يوم الخميس المقبل 15 الجاري يختار الجزائريون رئيس جمهوريتهم الجديد خلفاً للرئيس اليمين زروال. ويتوقع المراقبون أن تكون هذه الدورة من أهم الدورات الانتخابية التي شهدتها الجزائر بعد مرور عشر سنوات من العنف والدم خلفت أكثر من سبعين ألف ضحية منذ أحداث تشرين الأول اكتوبر 1988. لهذه الأسباب وسواها يرى المهتمون بمستقبل الجزائر أن الانتخابات المقبلة تمثل فرصة تاريخية لإعادة دمج القوى السياسية المختلفة في نظام هيمنت عليه المؤسسة العسكرية التي منعت فريقاً كبيراً من ممارسة حق المشاركة في المسؤولية. ومع أن أحداث 1988 مهدت لإنهاء مرحلة الشاذلي بن جديد، إلا أن تعطيل نتائج الدورة الانتخابية البرلمانية عام 1991 كانت المنطلق لانهيار شرعية النظام وظهور الإسلام السياسي كطبقة اجتماعية صلبة استبدلت البرلمان بالمساجد، واستخدمت العنف لنشر رسالتها. وبسبب الخوف من قيام نظام شبيه بنظام الجمهورية الخمينية في إيران، نشأت مقاومة جديدة لهذا التيار الجارف جمعت بين صفوفها ضباط الجيش والمثقفين الذين درسوا في أوروبا، والنساء والبربر ورجال الأعمال، وكان من الطبيعي أن تزداد انهيارات النظام لأن تجاذب العنف بين التيارين خلق عالمين منفصلين في الجزائر، وباعد مسافة الفصل بين الجيش والشعب. من هنا نشأت فكرة إعادة اللحمة إلى مجتمع قطعت أوصاله المأساة، ومزقت وحدته ممارسات البطش والتنكيل، ومع الدعوة المطالبة بضرورة استعجال التغيير، برزت رئاسة الجمهورية كحد فاصل لاخراج الجزائر من حال الشلل والموت البطئ. والملاحظ أن البرامج الانتخابية التي طرحها أحمد طالب الإبراهيمي ومولود حمروش وعبدالله جاب الله وحسين آيت أحمد وعبدالعزيز بوتفليقة، ركزّت في عناوينها الرئيسية على تجنب تكرار الأسباب المختلفة التي أدت إلى حدوث انفجار 1991. كما ركزت على ضرورة التخلي عن اعتماد اسلوب العنف والعنف المضاد كسلوك سياسي ساعد على زيادة حجم المأساة. السؤال الذي يطرح نفسه خلال هذه الأزمة المتنامية يشدد على إظهار الأسباب التي قادت الرئيس اليمين زروال إلى الاعلان عن انتخابات رئاسية مبكرة، وما إذا كانت هذه الخطوة وليدة قناعة شخصية أم أنها محاولة احراج لجميع اللاعبين؟ ينقسم المحللون في تفسير الدوافع الحقيقية التي قادت الرئيس زروال إلى ارتجال قراره في وقت لم تكن الأجواء السياسية مهيأة لامتصاص هذه الصدمة. فريق يقول إن الرئيس الذي نال ما نسبته 61 في المئة من مجموع أصوات الناخبين في تشرين الثاني نوفمبر 1995... بدأ يشعر بأنه فشل في تحقيق وعوده للشعب، وبأن الضرورات الوطنية تقتضي انسحابه من السلطة، بينما يرى فريق آخر بأن قرار الانكفاء اتخذه زروال تحت تأثير الخلافات المتواصلة بينه وبين أجنحة أخرى داخل المؤسسة العسكرية. وهي خلافات عميقة كان صديق الرئيس الجنرال بتشين أحد أهم العناصر المساهمة في صنعها. خصوصاً أنه كان يقود حركة الحوار مع الإسلاميين كوسيلة لإضعاف نفوذهم وتقليص مساحة نشاطهم. وبما أن "بتشين" كان يشغل منصب الرئيس السابق للمخابرات العسكرية منذ 1992، فإن واشنطن راهنت على دوره باعتبارها تؤيد الانفتاح على الجماعات الإسلامية المعتدلة. كما تؤيد الأحزاب التي تنبذ العنف وتسمح بالمشاركة في العملية السياسية كخطوة مطلوبة لإقامة مؤسسات تشريعية وقضائية يمكن ان تساهم في إعادة الهيبة إلى السلطة التنفيذية. في مقابل هذا التيار كان الرئيس زروال يشعر بضغوط الجناح الآخر الذي يقوده الجنرال محمد العماري، رئيس أركان الجيش، والرافض أي حوار مع الإسلاميين، بمن في ذلك الجماعات المعتدلة. ولقد اتهمته الصحف الفرنسية بأنه المحرك الخفي وراء الأعمال التي قام بها الجيش ضد الإسلاميين. وهو في هذا الموقف يأخذ من سورية مثلاً على ضرورة استخدام العنف ضد أي عصيان يمكن أن يخلخل قواعد الدولة. وفي رأيه ان الاسلوب الصارم طوال السنوات السبع الماضية، أجبر التيارات المتطرفة على التراجع عن فكرة الاستيلاء على الحكم أولاً... وعلى القبول بالمشاركة ثانياً، بعدما اعتبرت نفسها القوة الشرعية الوحيدة للحكم. وفي ضوء هذا التغيير يرى الجنرال محمد العماري، صديق الفرنسيين، أن محاورة الإسلاميين يمكن أن تدفعهم إلى التشدد والحؤول دون حدوث الاصلاحات المطلوبة. لهذا يرى أن الجيش يجب ألا يكون محايداً في معركة مصيرية تتطلب المحافظة على النظام والقانون، وهو مؤمن بأن برنامج الرئيس زروال قد تحقق ولو بشكل مبتور، لأن الحكومة نجحت في توسيع قاعدتها الشعبية السياسية، وفي تهميش دعاة التطرف والعنف. أما التيار الثالث الذي يقف بين العماري وبتشين، فهو تيار الجنرال توفيق مدين، ممثل جناح الوسط داخل المؤسسة العسكرية، والمعبّر السياسي عن خط الرئيس زروال. ولقد حاول "مدين" التوفيق بين النهجين المتعارضين، للخروج بنهج متوسط يقود إلى تحييد الجيش وإلى وضعه في خدمة الدولة. وكان من الطبيعي أن يلقى هذا الطرح معارضة قوية من المؤسسة العسكرية التي تعتبر نفسها منذ استقلال الجزائر، أي منذ العام 1962، القوة الأساسية الحامية لنظام حزب التحرير. واستناداً إلى هذا المنطق، ظل الجيش يقدم رؤساء الجمهورية ويحتل موقع الرئاسة بدءاً من عام 1965. وهذا ما يفسر الأسباب الخفية وراء تصفية الرئيس المدني محمد بوضياف، وإبعاد كل الرؤساء القادمين من خارج النادي العسكري. وبسبب عجز الرئيس زروال عن ضبط لعبة العسكر، والتحكم في التيارات المتصارعة على أسلوب الأداء، أعلن عن انتخابات رئاسية مبكرة بهدف إحراج الجميع واخراج الجيش من أزمة التفرد بالسلطة. في ضوء هذا التغيير المفاجئ، باشر المرشحون لخلافة زروال في طرح برامجهم السياسية في صور متعددة تتعهد باخراج المجتمع الجزائري من ورطة العنف الدموي. ولقد تبارى أحمد طالب الإبراهيمي، وحسين ايت أحمد، ومولود حمروش وعبدالله جاب الله وعبدالعزيز بوتفليقة في تسويق شعارات المرحلة المقبلة، وفي التعهد بإنهاء العنف وفرض الاستقرار واحترام القانون وإعادة تفعيل المؤسسات السياسية، والقضاء على الفساد والمحسوبية، كما تعهد جميع المرشحين بإقامة عقد اجتماعي جديد يؤمن وحدة الشعب والدولة، كما يؤمن مصالحة النظام مع الرأي العام. ومعنى هذا ان الحقبة المقبلة قد تشهد نهاية تاريخ تدخل الجيش في التناوب على حكم الجزائر منذ عام 1965، كما تشهد بالتالي فصل العسكر عن السياسة وإعادة صوغ لغة وطنية مختلفة يفهمها البربري كما تفهمها الاقليات الأخرى. ويُستفاد من فحوى الخطاب السياسي لجميع المرشحين ان الدعوة الجديدة لن تعيد محاصرة العنف الاصولي المسلح... بل ستعمل على إفساح المجال للقوى الجزائرية المختلفة لكي تندمج في النظام وتشارك في مسؤولية إخراج البلاد من حلقة الدم. هذا الأسبوع اشتدت انتقادات المرشحين للحكومة وللإعلام الرسمي، على اعتبار أن هناك انحيازاً في الأداء والتوجيه يصبّ في مصلحة بوتفليقة. وأعلن محمد بجاوي، رئيس اللجنة الوطنية المستقلة لمراقبة الانتخابات الرئاسية، أنه تعهد بضمان انتخابات حرة نزيهة، وان الرئيس زروال طلب منه ايجاد ظروف طبيعية تسمح بالمنافسة الشريفة. ويبدو أن هذه المنافسة أصبحت محصورة باثنين فقط هما أحمد طالب الإبراهيمي الذي تؤيده "الجبهة الإسلامية للانقاذ"... وبوتفليقة الذي يدعمه الجيش ويؤيد وصوله إلى الحكم. ويقول المحللون إن هناك نسبة عالية تصل إلى 34 في المئة من الشعب تؤيد بوتفليقة، إضافة إلى المترددين والحياديين الذين يمثلون 27 في المئة. ولكن هذا لا يعني ترجيح كفة مولود حمروش الذي يستقطب عدداً كبيراً من الرأي العام المحايد... أو أحمد الإبراهيمي. ومع ان الأول يراهن على أصوات الأغلبية الصامتة، إلا أن الثاني يتوقع كثافة في التصويت على اعتبار أن "الجبهة الإسلامية للانقاذ" تريد اظهار تحدياتها وإثبات وجودها على الساحة. عبدالعزيز بوتفليقة ركّز حملته على انتقاد الشاذلي بن جديد، معتبراً أنه المسؤول الأول عن تردي الحكم. ورأى الكثيرون في هذه الحملة عملاً ثأرياً تعود جذوره إلى عام 1956، أي إلى عام الانتساب إلى جيش التحرير في أيام هواري بومدين. وتدعي التيارات الإسلامية ان الجيش قرر تغيير جلده فقط، ولجأ إلى مرشح مدني هو بوتفليقة، الذي يرى فيه العسكر ضمانة لدوره ودور الحزب. ويتوقع الفرنسيون الذين عاش بوتفليقة في كنفهم مدة طويلة، أن يغيّر وريث بومدين من النهج الذي مارسه مرشده، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفتت كتلة عدم الانحياز، ومساهمة سياسة التصنيع الحربي الثقيل في دمار الجزائر. على كل حال، ان هذه الانتخابات تمثل نهاية حقبة مؤلمة من تاريخ الجزائر، كما تمثل بداية مرحلة جديدة تكون فيها الشرعية ممثلة بالحركات الإسلامية والجيش والحزب! * كاتب وصحافي لبناني.