لا شك في أن الاسرائيليين يحبون الرموز، ومن هنا فإنهم عادة ما يختارون، من أجل خبطات سياسية أو عسكرية كبيرة. تواريخ تدل وتذكّر بحيث يرتبط تاريخ الحدث الجديد، بتواريخ قديمة. ومثل هذا حدث مثلاً، في الذكرى الخامسة عشرة لانتصارهم في حرب حزيران يونيو 1967، إذ قاموا بغزو الأراضي اللبنانية ذلك الغزو الذي آثروا ان يحولوه الى احتلال، كما آثروا ان ينهوه، تقريباً، في ذكرى توقيعهم مع السلطات اللبنانية الحاكمة في العام 1983، لمعاهدة 17 أيارمايو الموؤودة. وضمن هذا الإطار قد لا يكون من قبيل المصادفة أن يختار مناحيم بيغن، أول رئيس حكومة يميني متطرف في اسرائيل، تلك الأيام من العام 1983، الواقعة عشية ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، يتقدم فيها استقالة حكومته واستقالته، وليخرج بالتالي من الحياة السياسية الاسرائيلية. قد يكون من الصعب هنا اعتبار التوقيت فعل ندامة أو اعترافاً بالذنب، من قبل ارهابي من طراز بيغن امتلأت حياته بالاغتيالات والجرائم، لكنه - أي التوقيت - ربما كان مؤشراً الى فعل تضحية أخير مارسه صهيوني متحمس فضّل دائماً وطنه على نفسه، وفضّل دائماً، كما يقول كاتبو سيرته أن "يمحو الفرد أخطاء الأمة". ومن هنا اعتبر كثيرون خروج بيغن من الحكم، بعد أن ثبت تورط الجيش الاسرائيلي في مذبحة نفذها حلفاء لبنانيون لهم، ووقع ضحيتها المئات من الفلسطينيين واللبنانيين العزّل، محاولة - ناجحة على صعيد الرأي العام الدولي كما نعرف - لتبييض صفحة الجيش والسلطة، طالما أن المسؤول الأول - وسيقول مؤرخو حياة بيغن: المسؤول من دون ارادة منه - عن تلك الجريمة التي خضت العالم كله، اختار أن يدفع الثمن بنفسه! إذاً، مهما كان من شأن صحة هذا التحليل أو عدم صحته، يبقى أن مناحيم بيغن، الارهابي العجوز الذي كان وصل الى الحكم بشكل غير متوقع وقاد واحدة من أكثر حكومات اسرائيل تطرفاً ودموية واعتداء على جيرانها - ولا سيما على اللبنانيين والفلسطينيين -، وتأجيلاً لأي بحث في مسألة السلام، بيغن هذا اختار يوم 14 أيلول سبتمبر 1983 ليعلن فيه اعتزال الحياة السياسية، حيث وضع استقالته في تصرف حاييم هرتزوغ رئيس الدولة، الذي قبلها بعد تردد قصير. من الناحية الرسمية قيل يومها ان الزعيم السابق لمنظمة الايرغون الارهابية - والذي ثارت بريطانيا كلها غاضبة حين زارها في العام 1971، رافضة استقباله -، أي بيغن الذي صار لاحقاً زعيماً لتجمع احزاب الليكود اليميني المتطرف، لم يقدم استقالته، إلا لأنه وهو المتقدم في العمر "تأثر كثيراً لوفاة زوجته" وبات يشعر أنه عاجز عن "ممارسة مهماته السياسية على أحسن وجه". كما قيل أيضاً في تفسير استقالته انه تأثر كثيراً بفشل عملية "سلامة الجليل" التي قادها ضد لبنان وأسفرت عن احتلال اجزاء من اراضي هذا الأخير، وكذلك عن مقتل المئات من الجنود الاسرائيليين. أما من الناحية السياسية فلا بد من أن نذكر هنا أن مناحيم بيغن الذي كان أقال وزير دفاعه آرييل شارون، بسبب تورط هذا الأخير المباشر، وانكشاف ذلك التورط أمام الرأي العالمي، في مجزرة صبرا وشاتيلا، انما بات غير قادر على احتمال الضغوط التي راح يمارسها عليه أعضاء وأعيان حزبه وتكتل الليكود بسبب تلك الإقالة التي جاءت بموشيه آرينز وزيراً للدفاع. ولكن، مهما كانت حقيقة الدوافع والأسباب يبقى أن ذلك اليوم شهد نهاية الحياة السياسية للارهابي العجوز. لكن نهايته لم تضع في ذلك اليوم حداً لحكم اليمين المتطرف، إذ سرعان ما حل محله رفيقه في الارهاب يتسحاق شامير، الذي تمكن على رغم ضحالة فكره السياسي، وعلى رغم تراجع اسهم وشعبية الليكود، من توفير النجاح لهذا التكتل في الانتخابات التالية التي جرت في العام 1984. لكن هذا بدا أكثر مرونة من بيغن، إذ أنه تمكن من تحقيق نوع من تقاسم السلطة مع حزب العمال، وتحديداً مع شمعون بيريز، وكان هذا التقاسم وراء تمكن الاسرائيليين والفلسطينيين - وغير هؤلاء من العرب - من دخول سلسلة من المفاوضات والتسويات كان من الواضح ان شخصاً من طينة بيغن ما كان من شأنه أن يسمح لنفسه بخوضها.