استفزازاً للمجتمع، وكان يمكن أن تقوم تظاهرات، فحاروا في ايجاد شخص يضعونه على رأس السلطة، فعادوا وفكروا في بوتفليقة الذي لم يكن الأفضل، لكنه الأقل سوءاً ورداءة. كانوا يظنون أنه تعقل، لكنهم لم يكونوا يعرفون انه لا يتمتع بامكانات رئيس دولة. معرفتهم به كانت محدودة، وكانوا يرون ان الوقت حان لنقل السلطة الى جهة أخرى. كان أصدقاء كثر من الشرق يقولون لي: ما دامت السلطة من الجهة الشرقية أو من الوسط من الأفضل أن يكون الرئيس من الجهة الغربية. لماذا دائماً الرئيس من هذه النواحي؟ اذا وضعوا بوتفليقة لأنه من الغرب، وهي فرصة لإرضاء كل الجهات. كثر من الأصدقاء كانوا يعتقدون ان له خبرة كبيرة في الديبلوماسية ويستطيع معالجة الكثير من المشكلات وتحسين الصورة العالمية، وسيوظف عبقريته الدولية من أجل الجزائر، وسيمتص من ناحية أخرى غضب الجهة الغربية ويصفي الميدان الخارجي. ولا ننسى أن للجهة الغربية الفضل على بوتفليقة، على رغم اننا ضد الجهوية والتمييز الجهوي. فأي جهة يكون منها الرئيس هي جزائرية، وسواء كان الرئيس من الغرب أم من الشرق أم من الشمال أم من الجنوب، نحن معه ما دام يعمل لمصلحة الوطن. ها هو اليوم يتجه نحو جماعة الغرب، فهو يجمعها حوله. - لا، هناك ستة وزراء من الغرب، وهم نسبة قليلة الأهمية، لأن عدد الوزراء من الشرق أكثر. أنا لا أحاسبه على من يحيطون به، ولا أظن أنه يميز بين المناطق. الجنرال بن يلس محسوب على الاسلاميين؟ - أنا رجل مسلم ككل الجزائريين، لكنني لست اسلامياً قط. أنا رجل ديموقراطي، على رغم انني غير متفق معهم ومع نوعية النظام الذي كانوا سيطبقونه ومدى نجاعته. اعتقد أن لهم الحق في التعبير عن رأيهم ولهم الحق في الوجود والحرية، مثل غيرهم. أما سجنهم واقصاؤهم ومنعهم من التعبير فأمور خاطئة وغير ديموقراطية. ما موقفك من توقيف المسار الانتخابي؟ وكيف تنظر، كديموقراطي، الى العنف؟ - العنف استعمل كحل سياسي لأن الأزمة الجزائرية المنبثقة من توقيف المسار الانتخابي، أزمة سياسية. ليس من الممكن حل ازمة سياسية بطرق عسكرية أو بالعنف. وهنا اختلف مع الاستئصاليين. بالنسبة اليهم لا جواز ولا جدل ولا لقاء مع الذين لا يتفقون معهم، خصوصاً ممن يسمون بالاسلاميين. أنا أرفض هذا الطرح، وأقول: يجب فتح الحوار مع كل الأفراد بنا فيهم الاسلاميون. وهذا هو موقفي من اليوم الأول، وقد أظهرت الأحداث انني كنت على حق. بالعنف تبقى المشكلة قائمة، والقوة لا تحلها. هذا هو الكلام الذي يقوله العسكريون أنفسهم، خصوصاً أصحاب الخبرة. وكعسكري أقول ان المشكلة تحتاج الى حل سياسي، وهذا ما يمنح الدولة الحق في أن تدافع عن نفسها، ولا يمنعها من استخدام حقها في الدفاع عن مواطنيها وتحقيق الأمن لهم، ولها أن تقوم بعمليات ضد الناس الذين يخرقون القانون، ولكن في اطار القانون. كيف تقوم عملية العفو العام؟ - العفو الذي جاء في آخر لحظة خارج عن القانون، وخارج حتى عن قانون الوئام المدني وخارج عن الدستور. وأنا ضد خرق قوانين الدولة وبالأخص الدستور، أعلى القوانين. وان كنت غير معارض للعفو كمبدأ، يجب أن يدخل في اطار القانون والدستور، ولكن في اطار سياسي. منذ البداية كان هذا القانون خطأ ليس فقط بالطريقة التي جاء بها العفو او الوئام المدني، بل لأن الاطار العام للمسيرة أو الوئام كان خاطئاً، إذ كان نوعاً من الحلول الأمنية التي استعملت منذ 1992 ولم تعط أي نتيجة، لأنها غير قائمة على أسس سياسية. هي اجراءات أمنية. والاجراءات الأمنية مصيرها الفشل دائماً. ثم ان العفو العام الذي يتحدث عنه جميع الناس، لم أر بوتفليقة يتناوله ولم يحل لنا أي مشكلة، وسيصيبه ما أصاب الاجراءات السابقة، لأنه مثل الحل الأمني. الحل يكمن في قبول زوابري وحطاب وغيرهما هذا العفو الشامل، ويعلنون ذلك، لكنهم يرفضون هذا العفو ولا يقبلون اقتراحاته بوتفليقة إذاً الأمر مجرد نكتة، وهو فرصة للفت الرأي العام الى الاخفاق الذي قد يصيب عملية السلم، إذ لا يزال العنف مستمراً، ولا يزال عدم الاستقرار متواصلاً أيضاً. ما رأيك في الاتجاه الذي نجده عندنا حيث أحزاب الائتلاف أو الأطراف الذين ساندوا بوتفليقة اليوم، يُغيرون مواقفهم كاتحاد العمال الذي يرفض العفو العام، بعدما كان معه. هل معنى ذلك أن المؤسسة العسكرية بدأت تتخلى عن بوتفليقة؟ - ليست لدي اتصالات بالمؤسسة العسكرية حتى أقول لك ما تريد فعله. لكن لدي تحليل شخصي كأي مواطن يعيش في هذه البلاد ويتابع عن كثب تطوراتها. وبما اننا نعرف الآليات التي تستعمل في اتخاذ القرار، فإن تراجع هذه الأحزاب التي هي أصلاً مفبركة ولا تمثل أي شيء، يعود الى كونها شعرت اليوم بخيبة أمل، على رغم أنها أصبحت بالنسبة الى الشعب أمراً محتوماً. وتأكد لي أن الحفرة والرشوة اللتين كان ينادي بالتخلص منهما، ما زالتا قائمتين لذا أصبح هناك تراجع كبير، وأصبحت شعبيته بين قوتين: دفع الأحزاب والأطراف الى الانسحاب، أو التخلي عنه. هل هناك من يطرح أويحي بديلاً من الرئيس بوتفليقة؟ - لا أستطيع أن أؤكد لك هل يعود أويحي مرة أخرى. فما ألاحظه أن السيد الذي أصيب بفشل كامل كوزير أول، وعلى كل المستويات وفي كل الأعمال والميادين، والذي رفضته الغالبية، يعاد تنصيبه على رغم الجميع، ويكون الوزير الأول المرشح من طرف الدولة، وينصب على أعظم القطاعات وأخطرها، أي وزارة العدل. هذا يدل أنه يراد الاحتفاظ به، من أجل المستقبل. لماذا قدمت استقالتك عام 1988؟ - ما زلت أعتقد أن احداث تشرين الأول اكتوبر 1988 لم تقف وراءها دوافع لمنظمين من الخارج أو من الداخل، بل دوافعها اجتماعية وسياسية، لأن النظام وصل الى مستوى الانهيار ولم يتغير، وكانت الأحداث في البداية مجرد أمر صغير لم نعرف كيف نواجهه، فكبر ولم نعرف كيف نتصرف لنحدد المخاطر. كان بالنسبة الي واضحاً جداً، ان احداث 1988 أدخلت البلاد في أزمة تصعب مواجهتها. كانت تهدف الى تغيير جذري للنظام الذي حقق نتائج عدة وخدم البلاد في ميادين عدة وكانت فيه نقائض لأنه لم يعرف كيف يتطور، ولم يتكيف مع تطور المجتمع، فجاء يوم ليثأر فيه المجتمع. لذا كان لا بد من تغيير جذري ومن نقائصه، لم تكن فيه ديموقراطية، وما حدث عام 1988 يتطلب تحقيق الديموقراطية، والناس لم تعد تقبل أي خطاب ذي اتجاه واحد، وأصبح لكل من الاشتراكيين والوطنيين والديموقراطيين والاسلاميين رأي خاص به، ما يدل الى تطور الشعب، خصوصاً حين اجتمع المجلس التأسيسي في 5 و10 تشرين الأول اكتوبر. يومها أبديت رأيي بالنسبة الى ضرورة تغيير النظام، وتحمل المسؤولية. واقترحت على الشاذلي ألا يثق بالانتخابات، لأنها كانت كاذبة ومزورة، وألا يثق أنه سيحظى بولاية أخرى. لم يرد علي، في حينه، لا سلباً ولا ايجاباً. لكنني شعرت انه يريد ان يقول لي "لا"، وقد أكد لي ان لا فائدة من بقاء الحزب الواحد ويجب العمل بتعدد الأحزاب، إذا كنا نريد فعلاً الديموقراطية. وأنا من هذه الناحية كنت أوافقه تماماً. الشاذلي كان يؤمن بالديموقراطية، وأنا أيضاً. ولكن بعد مدة رأيت أن هذا الخطاب مجرد كلام، إذ عقد مؤتمر الحزب الواحد، فرشح الرئيس من دون منازع له. كتب خالد نزار في مذكراته انه التقى بيجار، ونحن نعرف ان بيجار هو الذي قتل ابن المهيدي وبما انه يعتز بمثل هذه التصرفات ألا ينتابك الشك؟ - أنا لا أشك في وطنية الناس الوافدين من الجيش الفرنسي، أو، أقول انهم أقل وطنية أو أكثر، من غيرهم. فهناك ضباط من الجيش الفرنسي أو من جيش التحرير الوطني مشكوك في وطنيتهم. وأخبرك ان بيجار التقاه ضباط من جيش التحرير الوطني، فكيف هم اليوم في مناصب عليا في هرم السلطة؟ هل بالنسبة اليك هذه الأمور عادية؟ - ليست عادية. ولكن لا تدفعني لأحكم على خالد نزار على انه من ضباط فرنسا، ولا على غيره. المهم أن من قالوا ان هؤلاء يتمتعون بكفاية أكثر من غيرهم مخطئون. ولعلي كافي الحق في أن يشك في كفاية هؤلاء الناس بقصد أو بغير قصد، لأنهم هم الذين كانوا مسؤولين في الجيش، منذ سنوات طويلة، وعليهم تحمل المسؤولية. أريد أن أصل الى قضية الجنرال باللوصيف. هل ما وقع له سببه موقفه من ضباط فرنسا أم لأنه طمع بأن يصبح خليفة الشاذلي؟ - ليست لدي معطيات تؤكد أو تنفي ان الجنرال باللوصيف حكم عليه، لأنه كانت له مواقف من ضباط فرنسا. أرى أن محاكمته ليست لها علاقة بما تقوله، وإلا كيف تقبل بسجن أحد رموز الثورة 14 سنة، ثم تطلقه ليصبح بعد ذلك انساناً عادياً، ما معنى ذلك؟ وأعتبر ان ليس الجيش من قرر ادخال هذا الرمز الى السجن، بل السيد هواري بومدين بصفة كونه السلطة آنذاك. ابعاد الجيش عن اللجنة المركزية، هل كان رد فعل على ما قلته أنت للرئيس بن جديد؟ - من البديهيات أن ينسحب الجيش من قيادة حزب جبهة التحرير الوطني، لأن الدستور الجديد يقر تعدد الأحزاب، وليس من المعقول ترك الجيش في حزب واحد بالذات، وهو منطق يستعمل في كل الدول التي تتبنى التعددية. لذا كان من الضروري ان ينسحب الجيش. نلاحظ أن رحلة بن جديد تميزت بالانفتاح، فهل ذلك ناتج عن قرار فردي أم جماعي؟ - كان نتيجة أحداث 1988 التي كان لها تأثير كبير وتكسير نظام الحزب الواحد، وهي التي وضعت فكرة مراجعة المسار السياسي. الكتابات عن حوادث 1988 كانت تنفي أو تحاول تبرير عدم مشاركة جهاز الدولة في التعذيب، بينما هناك شهادات تثبت العكس، كيف ترى ذلك؟ - التعذيب موجود، ولا أحاول أن أشكك في من يدعي ذلك. الصحافة نشرت شهادات ولكن اسأل: من باشر التعذيب: وماذا عن الشهادات التي تتهم مصالح الأمن؟ فمصالح الأمن تضم الجيش الوطني والأمن العسكري، والدرك الوطني، فمن منها قام بالتعذيب. أنا لا أستطيع توجيه الاتهام الى جهة بعينها. هل أفهم من هذا وجود سلطات في نظام بن جديد؟ - لم تكن هناك سلطات أو أوكار سياسية قط، كان الجيش يتصرف بناء على أوامر بن جديد، وكانت في يده كل السلطات السياسية والعسكرية والادارية، خصوصاً على مستوى الجيش. حتى التغيرات التي عرفها الجيش كانت بأمر منه، وحتى العقيد هواري بومدين، رحمه الله، لم يستطع التغيير في القطاعات الحساسة مثل الأمن العسكري. فمذ بدأ العمل مع السيد قاصدي مرباح، الى أن توفي لم يغيره، لكن بن جديد غيره، بغض النظر عن صوابية القرار أو عدمها. لماذا سميت مرحلة الشاذلي بالعشرية السوداء؟ - التسميات تأخذ طابعاً معيناً، كما يقال اليوم إنها عشرية حمراء. ثم نحن في بداية العشرية "النتنة" وآسف لهذا، لأن من يتكلم على العشرية السوداء ليس الشعب، وإنما الناس الذين كانوا خلالها مسؤولين في السلطة هم الذين سودوها ثم وصفوها بالسواد. وأرى انهم لا يخجلون وقد نسوا كل ما فعلوه واقترفوه أيامها. لو ان لويزة حنون هي التي وصفتها بذلك لقلت أن لها الحق، ولو كان سعدي لقلنا معه الحق. كان في عهد بن جديد نحو 20 ملفاً جمعت من مرحلة بومدين، بينها ملف بوتفليقة، لماذا لم يقدمها الشاذلي الى العدالة أو الى المجلس الأعلى للمحاسبة؟ - أنا لا أعلم بهذا العدد، أعرف فقط بملفات العيد عبدالسلام وباللوصيف وبوتفليقة. وما لفت انتباهي ان ملف الدفاع الخاص بسويسرا كان قضية غير قانونية، إذ كان يضم أرقاماً ضخمة بالعملة الصعبة، وكل ما صرف منها لم تكن له اثباتات، حتى مجلس المحاسبة لم يستطع اثبات ذلك، فكيف تستطيع العدالة الفصل في ذلك؟