يبدو الجزائريون منشغلين هذه الأيام بالحديث عن خلافات بين رئيس الجمهورية عبدالعزيز بوتفليقة والمؤسسة العسكرية. وعلى رغم نفي الرئيس الجزائري، مساء أول من أمس، اختلافه مع الجيش في شأن تشكيلة حكومته المقبلة، إلا ان ذلك النفي غُلّف بعبارات يرشح منها التباين، مثل ان تشكيل الحكومة يدخل من ضمن صلاحيته هو وليس الجيش، وانه يرفض أي مس بصلاحياته الدستورية، مما ترك المجال مفتوحاً أمام مزيد من التكهنات بحقيقة الوضع بين مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية. فهل هناك خلافات بالفعل بين الطرفين؟ لا بد من الإشارة في البدء الى ان بوتفليقة وصل الى سدة الرئاسة، في نيسان ابريل الماضي، متسلّحاً بدعم لا يخفى من مؤسسة الجيش. ومثلما هو معروف، مثّل هذا الدعم لترشيح بوتفليقة "الكلمة السر" التي دفعت الأحزاب الكبرى الى تأييد وصوله الى سدة الرئاسة. وكان هذا الدعم أيضاً العذر الذي تسلّح به منافسوه الستة عندما أعلنوا انسحابهم من السباق الرئاسي، بحجة ان نتيجة الإقتراع حُسمت، قبل ان تبدأ، لمصلحة "مرشح الجيش". وعلى رغم نفي بوتفليقة مراراً انه "مرشح الجيش"، إلا ان ثمة إجماعاً على انه كان خيار المؤسسة العسكرية - أو تيار فيها - وانه لم يكن ليصل الى قصر المرادية لولا موافقة العسكريين. ويقول وزير جزائري سابق ان الجيش لم يعترض، حتى الآن، على أي من السياسات الأساسية التي أقدم عليها بوتفليقة. ويوضح ان المؤسسة العسكرية لا تضع "خطوطاً حمراً" أمام رئيس الجمهورية. ولاحظ ان الأخير نفّذ في المقابل السياسات التي سبق أن قررها الجيش، مثل منح هدنة "الجيش الإسلامي للإنقاذ" غطاء شرعياً وهو أمر رفضه الرئيس السابق اليمين زروال. لكن السياسي نفسه القريب من مؤسسة الإستخبارات يوضح ان رئيس الجمهورية يُعتبر حالياً في مرحلة "إختبار"، تُقرر المؤسسة العسكرية على أساسها طريقة التعامل معه. ويضيف ان هذه المؤسسة ستكون سعيدة بالطبع إذا نجح الرئيس في تكريس سياسة الوئام والمصالحة الوطنية وتخفيف حدة العنف وكسر العزلة الخارجية واستدراج الإستثمارات الأجنبية… لكن المؤسسة لن تكون سعيدة، في المقابل، إذا أدت سياسة رئيس الدولة في إطلاق السجناء الإسلاميين الى التحاقهم مجدداً بالجبال، وإذا عجز عن تحريك عجلة الإقتصاد، وبقيت العلاقات مع الدول الخارجية على حالها من الجمود. ويرفض هذا السياسي تحديد مهلة زمنية يمنحها الجيش لبوتفليقة للحكم على سياساته، بالنجاح أو بالفشل. لكن الثابت ان تاريخ 13 كانون الثاني يناير العام المقبل، وهو موعد انتهاء مهلة تسليم أعضاء الجماعات المسلحة أنفسهم للإستفادة من قانون الوئام، يُمكن ان يُعتبر تاريخاً محورياً لبدء إطلاق أحكام على "عهد بوتفليقة". ولا شك في ان الرئيس يدرك أهمية هذا التاريخ. إذ جدد قبل يومين تهديده بالتنحي في حدود هذا التاريخ إذا لم تُنفّذ سياساته. ومعلوم ان الجيش هو المؤسسة الأقوى في البلاد، وكان الحاكم الفعلي لفترة طويلة منذ الإستقلال في 1962. وكان وراء الإنقلاب الذي أطاح أول رئيس للبلاد بعد استقلالها، أحمد بن بلة في 1965. وتسلّم الرئاسة بعده "رجل الجيش" وزير الدفاع هواري بومدين. وبعد وفاة الأخير في نهاية 1978، حسم الجيش والإستخبارات الصراع على خلافته بين ممثلي أقوى تيارين في جبهة التحرير، التيار الإصلاحي والتيار المحافظ عبدالعزيز بوتفليقة ومحمد الصالح يحياوي. إذ اختار العقيد في الجيش الشاذلي بن جديد لتولي الرئاسة. وفي كانون الثاني يناير 1992، أعلن بن جديد تنحيه عن الرئاسة إثر الفوز الساحق للجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة في الدورة الأولى من الانتخابات الإشتراعية في كانون الأول ديسمبر 1991. وعلى رغم ان وزير الدفاع السابق الجنرال خالد نزار ينفي كلام قريبين من الشاذلي عن ان الجيش عزله، إلا ان الواضح انه لم يكن عند رئيس الدولة أي خيار سوى الإستقالة بعد الإجتماع الذي عقده قادة النواحي العسكرية وكبار الضباط في عين النعجة وقرروا فيه التدخل لمنع "الإنقاذ" من تولي السلطة. وكان الجيش، مرة أخرى، الجهة التي حسمت مصير السلطة بعد تنحي بوتفليقة. إذ أقنع محمد بوضياف، أحد الزعماء التاريخيين للثورة، بالعودة من منفاه المغربي وتولي رئاسة مجلس للدولة من خمسة أعضاء. لكن عودته لم تطل. إذ يُقال انه اختلف مع المؤسسة العسكرية في بعض السياسات التي ينوي انتهاجها، ومنها موضوع الصحراء الغربية التي كان الرئيس يُحبّذ تسوية لها تأخذ في الإعتبار مصالح المغرب، الدولة التي استضافته منذ نفيه بعد الإستقلال بفترة قصيرة. واغتيل بوضياف، في عنابة في حزيران يونيو 1992. ودانت محكمة جزائرية لمبارك بومعرافي، أحد الضباط المكلفين حراسته، بعملية الإغتيال. لكن الجهة التي طلبت منه تنفيذ العملية لا تزال مجهولة. وبعد بوضياف، تولى الرئاسة علي كافي الذي انتهت فترة تعيينه في كانون الثاني يناير 1994. وكان بوتفليقة خيار الجيش لخلافة كافي، لكنه إشترط ان يأتي الى الرئاسة عبر بوابة الجيش لا عبر بوابة ندوة الحوار الوطني التي تضم أحزاباً ومنظمات جزائرية. فاعتذر بوتفليقة. وجاء الجيش بوزير دفاعه اليمين زروال الى سدة الرئاسة. فاستمر في هذا المنصب بعد انتخابات شعبية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1995 حتى ايلول سبتمبر 1998 عندما أعلن تنحيه قبل اكمال فترة ولايته. وجاء تنحيه بعد صراع بين قريبين منه، بينهم رئيس الإستخبارات السابق محمد بتشين، وقادة آخرين في المؤسسة العسكرية، حُسم لمصلحة التيار الأخير. ولا شك في ان بوتفليقة الذي جاء الى الرئاسة، بدعم واضح من الجيش، يعرف جيداً هذه الخلفية للعلاقة بين الذين سبقوه الى قصر المرادية والمؤسسة العسكرية، فهل يستطيع الرئيس الجزائري "إغضاب" العسكر؟ ان الأيام المقبلة كفيلة بأن توضح هل أغضب بوتفليقة جيشه فعلاً، أم ان الأمر مجرّد "سحابة صيف" عابرة.