المناضلون السياسيون الانكليز ملأوا جدران انفاق المترو في عاصمة بلادهم ذات يوم من العام 1971 شعارات عاصفة تندد بزيارة مناحيم بيغن الى بريطانيا، واصفة اياه بأنه ارهابي واشرس الإرهابيين. هل كان هؤلاء يرون حتى في اكثر احلامهم كابوسية، إمكان أن يموت هذا الزعيم الصهيوني اليميني والمتطرف يوم 9 آذار مارس من العام 1992، وهو يحمل جائزة نوبل للسلام؟ وهل كان يمكن لأكثر العقول قدرة على اللجوء الى الخيال أن تتصور أن الجائزة سوف تعطى لمؤسس "حيروت" وقاتل الفلسطينيين وغيرهم من العرب، والعديد من الانكليز، إضافة الى الوسيط السويدي الكونت برنادوت. وستعطى له بفضل رئيس عربي هو انور السادات، كان من غريب أموره، حين قرر أن يصالح اسرائيل، أن يفعل ذلك في وقت كان فيه بيغن، رئيساً لحكومتها؟ حسناً، هذا كله يدخل الآن في حيز التاريخ الواقعي، لكنه في تلك الازمان السعيدة والبعيدة، كان يبدو عسير المنال أو وهماً من الأوهام. مع هذا، حين رحل بيغن في مثل هذا اليوم، قبل ثمانية اعوام، وصفه كثيرون بأنه رجل سلام. وكان في مقدم هؤلاء الاعضاء النروجيون لأكاديمية نوبل للسلام الذين منحوه جائزتهم، وبالتحديد شراكة مع انور السادات، الذي قدم للإرهابي الصهيوني أعظم هدية نالها طوال حياته. بيغن الذي مات كواحد من زعماء اسرائيل الكبار، كان على الدوام منبوذهم، لكنه كان أيضاً المتطرف الذي يستخدمونه، مباشرة او بشكل موارب، لأداء الاعمال القذرة التي يفاوضون هم لاحقاً بفضلها. ولد مناحيم بيغن العام 1913 في بريست - ليتوفسك البولندية لأب قتله الألمان. وهو منذ صباه انضم الى التنظيم الصهيوني المتطرف "بيتار" الذي كان خاضعاً لهيمنة افكار جابوتنسكي، وصار زعيماً للتنظيم مكلفاً تهريب اليهود الى فلسطين. وفي العام 1940 اعتقله السوفيات بوصفه جاسوساً للانكليز، ثم اطلق سراحه فتوجه الى فلسطين حين تزعم تنظيم الارغون الذي كان أحد مؤسسيه، كما كان واحداً من واضعي استراتيجية التنظيم التي تقوم على الاغتيال اغتيال العرب إضافة إلى الجنود والمسؤولين البريطانيين في فلسطين، وكذلك تخويف الصهاينة اليساريين والمزايدة عليهم. ونجح بيغن في ذلك كله، بحيث سرعان ما اصبح الارهابي الرقم 1 في طول فلسطين وعرضها. وسوف "يلمع" بيغن، خصوصاً حين تبين وقوفه وراء عمليتين من اكبر العمليات الارهابية في ذلك الحين: نسف فندق الملك داود، ثم مذبحة دير ياسين التي راح ضحيتها العشرات من الشيوخ والنساء والاطفال الفلسطينيين. في العام 1948 وبعد انشاء الكيان الصهيوني، وبداية النهاية للتواطؤ الضمني بين "ارهابية بيغن" و"اعتدال اليسار العمالي الصهيوني"، تحوّل بيغن الى منشق حقيقي واسس حزب "حيروت" و"تحالف ليكود" بعد ذلك، ووقف في المعارضة حتى العام 1967، حين اقتضت ظروف الحرب مع العرب تشكيل حكومة ائتلافية، فضم اليها خمسة من اعضاء كتلته، وصار لاعباً في السياسة من داخل الحكم، لا من خارجه. غير ان ذلك لم يوقف تطرفه بالطبع. وهكذا ما ان اعلنت رئيسة الحكومة غولدا مائير قبول اسرائيل مشروع روجرز 1970 حتى انسحب ومناصروه من الحكومة وعاد الى المعارضة والمزايدة، ما ادى الى زيادة شعبيته في اوساط اليهود ذوي الاصول الشرقية المعروفين عادة بتشددهم. ثم كانت حرب تشرين الأول اكتوبر 1973 وما ادت اليه من تضعضع مؤسسة الحكم التقليدية اليسار العمالي في تل أبيب، ما زاد اكثر من شعبية بيغن وتطرفه، وادى الى انتصار مفاجئ لحزبه في انتخابات العام 1977. ووصل زعيم الارغون الى رئاسة الحكومة بشكل اعتبر انقلاباً حقيقياً داخل المجتمع الاسرائيلي. والحقيقة ان حكم بيغن كان من أسوأ ما مر على اسرائيل منذ تأسيسها، لا سيما على صعيد الاوضاع الداخلية والاجتماعية ودعم السلطة للمتشددين في مواجهة العلمانيين، وكان يمكن لذلك الحكم ان يسقط بسرعة لولا اسراع الرئيس السادات الى المصالحة، ما عزز مواقع بيغن، ومكنه من أن يزداد غطرسة وتطرفاً ما أوصله لاحقاً الى غزو لبنان، مرتين، وسط ارتباك عربي كانت خطوة الرئيس السادات أثارته. لكن بيغن دفع غالياً ثمن الغزو الثاني الذي قاده صديقه وحليفه آرييل شارون وكان من بين "مآثره" مجزرة صبرا وشاتيلا، واحتلال بيروت بشكل موقت، وأجزاء واسعة من جنوبلبنان بشكل لا يزال متواصلاً حتى اليوم. وانتهى الامر ببيغن الى الابتعاد عن الحكم بعد عام من الكارثة اللبنانية، فخلفه اسحاق شامير. أما هو فانعزل مسروراً بسمعته الجديدة كرجل سلام، وحكم، وبنسيان الكثيرين لماضيه الارهابي الكئيب. الصورة: مناحيم بيغن